حاوره/ أحمد عطاء / لا ميديا

الشعر هو النظرة العميقة لمحتوى الأشياء، واقتناص الصور الشاردة
 في محيطات الوجود، وفلسفة رفيعة تتراقص نغما وشجنا على القارئ أو المستمع.. الشاعر أيوب الحشاش شاعر متفرد متصوف عاشق للوجدان والخضرة والغيم، شاعر متوسد لعالم مختلف، لا يشبهه أحد غيره، يكتب بفلسفة الكبار، ويرى الكون من زاوية مختلفة ويغزل قصائده بروح صافية نقية. . يتمتع بسلاسة عذبة في نصوصه تجعلك لا تمل قراءتها. شاعر أثبت أن أرباب اللغة هم التهاميون ذوو البشرة السمراء والبلاغة الزبيدية المعجونة بتراث الفقيه أحمد بن موسى بن عجيل. . خلق وفرض له مكاناً بين الشعراء الكبار فكان أهلاً لذلك، ولم يخن لغته الأم وكتب القصيدة بشغف وحب ونسج خيالا واسعا من الدهشة.


دهشة النص
منذ متى ابتدأ مشوارك الشعري؟
الاعتمالات الأولى للشعر كانت في وقت مبكر للغاية، قبل أن أبلغ العاشرة من العمر؛ انجذاب، للقصيدة، دهشة بالنص كلما وجدته في مقررات اللغة العربية للمراحل الأعلى دراسياً. لم أكن أستوعب شيئاً مما أقرؤه، لكن سحرا غامضا كان يذهلني وأنا أطالع تلك القصائد. أسماء الشعراء كانت تبدو غامضة كلغز ومبهمة كأحجية. الفرزدق، المقنع الكندي، الشنفرى، ذو الرمة... وشعراء آخرون. شعرت أن من يكتبون هذا الكلام الجميل الغامض ويحملون تسميات كهذه لا بد أنهم كائنات مميزة قادمة من عوالم أسطورية. كان أحد أخوالي متذوقاً للشعر ويحفظ بعضا منه، وكان كلما زارنا للمنزل أستقبله بإلقاء قصائد كثيرة من ديوان الزير المهلهل ودواوين أخرى. كان يهلل لإلقائي المتحمس ولبعض الأبيات المكسرة الوزن في أغلبها مما كنت بدأت في كتابته. وأذكر أنه زارنا بعدها بعد غياب أعوام فوجدني قد أنجزت ديوانا شعريا وكنت حينها دلفت في الخامسة عشرة وصيتي قد ذاع في المدرسة. 

نافذة على الزمن الجميل
 كيف استطعت أن تقوي روحك الشاعرية ووصلت إلى هذا المستوى؟
الشعر نافذتي الوحيدة في ذلك الزمن الجميل والكالح، وربما لازال كذلك. لم أفقد إيماني حتى اللحظة بالشعر رغم متاعبه الكبيرة. انشغالي بالهجس طوال عقدين من الزمن كانت له آثار إيجابية في تقوية الموهبة وصقلها وكتابة أربعة دواوين لم ير أي واحد منها النور حتى الآن. الشعر يحتاج إلى انشغال وتفرغ، ومياهه الجوفية بحاجة إلى استخراج متواصل وحفر أزلي لينابيعها حتى لا تطمر وتدفن. هذه الصيرورة مكلفة على الشاعر ومع ذلك لا ينفك الشعراء أسرى لهذا الخدر اللعين. 

دمشق وطن الشعر والفن
لك تجربتك الدمشقية الخاصة  ما الذي أضافته لك دمشق؟
لم أكتب طوال إقامتي في دمشق سوى بضع قصائد. الكتابة أتت لاحقا بعد مغادرتي لهذه المدينة العظيمة والعودة للديار. دمشق كانت محطة للاطلاع وتحديث الذاكرة، فيها تتصادم التيارات الأدبية ببعضها ويتثاقف الأدب العربي مع الكردي والفارسي والأرمني. مدينة تعشق الشعر والسرد وتقدم السرد على الشعر. بها تشعر كأن أبوللو ترك قاعته المميزة في جبل الأولمب وغادرها إلى قاسيون رفقة أوفروديت الجميلة، وبمحبة كبيرة ألقى أبوللو على الدمشقيين شغفا لا يموت للأدب والفنون، وألقت فينوس قبسا من جمالها على الصبايا الدمشقيات، فأصبحت دمشق وطنا للشعر والفنون وبستانا مزهراً بآلاف الجميلات.

