ترجمة خاصة لا ميديا / زينب صلاح الدين -


سوزان كولبل
في زيارتي للأمير بندر بن سلطان في يناير 2018 في قصره في الرياض، حيث كان يجلس على كرسي ذي ذراعين لونهما رملي، يدخن سيجاراً بعرض غصن الشجر، بدا وجه الأمير بندر عريضاً وله غينان بنيتان متألقتان، ويداه الداكنتان تبرزان مع الثوب الأبيض الذي يرتديه مع حذاء، ويبقي على لحيته القصيرة حتى وقد أصبح لونها رمادياً ولا تزال تشكل بالنسبة له نوعاً ما كعلامة تجارية. 
كان بندر ينظر بتمعن في شاشتين حجم كل منهما يصل إلى أكثر من 10 أقدام مربعة. إحداهما تعرض قناة (سي إن إن) بينما تعرض الأخرى عشرات القنوات العالمية في آن واحد، تبث من موسكو وواشنطن وبيروت وطرابلس... هذا هو عالم بندر، وكثيراً ما يسافر هو بنفسه إلى أحد الأماكن المعروضة على الشاشات. 
وبطريقة أو بأخرى شارك الأمير في أغلب الأزمات الدولية خلال العقود الأربعة الماضية، وربما في الأزمات كلها. وإذا كان لدى شخص ما إجابة على أسئلتي: كيف انتهت الحرب الباردة؟ وكيف وصل التطرف إلى أفغانستان؟ لماذا احتل الأمريكان العراق وكسب الرئيس بشار الأسد الحرب؟ فهذا هو المحارب القديم في الخطوط الأمامية الدبلوماسية: الأمير بندر بن سلطان. 
وقد حصلت على مساعدة رجل أعمال صديق له في التحضير للمقابلة. 
في الساعة الثانية مساءً أخذني السائق من شقتي في وسط مدينة الرياض على متن سيارة ليموزين سوداء. استغرقت الرحلة إلى قصر بندر -الواقع خارج الرياض- 30 دقيقة. وفي نهاية جدار طويل انفتحت بوابات خضراء ضخمة وتحركت السيارة بسهولة في الأرض. إنها مساحة واسعة. والقصر عبارة عن متاهة من الممرات الرخامية المزخرفة بالفسيفساء والأبواب الخشبية المصنوعة يدوياً والنوافير والمصابيح والزهور وأوراق النباتات. 
في الوقت الذي التقينا فيه في الرياض، كان الأمير بندر عمره 68 سنة، وقد قضى 22 من هذه الأعوام في العمل كسفير السعودية لدى الولايات المتحدة، حتى جاء العام 2014 وترأس بندر جهاز المخابرات السعودية، قبل أن يتولى قيادة مجلس الأمن القومي. قدم أسلحة للمتمردين في جنوب أمريكا وفي آسيا الوسطى ومؤخراً في سوريا. وقام بالعمل نيابة عن الملك وأشرف على بعض أهم صفقات السلاح في تاريخ بلده. وانتهى الأمر بالتفاوض على تسوية سلمية للتمرد الذي حرض عليه هو بنفسه. 

زواج غير متكافئ
تحدثنا لأربع ساعات، غمضة عين في هذه الحياة لالتقاط الأنفاس. وفي نهاية المطاف أصبح عندي فهم أفضل للكيفية التي مكنت الأمير بندر من وضع هذين النظامين (واحد في الرياض والآخر في واشنطن) وهما متناقضان جداً، وبشكل أساسي غير قابلين للتوافق، في نوع من السحر المتبادل الدائم. تماماً كما لا يختلف الزوجان اليافعان حين يتمنى في الواقع كلّ منهما لو كان لديه شريك مختلف لكنهما يتظاهران بأنهما في حالة من الحب ويكسب كلاهما مهراً باهظاً يرتفع مع مرور الوقت مع نمو العلاقة. 
تنطبق هذه الصورة للزوجين غير المتكافئين على الأقل على الوقت الذي أمضاه بندر في واشنطن، حيث استسلم رئيس تلو الآخر لخطابه. حتى بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة، وحتى بعد أن أصبح من الواضح أن 15 شخصاً من المهاجمين الـ19 قدموا من السعودية، تمكن بندر -الذي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة- من إعطاء الانطباع بأن بلاده كانت على الجانب نفسه في الخطوط الأمامية كأمريكا. 
قال بندر: "لطالما أسديت المعروف للأمريكان قدر استطاعتي عندما لم أكن بحاجة لهم، لذا فهم يدينون لي برد الجميل في الوقت الذي احتجت إليهم بالفعل". وأطلق الدبلوماسي غيوماً كثيفة من الدخان من السيجار الكوبي في الهواء بينما كان يشرح لي استراتيجيته للنجاح. 
يصفه الأشخاص الذين صادفوا رؤيته بالشخصية المبهرة. يقولون إنه يقظ وطيب ومخلص ومرح لكن أيضاً ذكي. ويقولون إنه يمارس عمله بسحر وشغف، وأنه مفاوض متألق. وعندما تتعلق المسألة بالمال وهذا يحدث في أغلب تعاملات بندر، يقولون إن شيكاته لا تعود أبداً. 
ولكن قيل أيضاً إنه ماكر خطير، يمكن أن يشكل مصدراً مهدداً وعنيفاً وحتى هداماً عند تلبية احتياجات سيده. فهذه صورة مميزة عنه يمكن أن يكون راضياً عنها. 

