«لا» 21 السياسي -
شهد المشهد اليمني، في مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2025، تطوراً دراماتيكياً مفصلياً، تمثّل في إعلان قوات «المجلس الانتقالي الجنوبي»، المدعوم إماراتياً، سيطرتها الكاملة على محافظة حضرموت، أكبر محافظات اليمن وأكثرها ثراءً بالموارد النفطية. هذا التحول السريع، الذي جاء بعد أقل من يومين على توغل تلك القوات في مديريات الوادي والصحراء، تم من دون مقاومة تُذكر من قوات المنطقة العسكرية الأولى، الموالية للسعودية، وحزب الإصلاح، ما جعل الرياض تستيقظ على انقلاب عسكري نفّذه شريكها الرئيسي في تحالف العدوان على اليمن.

هذا الحدث لم يكن معزولاً أو طارئاً، بل أعاد إلى الواجهة سؤالاً مركزياً حول طبيعة الصراع الخفي والمتصاعد بين السعودية والإمارات، وهو صراع تمتد جذوره من رمال الخليج إلى صحراء اليمن، ويتجاوز في أبعاده اللحظة الراهنة، ليعكس تراكمات تاريخية وسياسية واقتصادية معقدة. فمنذ سنوات، بات هذا التنافس عنواناً بارزاً في العلاقة بين الرياض وأبوظبي، وبدأ ينعكس بشكل مباشر على مستقبل تحالفهما في اليمن، وعلى موقع البلدين في الإقليم والعالم.
للإحاطة بجذور هذا الصراع، لا بد من العودة إلى بدايات تشكّله في أربعينيات القرن الماضي، حين سعت السعودية، في عهد الملك عبد العزيز بن سعود، إلى فرض سيطرتها على مناطق حدودية غنية بالنفط، أبرزها واحة البريمي، وحقل الشيبة، وخور العديد. ورغم توقيع «اتفاقية جدة» عام 1974، التي منحت الرياض أجزاء واسعة من تلك المناطق مقابل اعترافها بدولة الإمارات، إلا أن أبوظبي اعتبرت لاحقاً أنها تعرضت لخديعة تاريخية أفقدتها مناطق استراتيجية بالغة الأهمية. وظل هذا الملف بمثابة جمرٍ تحت الرماد، يُعاد إشعاله مع كل موجة توتر، كما حدث عام 2009 عندما منعت السعودية دخول الإماراتيين بسبب خريطة في بطاقات الهوية الإماراتية تُظهر أراضي سعودية كجزء من الإمارات.
ومع انتقال الصراع من حدود الجغرافيا إلى ساحات النفوذ، برز التنافس السعودي ـ الإماراتي بشكل أوضح في الإقليم، إذ انخرط الطرفان، كلٌّ وفق أدواته، في الشؤون الداخلية لدول عدة، من مصر وليبيا إلى السودان وسورية واليمن، وسعى كل منهما إلى تقديم نفسه بوصفه الشريك الأكثر كفاءة في تنفيذ الأجندة الأمريكية، في سباق غير معلن على لعب دور «الذراع الطولى» لواشنطن في المنطقة. كما تداخل هذا التنافس مع مصالح اقتصادية حيوية، أبرزها الصراع داخل منظمة «أوبك»، حيث ظهر الخلاف إلى العلن عام 2021 عقب اعتراض الإمارات على قرار سعودي بخفض الإنتاج، معتبرة أنه يمسّ بأمنها الاقتصادي.
وتعزز هذا التوتر الاقتصادي مع احتدام المنافسة على جذب الشركات العالمية، لاسيما بعد تهديد الرياض بحرمان الشركات متعددة الجنسيات من العقود الحكومية ما لم تنقل مقراتها إلى العاصمة السعودية، وهو ما رأت فيه أبوظبي استهدافاً مباشراً لمكانة دبي كمركز تجاري إقليمي.