ديوان مثخن بالأخطاء
 حدثنا عن ديوانك (أول الفجر)!
ديوان (أول الفجر) هو مجموعة قصائد كنت بدأت في صفها على كمبيوتر منتدى العمري، حيث أشار عليَّ أستاذنا العظيم عبدالله خادم العمري أن أحفظها بمجلد في كمبيوتر المنتدى، حيث كان يخطط لبعض الإصدارات الشعرية. كان مجرد مسودة أولية منحتها اسم (أول الفجر)، لكن كنت أنوي إضافة نصوص ومراجعتها من الأخطاء المطبعية الكثيرة، حيث كانت أول تجربة لي للكتابة على الكمبيوتر. بعدها سافرت إلى دمشق قبيل انطلاق صنعاء عاصمة للثقافة العربية، وحينها أعلنت وزارة الثقافة مشروعاً لطباعة دواوين الشعراء، فما كان من أستاذنا الكبير إلا أن تقدم للوزارة بعدد من الإصدارات التي كان المنتدى ينوي إخراجها لتطبع عن طريق الوزارة. ظن الأستاذ العمري أن ما وجده لي في كمبيوتر المنتدى هو ديوان جاهز ومعد، فتقدم به للوزارة كما تركته أنا مسودة أولية لم تحظ بأي مراجعة والعجيب أن لجنة المراجعة التي كانت مشكلة في الوزارة لمراجعة النصوص لم تراجع أي شيء وأرسلته إلى بيروت ليعود من بيروت ديوانا فاخر الطبع بغلاف أصفر جميل، لكن بصفحات مثخنة بالأخطاء الطباعية!

بورصة الشعر
 برأيك من هو الشاعر الأبرز على الساحة اليمنية حالياً؟ 
هنالك عدد لا بأس به من الشعراء والشاعرات. المشهد الشعري أشبه ببورصة أو بماراثون، ترتفع أسهم هنا وتنخفض هنا، يتقدم لاعب ويتأخر لاعب. أنا لا أحكم على الشاعر من تألقه في فترة ما، أو من جمال قصيدة أو قصيدتين، إنما من خلال التجربة الشعرية ككل. هنالك شعراء رغم كونهم بارزين فإني لا أجد لديهم ما أريده من الشعر. 

 ماذا يعني لك الشعر؟
الشعر هو الجمال والضوء والعشق، أن تكون إنساناً، أن يزهر الياسمين في كلماتك، أن تدور مثل المولوي منتشياً بحضرة الهطول، أن تطوق الحزن في أعين الجميلات. كل ماعدا ذلك لا علاقة له بالشعر. 

اكتمال النص
 متى تشعر أن النص أصبح مكتملاً؟
كما يهطل المطر بزخات متتابعة في ليلة خريفية يتساقط الهاجس فتخضر المعاني وتورق الكلمات، يتتابع مطر الإلهام حتى تصل إلى لحظة يسح فيها ماء الهجس لترى نصك مكتملا. حينما ينبجس مطلع القصيدة بطقس الكتابة أقول ما الذي ستثمره المخيلة من قصيدة. كل بيت بالنسبة للشاعر هو لحظة ولادة إبداعية من مخاض الوجود. من يكتب الشعر بطريقة تخلو من هذه الاعتمالات العنيفة على الروح والجسد فليس له صلة بالشعر. 

صراع لأجل البقاء
 ما رأيك في الواقع الأدبي حالياً؟
الواقع الأدبي في بلادنا يصارع لأجل البقاء. الخسارة حين تطال المجتمع لا تستثني شيئاً. المشهد الثقافي تضرر كثيرا بفعل الحرب وحالة الصراع التي نعيشها منذ سنوات. الفعاليات الشعرية التي تنظم الآن لقراءات إبداعية خالصة بعيدا عن هزج الصراع نادرة جداً. الجديد من الإصدارات الثقافية لم يعد يصل. واحتكاك المبدع اليمني بالخارج أصبح نادراً في ظل إغلاق المطارات، ولم يعد يصل إلينا المثقفون العرب والأجانب. أمور كثيرة تخنق الإبداع والمبدعين. 

 كيف تقرأ المستوى الشعري لدى الشعراء حاليا؟
لا بأس به. لو أننا في غير زمن الإنترنت وما يمده من جسور عبر تطبيقاته لحدث تراجع كبير وعاد المشهد الشعري للخلف، ولرأينا تجريفاً وتصحراً لما نما من أشجار الحداثة. مع ذلك يظل هنالك من شب عن الطوق ويستطيع أن يجترح القصيدة حتى لو عزل في أرض هاديس السفلى. وهنالك شعراء صقلت الحرب موهبتهم. وهنالك من فر من مرارة ما نعيشه إلى الرومانسية. لذلك سيبقى الشعراء يصارعون حتى الحرف الأخير من سفر المعاناة. 

