بشرى الغيلي/ لا ميديا -

لم يمر على مجيئها إلى الحياة سوى شهر ونصف، لتغادر «روند» إلى جوار ربها وللأبد، على يد أبٍ متوحِش فقد كل معاني الأبوة والحنان، ألقى بها أرضا ضريبة شجارٍ دار بينه وبين والدتها. تم إسعافها إلى المشفى، لكن بلا جدوى، فقوة ارتطامها بالأرض كانت أكبر من أن يحتمل جسد الملاك البريء ابنة الشهر والنصف... ليست هذه القصة آخر الأحداث، بل القصص من هذا النوع تتوالى ويتم تداولها موثقة بالصور، تتكرر على مرأى ومسمع، وصارت مباحث الأمن الجنائي تمتلئ بها يوميا، مما يجعلها ترقى لمستوى الظاهرة. البعض يلقي اللائمة على الظروف والأوضاع الاقتصادية، والبعض الآخر يصفهم بالمختلين عقليا... «لا» ناقشت ذلك مع مجموعةٍ من الأكاديميين المتخصصين، نفسياً واجتماعياً وقانونياً ودينياً، ضمن السياق التالي.

تأديب بالقتل!
"يحيى" ضحية أخرى من ضحايا الآباء، الذين مهما فقدوا السيطرة على أنفسهم فلا يصل بهم الأمر للقتل حسب تعليق البعض على الحادثة. منطقة "الرمَّاح" بشارع خولان كانت على موعدٍ مع مقتل شابٍ يبلغ من العمر 25 عاماً في وقتٍ متأخرٍ من الليل. الشهود أرجعوا الأسباب إلى اعتراض الولد لسائق باص صغير جوار المنزل ومحاولة الاعتداء عليه. يقال إن والد "يحيى" كان قد تلقى شكاوى عدة من الأهالي والمحلات التجارية القريبة من المنطقة عن ابتزاز نجله لهم ونهبهم في بعض الأحيان، لأنه كان على رأس عصابة تمارس الابتزاز على المطاعم والبقالات والمقاصف والأسواق... وكانت النتيجة تأديبه بالقتل.
عبدالفتاح (47 عاماً) استنكر هذه الحادثة معلقاً بالقول: "مها فشل الأب في تربية ابنه فهذا لا يعطيه المبرر لقتله وإنهاء حياته، وكان بإمكانه أن يضعه بالسجن حتى يعود لصوابه".

قاتل بناته الثلاث
في صبيحة الجمعة 28 يونيو 2019 كانت العاصمة صنعاء على موعدٍ مع فاجعةٍ ومجزرةٍ مروّعة ضحاياها ثلاث شقيقات، هن: ملاك (14 عاماً)، رغد (12 عاماً) ورهف (7 سنين). كُنَّ يتناولن فطورهن مع والدهن ووالدتهن. أخبرته الأم أنها ستغادر المنزل لتسكن في منزل أخيها وتأخذ نصف أثاث البيت وبناتها الثلاث. رفض طلبها، وخرجت دونهن. وبعد ساعةٍ وجد بناته الثلاث يجمعن أغراضهن للمغادرة واللحاق بالأم، فاشتاط غضباً وبدأ بأخذ البنت الصغيرة (رهف) وأغرقها في برميل ماء كبير كان في صالة المنزل، ثم قام بخنق البنت الوسطى (رغد) بيديه وأغرقها ليتأكد من موتها، بعد ذلك قام بخنق البنت الكبرى (ملاك) بيديه حتى الموت، ولاذ بالفرار. جاء ذلك في اعترافاته لمباحث أمن العاصمة بعد القبض عليه. كانت اعترافاته عكس ما تم تداوله عبر مواقع التواصل من أنه أقدم على ذلك بسبب الإيجارات المتراكمة والوضع المادي، 



فقد اعترف للأمن الجنائي بأن حالته المادية جيدة حيث تعمل زوجته "كوافيرة"، وهو يعمل معها في توفير طلبات ومشتريات عملها، ولديهم دخل مادي جيد، وليس عليه أي إيجارات متأخرة لصاحب المنزل حسب اعترافاته في التحقيق.

