
المهد (The Cradle)
ترجمة خاصة:أقلام عبدالملك مانع / لا ميديا -
واجهت مساعي القاهرة لحشد الدعم الإقليمي لإعادة إعمار غزة -وإحباط وهم ترامب بشأن «ريفييرا غزة»- عقبات كبيرة مع تردد القادة السعوديين والإماراتيين، وابتعاد الجزائر عنهم، وانخراط واشنطن بشكل مباشر مع حماس. ولقد كان رد القاهرة على خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الوقحة المعروفة باسم «ريفييرا غزة» -التي تطلب من مصر والأردن استقبال مئات الآلاف من اللاجئين الغزيين- عملية مدروسة ومتعددة المراحل.
طلبُ ترامب، الصريح والمزعزع للاستقرار، استهدف دولتين عربيتين لطالما حافظتا على اتفاقيات سلام مع كيان الاحتلال «الإسرائيلي». الأردن، الذي يُتوقع أن يتحمل العبء الأكبر، ضغط على مصر بشدة منذ ذلك الحين لسحب نفسه من الخطة الأمريكية، بينما يسعى في الوقت نفسه إلى الحصول على دعم حلفائه القدامى في الخليج العربي.
ولدفن مشروع الريفييرا، عملت القاهرة على إيجاد خطة استراتيجية بديلة، مرحلية وقادرة على استرضاء وجذب أكبر عدد من أصحاب المصلحة.
جاءت الخطوة الأولى بقمة مصغرة رفيعة المستوى عُقدت في الرياض في 21 شباط/ فبراير، حيث التقى الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بالعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، وأمير قطر تميم بن حمد، ورئيس الإمارات محمد بن زايد، وأمير الكويت مشعل الأحمد، وولي عهد البحرين الأمير سلمان بن حمد. وهدف هذا الاجتماع إلى تنسيق الاستجابة للأزمة التي أثارها ترامب، وتقييم مدى استعداد المنطقة لمقاومة الضغوط الأمريكية.
بعد أيام، وتحديداً في 26 شباط/ فبراير، أرسلت مصر إلى واشنطن وفداً غير رسمي من رجال دولة مخضرمين من عهد مبارك، والتقى الوفد مع مسؤولين أمريكيين حاليين وسابقين، للاستفادة من فهمهم العميق لصناعة السياسات الأمريكية لصياغة، أو -على الأقل- تعديل رؤية إدارة ترامب تجاه غزة. صُممت هذه الاجتماعات لاختبار الموقف في واشنطن واستكشاف التعديلات الممكنة على الاستراتيجية المصرية.
مع تصاعد التوترات، عقدت القاهرة قمة عربية طارئة في 4 آذار/ مارس، في محاولة لحشد الدعم الإقليمي. لكن الانقسامات -والغرور- في المعسكر العربي كانت واضحة منذ البداية. وبينما حضر أمير قطر تميم شخصياً، امتنع كل من ولي عهد الإمارات محمد بن زايد، وولي عهد السعودية محمد بن سلمان، عن المشاركة، واقتصر حضورهما على وزيري خارجيتهما.
كان غيابهما بمثابة إشارة واضحة إلى أنهما لن ينضما علناً إلى موقف مصر من دون تقديم تنازلات كبيرة.
انقسامات عميقة
أبرز غياب محمد بن زايد ومحمد بن سلمان عن قمة القاهرة الخلاف المتنامي الذي بدأ خلال الاجتماع السابق في الرياض. كانت مشاركتهما ستشير إلى دعم صريح لطريقة تعامل مصر مع الأزمة، وهو أمر لم يكن أيٌّ من الزعيمين مستعداً لتقديمه دون قيد أو شرط.
وأفادت مصادر مطلعة لصحيفة «ذا كريدل» بأن محمد بن سلمان ظل منفتحاً على استقبال مصر والأردن بعض لاجئي غزة؛ ولكن بما يتناسب مع عدد سكانهما واقتصادهما. إلا أن نقطة الخلاف الرئيسية كانت مستقبل غزة السياسي. أصرّ الزعيمان على ضرورة القضاء على نفوذ حماس تماماً، بينما لا تزال مصر ملتزمة بالحفاظ على وجود الحركة - وإن كان بشكل محدود وغير سياسي.
طرحت الإمارات اقتراحاً لإشراف دولي على غزة، إلى جانب إدارة عربية مدعومة بمساعدات اقتصادية بقيمة 15 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات. سارعت مصر إلى رفض هذه الفكرة، خشية أن تُمهّد الطريق لتهجير الفلسطينيين بشكل دائم. الأردن مترددٌ أيضاً، وغير راغب في استيعاب ما يُقدّر بـ300 ألف لاجئ إضافي بحلول العام 2026. وكما أوضح مصدر مصري لصحيفة «ذا كريدل»، ولأن القاهرة تراهن على التمويل السعودي والإماراتي لخطتها؛ فقد طالبت الرياض وأبوظبي بدور أكثر بروزاً في غزة، يتجاوز نفوذ قطر. كما تريدان أن يعكس هذا الحضور نفوذهما الإقليمي، وأن يضمنا عدم انفراد مصر بملف غزة على المستوى العربي، وأن يضمنا ألا تذهب مساهماتهما المالية إلى دعم حماس.