في اليمن، لم يكن التحالف السعودي ـ الإماراتي متماسكاً منذ اللحظة الأولى لانطلاق العدوان في آذار/ مارس 2015. فبينما قادت السعودية الحرب عسكرياً وسياسياً، اتجهت الإمارات مبكراً إلى تثبيت حضورها في المناطق الساحلية والجزر الاستراتيجية، بعيداً عن خطوط المواجهة المباشرة مع صنعاء. وفي هذا السياق، دعمت أبوظبي تأسيس «المجلس الانتقالي الجنوبي» عام 2017، ودفعت به ليكون أداة سيطرتها الميدانية في المحافظات الجنوبية، تحت شعار الانفصال.
بالتوازي، استثمرت الإمارات في الساحل الغربي عبر دعم طارق صالح وتشكيل «القوات المشتركة»، متخذة من مدينة المخا قاعدة رئيسية لها، في مسعى واضح للتحكم بأحد أهم الممرات البحرية العالمية. ورغم هذه التشكيلات العسكرية الواسعة، فإنها لم تخض معارك حقيقية ضد قوات صنعاء، باستثناء مواجهات محدودة انتهت بانسحابات سريعة، كما حدث في الحديدة عام 2021، ما كشف الطابع الوظيفي لهذه القوات، بوصفها أدوات نفوذ لا جبهات قتال.
في المقابل، وجدت السعودية نفسها وحيدة في مواجهة كلفة حرب استنزاف طويلة، تحملت فيها العبء الأكبر بشرياً ومادياً، خصوصاً بعد إعلان الإمارات «انسحابها العسكري» عام 2019، وهو انسحاب شكلي هدفه تقليص الخسائر لا إنهاء النفوذ. ومع تصاعد الخلاف، حاولت الرياض إنشاء أدوات موازية، أبرزها قوات «درع الوطن» عام 2023، في مسعى لاحتواء التمدد الإماراتي في مناطق النفط والجزر، إلا أن هذه المحاولات أخفقت في إحداث أي تغيير فعلي في ميزان السيطرة.
وجاءت التطورات الأخيرة في حضرموت والمهرة لتكشف حجم الارتباك السعودي، حيث بدت ردود الفعل دون مستوى الحدث، واكتفت الرياض بتحركات سياسية خجولة، قوبلت بإهانات ميدانية، ما شجّع أبوظبي على توسيع نفوذها باتجاه محافظة أبين، في خطوة تهدف إلى استكمال إحكام السيطرة على الجنوب.
أمام هذا المشهد، انقسمت التفسيرات بين من يرى ما يجري انتكاسة سعودية واضحة، ومن يعتبره جزءاً من ترتيبات إقليمية أوسع تقودها الولايات المتحدة و»إسرائيل»، لإعادة تدوير أدوات التحالف وتهيئة الأرضية لكيان انفصالي في جنوب اليمن، يكون منصة ضغط جديدة على صنعاء. وتدعم هذا الطرح مؤشرات عديدة، أبرزها انفتاح «المجلس الانتقالي» على «إسرائيل»، وتصريحات قادته حول الاستعداد للاعتراف بها، إلى جانب تقارير «إسرائيلية» رأت في السيطرة على عدن وباب المندب فرصة استراتيجية.
في المحصلة، يتضح أن الصراع السعودي ـ الإماراتي في اليمن ليس خلافاً عابراً، بل هو تعبير عن تناقضات عميقة في المصالح والرؤى، تُدار ضمن سقف الأجندة الأمريكية ـ «الإسرائيلية». وبينما يستمر هذا الصراع في إعادة تشكيل خريطة النفوذ جنوباً وشرقاً، تتابع صنعاء المشهد بوعي واستعداد، مؤكدة جاهزيتها للتعامل مع مختلف السيناريوهات، في ظل قناعة راسخة بأن مآلات أي مواجهة كبرى ستكون محسومة لصالحها، استناداً إلى موازين القوة وتجارب السنوات الماضية.
موقع «الخنادق» الإلكتروني