انتفاضة خبراء نفسيين واجتماعيين
الظاهرة منتشرة على مستوى الوطن العربي، لا في اليمن فقط، فجرائم قتل الأطفال التي انتشرت في الآونة الأخيرة والتي يتهم فيها الآباء بقتل أبنائهم دفعت عدداً من خبراء علوم النفس والاجتماع في القاهرة إلى المطالبة بما يشبه انتفاضة علاج نفسي واجتماعي لمن يرتكبون هذه الجرائم ومن على شاكلتهم، باعتبار أن هذا الفعل ضد الفطرة الإنسانية، حيث يعكس خللاً في التكوين العقلي والضمير الإنساني والطبيعة الغرائزية للآباء، وخرجوا بأنه لا بد من إعادة تشكيل جملة المشكلات الاجتماعية ودراستها دراسة منطقية، وإعادة تفعيل المراكز البحثية في هذا المجال، كون السياسة طغت على الاهتمام بالقضايا الاجتماعية.

اضطراب عقلي
د. عبدالكريم زبيبة أستاذ علم النفس بجامعة ذمار نائب رئيس الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي، تحدث لــ"لا" عن هذه الظاهرة التي انتشرت مؤخراً، مؤكداً أنها تحتاج إلى التحليل العلمي، وتفسير هذا السلوك الشاذ، ذلك أن الإقدام على قتل الأبناء هو عمل خارج عن الفطرة الطبيعية للإنسان السوي، فعلى مر التاريخ الإسلامي مرت مختلف المجتمعات العربية والإسلامية بمراحل ضيق اقتصادي وفقر، ومع ذلك لم يسجل لنا التاريخ إقدام الآباء على قتل أبنائهم خوفا من الفقر. وما يعتقده زبيبة كتفسيرٍ للظاهرة يكمن في وجود تغيرات عميقة في القيم الاجتماعية وخلل نفسي سلوكي ناتج عن الثقافات الدخيلة على المجتمع اليمني الإسلامي وتكوّن شخصية مشوهة تبرز فيها الأنانية والثقافة الاستهلاكية النهمة والمفتقرة إلى الثقة بالله سبحانه وتعالى والرضا بما قدره. ومن ناحيةٍ أخرى يرى زبيبة أن الإقدام على قتل الآخرين، وخاصة الأبناء، يعكس وجود اضطراب عقلي عند من يُقدم على ارتكاب هذه الجريمة البشعة.
وأضاف أنه في حالة الاكتئاب الشديد أو بعض حالات الفصام قد يُقدم المصاب بهذا الاضطراب على الانتحار أو إيذاء الآخرين وخاصة الزوجة أو الأبناء. وأشار إلى أنه تم رصد عدد من الحالات في الفترةِ الأخيرة من قبل الأطباء والأخصائيين النفسيين وتزايد حالات الاكتئاب النفسي، والاضطرابات الذهانية خاصة الفصام، في ظاهرة يجب أن تدرس، كما يجب أن تدرس هذه الحالات بشكل انفرادي لكل حالة عبر بحث علمي من ذوي الاختصاص، وتتولى وزارتا الداخلية والصحة العامة والسكان الإشراف عليه، للخروج بتوصيات ومقترحات تساهم في معالجة هذه الظاهرة.

انحراف عن الغريزة
الأخصائية الاجتماعية ريهام الحطام تقول "ظاهرة قتل الآباء لأبنائهم ظاهرة قديمة في المجتمعات البشرية، لها أسباب متعددة بتعدد الأزمان، أبرزها: تقديم الأبناء كقرابين للآلهة، ووأد البنات خوفاً من العار... ومع تطور المجتمعات الإنسانية استمرت هذه الظاهرة وانتشرت، لكن تحت مبررات وأسباب مختلفة نفسية بحتة لا علاقة لها بالفقر والوضع الاقتصادي والمشاكل الأسرية إطلاقاً، لأن الوالدين جُبلا على حُبّ أبنائهما كفطرة وغريزة أساسية، بل وتعد هذه العاطفة (غريزة حب الأبناء) أعمق وأصدق وأدوم العواطف الإنسانية".

