ماذا بعد..؟ فيلتمان يكشف سر اللعبة
 

غالب قنديل

غالب قنديل - كاتب لبناني -

تتهاوى تباعا أقنعة كثيرة لتتكشف في ثنايا اليوميات الملتبسة والحافلة بالاحتقان والتوتر حقيقة التناقض الرئيسي الذي يحيط بالوضع اللبناني، بما يتخطى تقنيات تنظيم المحاسبة العامة ومحاربة الفساد الذي يتردد شعارا في بيانات جميع الأحزاب اللبنانية، بل وفي بيانات حكومات غربية خبرناها معادية للبنان وشريكة رئيسية في جميع حروب العدوان الصهيوني، وهي الحكومات التي حجبت عن لبنان وجيشه أي سلاح أو قدرة دفاعية تعتبرها "تل أبيب" تهديدا لقدرتها على استهداف اللبنانيين وتهديد اقتصادهم ووجودهم.
أولا: كشفت كلمة السفير السابق جيفري فيلتمان أمام الكونغرس كثيرا من الأوراق والعناوين وأظهرت بوضوح وجود خطة أمريكية للتحكم بدفة الحراك الشعبي ورسم أهداف سياسية لثورة الغضب، حددها فيلتمان بتخيير اللبنانيين بين التمسك بالمقاومة مع استمرار العقوبات والضغوط المالية والاقتصادية التي سببت اختناقا ماليا واقتصاديا وفاقمت البطالة والهجرة، أو الرضوخ للضغوط والتنكر للمقاومة ولدورها كقوة حامية للوجود اللبناني ضد التهديد الصهيوني والتكفيري المدعوم أمريكيا، مقابل وعد أمريكي بتسهيل إعادة ضخ الأموال الغربية والخليجية في القطاع المصرفي اللبناني. والتعبير الواضح عن التقاط الفرصة التي عرضها المسؤول الأمريكي هو محاصرة وتحجيم جميع أصدقاء المقاومة وحلفائها في الحكومة الجديدة.
بات الموقف من هذا الهدف الذي جاهر به فيلتمان هو السؤال المطروح فعليا على جميع اللبنانيين بدون أي استثناء، وقد باتوا مدعوين صراحة للاختيار بين الخضوع للعبودية المؤبدة للهيمنة الأمريكية الصهيونية وبين خيار المقاومة والتحرر.
ثانياً: الهدف السياسي الأمريكي المباشر الذي رسمه فيلتمان هو التقاط الظرف السياسي الراهن لتحجيم دور ومكانة حلفاء المقاومة داخل معادلة القرار اللبناني؛ مما يدل بوضوح إلى المصدر الفعلي لمواصفات عديدة روجت عن الحكومة المطلوب تشكيلها بعد الانتفاضة الشعبية وبدت مسبقة الصنع وحيث يعتبر الأمريكيون أن حلفاء المقاومة ضمنوا لها التغطية الدستورية والسياسية في قلب المؤسسات ووفروا لها الظرف المناسب لتعظيم قدراتها التي تقلق واشنطن و"تل أبيب" كما يقول فيلتمان صراحة. وفي هذا التصريح عبرة لمن استدرجتهم حمى الشعارات وضجيج الطناجر إلى السير في ركاب استهداف رموز خيار التمسك بالمقاومة في معادلة السلطة والمؤسسات، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري.
الخيار الذي تقترحه واشنطن على اللبنانيين للتعامل مع الأزمة الراهنة طرحه بالتزامن قادة أمريكيون تحركوا في الكونغرس وخاطبوا أمين عام الأمم المتحدة لتحريك رزمة القرارت الدولية الصادرة منذ العام 2005، لتكييفها وتأويلها بهدف تحريك عملية غزو أمريكية غربية تحت راية أممية لنزع سلاح المقاومة، وغاية ذلك هي التهويل السياسي لتطويع المواقف اللبنانية.