اختبار ذاتي
  هل تكتب القصيدة العامية؟
كتبتها عدة مرات كاختبار لنفسي إذا ما كنت أستطيع كتابتها أم لا. قال بعض أصدقائي من الشعراء الشعبيين إنها كانت كتابة واعدة وتمنوا ألا أستمر في حث الخطى إلى دروب القصيدة الشعبية كما هو حال أصحاب أي مهنة في تقبل أي وافد جديد. لكن من يدري؟! قد أعاود من حيث توقفت ذات يوم!

 من أين اكتسبت قاموسك الثـري بكل هذه الغزارة؟
كما يجني صاحب المال فوائد في حسابه من وديعة بنكية تراكمية، يجمع الشاعر قاموسه من كل ما أودعه في ذهنه من تأمل واطلاع ومثاقفة واستبصار وخبرة بالنص وخفاياه. 

تواجد نادر
 ما الفرق بين الوزبة التهامية والزامل؟ وهل ستكتب زاملاً في يوم ما؟
الوزبة نمط أو لنقل بحر شعري ينتمي للبحور المعروفة ومنبثق عنها، له استهلالاته المعروفة بزيب هب، أو وزيب قر، وغيرها. الوزبة تعويذة التهاميين، من خلالها يتم التعبير عن كل ما ينتاب المرء من مشاعر الغضب والفرح. بالنسبة للزامل فهو تراث المناطق المرتفعة، وهو يؤدي بالنسبة للمناطق التي يسود فيها ما تؤديه الوزبة لدى الرمليين. حتى الآن لم أكتب إلا وزبة واحدة. أنا نادر التواجد فيما يخص الشعر الشعبي التهامي. 

 ما هو النص الذي كتبته وندمت؟ 
لا يوجد نص شعري كتبته وندمت عليه. نصوص المناسبات الاجتماعية والمجاملات لا تعتبر شعراً، وإن بدت كذلك. أحياناً يجد الشاعر نفسه مقحما بكتابة شعرية لا يمنحها رضاه. 

الحياة موقف صعب
 ما هو أصعب موقف حصل لك؟
ليس موقفاً صعباً واحداً، عشرات المواقف الصعبة مررت بها، هذه طبيعة الحياة التي نكابدها. ربما في البلاد المزدهرة تقل المواقف الصعبة ويستطيع المرء تذكر موقف أو موقفين وهو يتمتم: يا إلهي! أما نحن تجاوزنا حاجز المواقف الصعبة، وأصبحت حياتنا بأسرها موقفاً صعبا في حد ذاتها. 

وطن النخيل
 تهامة.. ما الذي تعنيه لك؟ وأين موقعها من قصائدك؟
تهامة هي الوطن المطرز بالكثبان والنخيل. تهامة القمر الوسيم مطلاً على الخبوت. رمال كالحة إلا من بعض التعاريج والضبر والسيول المقاومة للعطش. وديان خصبة لكأنها قطعة أخذت من الحسكة السورية. جمال وخرفان وماعز يسرح بطول الأودية. نساء عكيات يحملن الطعام للماشية منذ العصر الطوطمي. فالعباسي والمغرس حين ينشر عبيره الصباحي فتطل حتى الوحوش من عرائنها تحت تأثير هذا العبق الخرافي. تهامة الحقفة الأثيرة من بين القرابين الإلهية إلى عيون الثعبان الطوطم المأخوذ بمحاكاته إرضاء له. تهامة الموانئ العشرة. تهامة بحر القلزم. فكيف تكوّن بها هذا الكنتون الكبير من الفقر؟! ومن أنشأ هذا الحزام الكبير من البؤس؟!

 لماذا غاب الكثير من شعراء تهامة في هذا الوقت الحساس جدا؟
لم يغب شعراء تهامة، بل نالهم التهميش والإقصاء فيما مضى. أما الآن فقد ازدادت صعوبة الحياة وتوفير لقمة العيش، وكل هذا يقضم من وقت الشاعر ويدفع به إلى الانطواء عن المشهد الإبداعي المحدود. 

  إلى أين يتجه مصير المبدعين؟
يتجه مصير المبدعين إلى مآلات سوريالية ما لم تكن هناك مبادرات جريئة لتخفيف قتامة الوضع الذي يعيشهونه.


  ما هو أملك اليوم؟
أملي أن تنتهي الحرب ويعم السلام سائر الأرجاء. 

 كلمة أخيرة تود قولها؟
أشكرك صديقي الرائع، وشكراً لصحيفة (لا) الجميلة، وجميع طاقم التحرير على هذه المقابلة، وأتمنى لكم التوفيق.