مبررات غير منطقية
في جزئيةٍ أخرى تؤكد الحطام أن الأوضاع الاقتصادية والفقر وضغوطات الحياة والمشاكل الأسرية لا تعد مبررات منطقية لارتكاب هذه الجريمة، لأنه لا يمكن لإنسان سوي أن يقدم على قتل فلذة كبده مهما كانت المبررات، مضيفة أن غالبية التحليلات النفسية التي أجراها الخبراء والاستشاريون النفسيون لمرتكب هذه الجريمة تدل على أنه لا يمكن لإنسان أن يُقدم على قتل ابنه، إلا إذا أصيب بخلل نفسي، ويختلف نوع هذا الخلل من شخص لآخر. وتعدد الحطام الأسباب النفسية التي قد تجعل الأب يقتل ابنه منها: مرض نفسي يُسمى التبلُّد العاطفي، فالشخص المصاب بازدواج الشخصية شخص مصاب بالهلاوس السمعية والبصرية التي تصور له أن ابنه أو ابنته سيقتله. الشخصية السادية العدوانية والسيكوباتية التي تعرضت للعنف في الطفولة فتتحول مع مرور الوقت إلى شخصية عدوانية، مصابة بمرض الاكتئاب السوداوي. وقدمت الحطام مقترحات للحدّ من انتشار الظاهرة كأن تهتم مؤسسات الدولة بكيان الأسرة كونها المعنية بذلك، من خلال فرض برامج توعوية للأسرة من بداية الزواج، وإصدار قانون يمنع حصول الزواج إلا برخصة تُسمى "رخصة الزواج"، وهذا القانون قد طبق في إحدى الدول وكان من ضمن نتائجه أن نسبة الطلاق في هذا المجتمع تراجعت إلى 5 % فقط، والهدف من وضع قانون كهذا هو إخضاع المقبلين والمقبلات على الزواج إلى دورات وبرامج تثقيفية حول الحياة الأسرية وتربية الأبناء.

قانون الطفل
د. سعيد الشرعبي، رئيس قسم قانون المرافعات بكلية الشريعة والقانون- جامعة صنعاء، أكد أن من أسباب قتل الأبناء أو استخدام العنف ضدهم الضغوط النفسية والاجتماعية وفقدان القيم الإيمانية التي تدعو إلى التعاون والرحمة بالأبناء والآباء. ويرى الشرعبي أن القانون موجود، لكنه لا يمنع من وجود الجريمة، فهناك الآية القرآنية التي تقول: «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق» والآية الثانية: «ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم»، وهناك "قانون الطفل" في اليمن، وكثيراً ما نسمع عن قتل الأب لابنه أو قتل الابن لأبيه، وكل ذلك يرجع إلى مرض نفسي اجتماعي والابتعاد عن الإسلام والقيم الدينية الحقيقية والتربية الحقيقية.
برغم التباينات والاختلافات بين الآراء حول هذا الموضوع، فهناك من قال إن الظروف الاقتصادية لا علاقة لها بقتل الآباء لأبنائهم، بينما آخرون قالوا العكس... وأيا كانت الأسباب فالدين الإسلامي نهى عن قتل النفس وإزهاق الروح، فكيف بفلذة الكبد الذي لا سند له في الدنيا سوى من كان سبب وجوده في الحياة. وتبقى الجزئية الأهم هي ما أشار إليه المختصون النفسيون والاجتماعيون من أن الجهات المختصة يقع عليها الجزء الأكبر من مسؤولية بحث الظاهرة وإيجاد الحلول لها عبر المراكز البحثية التي تعنى بالأسرة عبر برامج توعوية خاصة بالمقبلين على تأسيس أسرة جديدة.