منطقة رمادية
لقد قضيت تقريباً 20 عاماً وأنا أكتب عن الأزمات والحروب في العالم. وقد أخذني عملي إلى البلقان وآسيا الوسطى وأفريقيا والشرق الأوسط. وأولئك الذين ينشرون التقارير عن الجماعات الإسلامية المقاتلة في تلك الأماكن سوف يتعثرون بالمؤشرات التي تقول إن "السعوديين" قدموا التمويلات وأرسلوا الأسلحة وشروا ولاءات "السياسيين". لكن لاعبي الظل من الخليج لم يبرزوا للعامة. ومبعوثون كالأمير بندر ليسوا ملزمين بأي برلمان، فهم يفيدون الملك فقط في الرياض بتقاريرهم، وبالتالي يعملون في منطقة رمادية ما بين الديمقراطية والمخابراتية، بعيداً عن أي بروتوكول وعن رادار الوعي العالمي. لكن أموالهم واتصالاتهم ومصالحهم تهب في كل مكان. 
حتى أن في أطروحته للماجستير حول العلاقات الدولية في جامعة جونز هوكبينز في واشنطن العاصمة، أوضح بندر توافقه مع أفكار فيلسوف الحكومة الإيطالية نيكولو ماكيافيللي التي تنص على أنه لا ينبغي إجبار الجهات الفاعلة على أن تضع حساباً للتكلفة الأخلاقية للإجراءات والأعمال التي تعود بنفع مشترك. يمكن أن يقول أحدهم أيضاً إن الخير والشر غير موجودين في ذهنية بندر، بل المهمة فحسب. 

قوة حامية
كانت مهمة الأمير بندر واضحة نوعاً ما عندما أرسل الملك فهد الطيار الحربي السابق إلى واشنطن كمبعوثه الخاص في 1983. وكان الهدف من ذلك كسب الأمريكان كقوة حامية يعتمد عليها للمملكة ولتوطيد هذا التحالف بشكل عميق. 
قيل إن عمه الملك فهد قال له: "أمريكا هي أهم حليف لنا، كما أنها تشكل أعظم تهديد لنا". 
فسألت: "لماذا تهديد؟!". أجابني بندر: "لأنه لا يمكنك الوثوق بهم حقاً ومن المحتمل جداً أن يهاجموك في الغد مثل صدام حسين". أي شخص يأمل أن يتعلم كيف تدار السياسة العالمية في الشرق الأوسط سوف يجد في الأمير بندر بن سلطان معلماً جيداً. 
أصبحت السعودية دولة غنية في السبعينيات، إلا أنها بقيت دولة هشة. حتى مع وجود ترسانة الأسلحة السعودية الضخمة التي تتألف من أحدث التقنيات الغربية فإنه لا يمكن للجيش الملكي تجنب هجوم كبير. وبدون دعم الأمريكان يصبح الجيش عديم الفائدة. عندما تقلع مقاتلة سعودية من طراز (إف 15) من قاعدة الملك خالد الجوية في جنوب غرب السعودية لتنفيذ طلعة جوية في سماء اليمن تأتي المقاتلة الجوية والقنابل من الولايات المتحدة، حيث يحافظ الميكانيكيون الأمريكيون على المقاتلة النفاثة ويقومون بعمل إصلاحات ومعالجات لها على الأرض. ويقوم التقنيون الأمريكيون أيضاً بتحديث نظام الاستهداف والتقنيات الأخرى التي لا يسمح للسعوديين حتى بلمسها. ومما لا شك فيه أن الطيار الذي يقود النفاثة قد تدرب أيضاً على يد القوات الجوية الأمريكية. 
يمكن للمملكة السعودية أن تستمر بالشعور بالأمان فقط طالما أن أكبر قوة عسكرية مستمرة في دعم نظامها. والغراء الذي يثبت هذه العلاقة غير المتكافئة هو الاعتماد المتبادل: تجارة النفط الرخيص مقابل الأسلحة والحماية العسكرية. وغنى السعودية بالنفط هو السبب الرئيسي لإمكانية قيادة السيارات وتشغيل الآلات والإبقاء على المنازل دافئة في الشتاء في الغرب. في المقابل تستمتع الرياض بالتحالف الأمني مع الولايات المتحدة. 

الاعتماد المتناقص
لكن الوقود المخزن كالنفط بدأ يخسر أهميته بشكل سريع. فسياسة البحث عن بديل للطاقة وتخزين النفط قد جعلت الولايات المتحدة أقل اعتماداً على إنتاج النفط الأجنبي، حيث إن سعر النفط مستمر في الانخفاض. 
إذن، صحيح أن الرابط الذي جمع كلتا القوتين معاً خلال عقود لا يزال موجوداً، إلا أنه لم يعد قوياً كما كان عليه في السابق. فجأة أصبح من الأصعب بكثير رؤية التناقضات في العلاقة الماضية، على الرغم من أنها كانت متواجدة لبعض الوقت. في الأثناء، يطرح العديد في واشنطن ولندن وباريس وبرلين سؤالاً مهماً للغاية: هل ما زالت هذه الشراكة منطقية؟

19/6/2019ً 
المقال مقتبس من كتاب سوزان كولبل الصادر حديثاً عن أسبوعية «دير شبيجل أونلاين» الألمانية