إيهاب شوقي

إيهاب شوقي -

المتابع لكثير من النخب العربية وموقفها من تطورات التظاهرات اللبنانية وانعكاسات ذلك على موقفها من المقاومة، يلمح تطورات لافتة في طريقة التعاطي والتقييم، وهو ما يتطلب وقفة تحليلية، كما يتطلب بالأساس وقفة توعوية لكثير من هذه النخب، والتي ثبت أن كثيراً منها بحاجة إلى توعية، رغم أن مهمتهم بالأساس هي توعية الجماهير!
ولا بد من القول إن هناك نخباً تفهمت جيداً موقف المقاومة ووضعت ثقتها بها، وهناك نخب مرتزقة ومعادية للمقاومة وصنعت خصيصاً على أيدي أجهزة الاستخبارات الدولية، كما أن هناك البعض يتم تجنيده، وهناك أيضاً نوع من تأجير منابر البعض وهو عمل بنظام القطعة، حيث يتم عبر تمويل مؤقت لشراء موقف مؤقت، لاستغلال هذا الموقف ضمن حملة استخباراتية شاملة.
وهذه النماذج المرتزقة والكارهة من النخب ليست المعنية بهذا المقال، لأنه لا توجد فائدة من مخاطبتها، فهي تعرف ما تفعل جيداً ولن يجدي معها حوار أو نقاش، والواجب تجاهها فقط هو كشفها للجماهير.
أما المعنيون هنا هم نخب وطنية، منها ما هو مخالف للمقاومة في بعض الرؤى والتوجهات السياسية، ومنها من هو على تماس كبير وتقاطعات ليست هينة، ولكن يجمعها بالمقاومة الاستقلال الوطني والعداء للكيان الصهيوني، وكثير منها أبدى مواقف داعمة للمقاومة.
لذلك، ولقطع الطريق على أعداء الأمة للوقيعة بين المقاومة وهذه النخب، فمن الواجب توضيح بعض الأمور لهذه النخب والتي ارتكبت أخطاء كبيرة بتوجيه انتقادات حادة للمقاومة، نرى أنها في غير محلها، وأن الأولى باللوم هو هذه النخب بسبب طريقة تعاطيها ومنهج تحليلها والذي افتقد الموضوعية، وقادها للاصطفاف الخاطئ.
والهدف هنا ليس المحاكمة وإطلاق اتهامات أو بيان من هو المخطئ والمصيب، ولا حتى الغرض هو الجدال، وإنما الغرض الرئيسي هو إزالة الالتباسات وسوء الفهم لعودة الوئام بين هذه التيارات وبين المقاومة، في وقت انحرفت به بوصلة الأمة وأصبح القابضون على جمر الثوابت قليلين، ولا يوجد أي مبرر للتفريق بينهم وشق صفوفهم، وبالتالي فإن الغرض هو إعادة التأكيد على بعض المفاهيم والمواقف وإقامة الحجة بهدف لم الشمل.
وقبل هذا الإجراء الخاص بضبط المفاهيم وتوضيح المواقف، يجدر رصد بعض المواقف الصادرة والتي دعت لهذا الحديث:
أولاً: هناك نخب أبدت ما بدا أنه دعم مشروط للمقاومة، حيث رهنت تضامنها مع المقاومة بموقف المقاومة من الحراك ومن القضايا الداخلية، وهنا، وبصرف النظر عن موقف المقاومة، خلط كبير بين مناصرة المقاومة كقضية وطنية قومية من واجب كل حر ومدع للاستقلال ومناهضة الاستعمار مناصرتها، وبين السياسة التي تحتمل الرؤى والاختلاف والتباين.
ثانياً: هناك قوى سارعت بتبني الشائعات الصادرة من منابر سعودية ومنابر لبنانية معلوم انتماؤها وارتباطاتها بالفساد وبالخارج، فسارعت إلى إصدار مواقف متعجلة دون أي تروٍ أو تحرٍ أو استماع للمقاومة، وهو ما بدا أنه كان تحفزاً وترصداً وانتظاراً لخطأ!
ثالثا: هناك قوى أمعنت في التجني على المقاومة بدعوى عدم التقديس وبدعوى الموضوعية، وكأن المقاومة طلبت التقديس أو ادعت العصمة، بينما كل ما تطلبه هو العدل وتحري الدقة والفهم الصائب للمواقف.
وهنا وقبل رصد أسباب هذه الظواهر المستجدة، ينبغي ذكر ما يلي:
- المقاومة لم تدَّع يوماً أنها حركة معصومة ولم تطالب أحداً بتقديسها، بدليل أنها دخلت مضمار السياسة وهو ما يتطلب قدراً من المرونة والتعاون والتواضع في سبيل المصلحة العامة، ولو أنها طالبت الآخرين بالتقديس لكانت سعت للانفراد بالحكم ولكان خطابها اتخذ شكلاً آخر من الخطابات الفوقية والإملاءات، بينما نجد خطابها أكثر تواضعاً من خطابات العملاء وخطابات كثير من الحركات السياسية التي لم تقدم شيئا سوى التنظيرات والمزايدات.
- المقاومة لم تختبر في السلطة بامتلاك مفاتيحها ومفاتيح اتخاذ القرارات المتعلقة بمصالح الشعوب، وإنما هي جزء من سلطة، يمكن محاسبتها فقط على أدائها ودورها وتوجهاتها داخلها.