ثالثا: إن هذا الفصل من الصراع يستدعي التمسك باليقظة الشعبية التي دعا إليها قائد المقاومة منذ البداية؛ وهو ما يتخطى حدود الصبر العظيم الذي مارسه جمهور المقاومة وحلفائها وعطل به محاولات استدراجه إلى صدامات دموية لإشعال فتيل الفتن وتحويل الانتفاضة الشعبية إلى وعاء لتفعيل عناصر الفوضى المتدحرجة والصدام الأهلي، وهو ما توخاه خاطفو الهبة العفوية قبل نداء السيد نصر الله إلى جمهور المقاومة وأنصارها بالخروج من الساحات إثر استهدافهم باستفزازات منظمة وغير بريئة في الأيام الأولى للانتفاضة. وقد برهنت الأحداث على صحة ما حذر منه السيد نصر الله من أخطار تحيط بالحراك الشعبي في الساحات، ومن محاولات ركوب وخطف مشبوهة توجه جيفري فيلتمان بلائحة الشروط التي أدلى بها أمام الكونغرس.
رابعا: انطلاقا من انكشاف الخطة الأمريكية المعلنة، يتحول الكباش السياسي المحلي حول تركيبة الحكومة الجديدة إلى صراع حول هوية لبنان وموقعه من الصراع الدائر في المنطقة بين محور المقاومة والاستقلال ومحور الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية، وهو صراع بين خيارين لبنانيين هما: خيار حماية لبنان والتمسك بقوة الدفاع والحماية الوجودية، وخيار الخضوع للهيمنة الأمريكية ولإملاءاتها والتفريط بالسيادة والاستقلال وإباحة البلد للمزيد من التبعية والنهب تحت ستار الإنقاذ المالي والاقتصادي.
إن الكارثة المحدقة بلبنان هي حصيلة نموذج قام منذ التسعينيات واستمر تحت الهيمنة الأمريكية الغربية وحروبها الصهيونية والتكفيرية ومع العقوبات الشريكة في توليد عوامل الانهيار، وتلك الهيمنة هي راعية ما تراكم من هدر وفساد وسحق للقطاعات المنتجة وتخريب لموارد الثروة،  وجميعها صفات تلازم نماذج الحكم التابعة للهيمنة الأمريكية في العالم الثالث وفي منطقتنا وهي جوهر وصفات البنك الدولي وبيوت الخبرة الغربية؛ وهل يلتفت منظرو الثورة ويساريو الحراك إلى أن خصخصة الأصول العامة ومرافق الكهرباء والهاتف وردت بالتفصيل في كلمة فيلتمان؟! ألا يشي ذلك بتحضير وليمة نهب دولية محلية ضخمة تحت ستار انتشال لبنان من الانهيار؟!
خامسا: المطلوب في مجابهة المخطط الاستعماري تأكيد الثقة بالمقاومة وقيادتها وبمصداقية هذه القيادة التي قدمت تضحيات كثيرة دفاعا عن وجود لبنان وعن سيادته ولحماية السلم الأهلي والوحدة الوطنية. وتستدعي التحديات المستجدة نقاشا صريحا ومعمقا في صفوف جميع الوطنيين اللبنانيين، بمن فيهم من أربكهم انفجار الغضب الشعبي أو أغرتهم الساحات بفرص تعظيم الحضور فنزلوا إليها وانساقوا أحيانا خلف توهمات جارفة أو تورطوا في شعارات ملتبسة دون تبصر. ولا بد من مراجعة نقدية شاملة للمرحلة السابقة؛ فالمعركة القادمة هي الأصعب والأهم لأنها معركة تحرر من الهيمنة الأمريكية ونموذجها الاقتصادي السياسي الاجتماعي الكسيح مولد الأزمات والمظالم وبؤرة الفساد والتلوث، وينبغي التحضر لخوضها بجبهة شعبية للدفاع عن الوطن وللتمسك بالمقاومة وسلاحها وللتخلص من الهيمنة الاستعمارية ونموذجها الريعي التابع والمدمر، وهي دعوة كنا وجهناها سابقا لمجابهة العقوبات الأمريكية ولو لقيت التجاوب المنشود، لكنا ربما لاقينا اندلاع الانتفاضة بجاهزية سياسية وتنظيمية تسمح بتعديل الكثير من المسارات.
 هذا الفصل من معركة التحرر الوطني لن يكون سهلا ولا عابرا، بل إنه سيطول أمام شراسة الحلف الاستعماري الصهيوني؛ وهو يتطلب صبرا وصمودا ونفسا طويلا ووعيا، كما كانت بالتمام معركة مقاومة الاحتلال وتحرير الأرض. إنها معركة الاستقلال الحقيقي وإعادة البناء الوطني والتوجه شرقا لتخطي الأزمات الخانقة التي أغرقت اقتصاد بلادنا ودمرت فرص التنمية الحقيقية.

(*) كاتب لبناني

أترك تعليقاً

التعليقات