- الأهم هو أن المقاومة لها قيمتها وشرفها النابع من كونها حركة مقاومة قدمت تضحيات ولا تزال، والسلطة لديها ليست مصدر شرفها، وإنما تكليف، ووجودها بالسلطة هو ضمانة لمقاومة الفساد وتحجيمه ولعدم انفراد قوى تريد جر لبنان لمعسكرات واصطفافات أخرى لا تصب إلا في صالح المشروع الصهيوأمريكي، وبالتالي فإن النخب التي تدعي الاستقلال والتحرر الوطني ينبغي أن يكون غاية أملها وجود حركات المقاومة في السلطة، وأن تعض بالنواجذ على وجود أي حركة مقاومة في الحكومات، طالما هناك صعوبة واستحالة، وفقا للمعطيات الراهنة، من عودة حركات المقاومة والتحرر الوطني للحكم والسيطرة على كامل الحكومات!
وإذا ما حاولنا تحري أسباب هذه الحالة وما يمكن أن يكون وراء هذه التطورات التي طرأت على المواقف، فيمكننا رصد ما يلي:
1 ـ هناك خلل طرأ على مفهوم الثورات، منذ أن تم سك مصطلح (الربيع العربي) في دهاليز البيت الأبيض الأمريكي، ليصبح مصطلحاً معمماً في الإعلام العربي وعلى لسان نخب وقوة من المفترض أنها معادية لأمريكا وللاستعمار، وهذا الخلل مصدره هو الخلط بين الثورات المستحقة والثورات الملونة، ومصدره أيضاً الاختراقات الثقافية والمجتمعية والتي تقوم باختراق الثورات المستحقة وتحرف بوصلتها لتحولها إلى ثورات ملونة، وهو مصطلح معروف يصف الثورات التي تتبناها الاستخبارات الدولية لقلب أنظمة حكم واستبدالها بأنظمة تريدها حصراً، ولها آليات تبدو ناعمة وحاملة للزهور والياسمين، رغم تخللها باغتيالات وتخريب لتسخين الأجواء وخلق المظلومية، وهو ما وجدناه بامتياز في بعض الاختراقات الملونة لثورات مستحقة في مصر وتونس، ووجدناه بشكل شبه كامل في سوريا وليبيا.
2 ـ هناك قصور في التحليل والتقييم، لا يفصل بين الحراكات المطلبية المتعلقة بمصالح الفقراء والمهمشين وبالعدالة الاجتماعية، وبين الحراكات السياسية والتي تستهدف تغييرات سياسية قابلة لاختلاف وجهات النظر وخاضعة للأولويات وللرؤى وللمعلومات، فيتم إصدار أحكام عامة بالتخلي عن الجماهير دون جهد في الفصل بين مطالب الجماهير ومطالب المسيسين!
3 ـ هناك خلل وليس مجرد قصور في تحليل الحراكات، يتمثل في انتزاع السياق الزمني والجغرافي والظرف المحلي والإقليمي والدولي، وإن كان الحراك المطلبي المتعلق بالعدالة لا يتعلق بهذه السياقات، فإن الحراكات السياسية هي انعكاس لهذه السياقات، بل حدث مؤثر بذاته في هذه السياقات.
ولأن هذه القوى التي وجهت سهام نقدها للمقاومة لم تستمع جيداً لخطاب المقاومة الذي انحاز لما هو مطلبي لتعلقه بثوابت مثل العدالة والكرامة الإنسانية وحقوق المستضعفين، وتحفظه على تطور الحراك ودخوله في مرحلة سياسية شابتها الشوائب والشبهات وفقا للسياق الزمني والمكاني والصراع الإقليمي، وأيدتها المعلومات، فإن الأحرى بقوى تدعي الاستقلال الوطني أن تتوقف على الأقل لدراسة الموقف، إن لم يكن واجباً عليها توجيه سهامها لتطورات الحراك وتحوله لسهم مسموم في خاصرة لبنان يستهدف وجهها المقاوم.
إن الخلط المعيب والذي أوقع هذه القوى من قبل في الاصطفاف مع الدواعش في سوريا، ومع الناتو في ليبيا، كان الأولى أن يجعل هذه النخب أكثر فطنة وتروياً، ولكنها تكرر أخطاءها مرة أخرى، وهنا نوجه لها دعوة للتروي وإعادة الحسابات، وعلى قاعدة "ليس كل ما يلمع ذهباً".
ونقول إن الثورة وسيلة وليست غاية، والغاية هي الكرامة والعدل والاستقلال والاستقرار، وإن الثورة إن كانت هي الوسيلة المناسبة، فإن المقاومة هي أعلى مظهر من مظاهر الثورة ولا يستطيع أحد المزايدة على ثوريتها، بينما الثورات اكتسبت وجوها ومسميات متعددة، فقد اكتسبت ألقاباً مثل "الثورات الملونة" و"الثورات المضادة"، وليس كل تجمع في ميدان هو عملاً ثورياً.
إن هذه القوى قد دانت ورفضت، من قبل، تجمعات مثل "رابعة العدوية" في مصر، واعتبرته إرهاباً، فلماذا تناصر تجمعات شبيهة في ساحات أخرى، وهذه القوى التي لفظت تجمعات أعدتها السلطات لمواجهة الثورات ووفرت لها التنقلات والوجبات؟! لماذا تناصر تجمعات شبيهة في ساحات أخرى؟!
إنها دعوة للتأمل وإعادة النظر بتمعن، لعدم الاصطفاف مع الرجعية والعملاء والصهاينة ونشطاء المنظمات غير الحكومية NGO الممولة من الاستخباراتية الدولية في وجه المقاومة التي تمثل خط الدفاع الأخير عن شرف الأمة.



2019.10.31
صحيفة ميسلون الإلكترونية

أترك تعليقاً

التعليقات