خلف الكواليس، عمل المسؤولون الأمريكيون أيضاً على تشكيل الأحداث. وبين 23 و25 شباط/ فبراير، ظهرت تقارير عن زيارات مبعوثين أمريكيين إلى المنطقة قبل القمة، عرضوا على السعودية حوافز استثمارية -لاسيما في مشروع مدينة نيوم العملاقة- مقابل الضغط على القاهرة وعمّان لقبول خطة ترامب؛ حتى أن واشنطن نقلت نتائج اجتماع الرياض مباشرةً إلى رئيس الوزراء «الإسرائيلي»، بنيامين نتنياهو، الذي لا يزال متفائلاً بتطبيع العلاقات مع المملكة.
السلطة الفلسطينية، ومقرها الضفة الغربية، غابت تماماً عن قمة الرياض، ولم يصدر عنها بيان ختامي. حاولت قطر الدعوة إلى إشراك حماس في أي إطار سياسي مستقبلي؛ لكن جهودها سرعان ما أفشلتها المملكة السعودية والإمارات والأردن. في غضون ذلك، امتنعت عُمان عن الحضور تماماً، محافظةً على موقفها الحيادي التقليدي.
قمة القاهرة.. تجمع متردد
نادراً ما تمر القمم العربية دون أحداث درامية؛ لكن هذه القمة اتسمت بأجواء مشحونة بشكل خاص. فرغم أن المشاركين اجتمعوا لمعالجة أزمة مروعة بحجم نكبة عام 1948، لم تلُحْ في الأفق حلول واضحة. ودارت المناقشات بتردد حول التهديد الوشيك بالتهجير القسري الجماعي لسكان غزة، في ظل إدارة أمريكية تدفع بأجندة إقليمية عدوانية.
لم يكن غياب محمد بن زايد ومحمد بن سلمان التجاهل الدبلوماسي اللافت الوحيد؛ فقد عكس قرار الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، إرسال وزير خارجيته -بدلاً من الحضور شخصياً- إحباط الجزائر من استبعادها من المحادثات التحضيرية.
وتقول مصادر مصرية لموقع «ذا كريدل» إن «تبون منزعج من غياب الجزائر عن الاجتماعات التحضيرية، وعدم تلقيها دعوة لحضور الاجتماع التشاوري في الرياض، بالإضافة إلى عدم إرسال القاهرة مسؤولاً رفيع المستوى إلى الجزائر لدعوته أسوة بدول أخرى»، في إشارة جزائرية غير مباشرة إلى «احتكار بعض الدول للقرار العربي».
وراء هذه التوترات الدبلوماسية يكمن تاريخٌ أعمق من الخلافات بين القاهرة والجزائر بشأن الشؤون الفلسطينية. وقد عززت الجزائر مكانتها كوسيط بين فتح وحماس، حيث استضافت محادثات المصالحة التي كانت تقع تقليدياً ضمن نطاق مسؤولية مصر.
وبينما ظلت العلاقة متوترة، كانت هناك جهود جارية لترتيب لقاء بين السيسي وتبون في مناسبة دولية قادمة، لتخفيف التوترات، خاصة في ضوء حاجة مصر إلى الدعم الجزائري في مختلف القضايا الإقليمية والأفريقية.
أجندة السلطة الفلسطينية الموازية
بينما كانت مصر تُدافع بقوة عن رؤيتها الخاصة لمستقبل غزة، كان رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، يُقدم بهدوء اقتراحاً مُنافِساً في القاهرة، يتمحور حول استعادة السلطة الفلسطينية السيطرة الكاملة على قطاع غزة. وتتضمن خطته إدارة السلطة الفلسطينية لمعابر غزة الحدودية -بما فيها معبر رفح ومعبر كرم أبو سالم- في إطار يُشبه «سلطتها» الحالية في الضفة الغربية المحتلة.
سعى عباس للحصول على دعم المملكة السعودية في قمة القاهرة؛ لكن مصر والإمارات رفضتا رؤيته، واعتبرتاها قديمة وغير قابلة للتطبيق. وكانت أبوظبي متشككة بشكل خاص، خوفاً من أن تُسيء السلطة الفلسطينية، التي لا تحظى بشعبية كبيرة، إدارة أموال إعادة الإعمار، وأن تفتقر إلى القدرة على حكم غزة بعد غياب دام 17 عاماً.
مع ذلك، فاجأ عباس الكثيرين بإعلانه عفواً جماعياً عن أعضاء سابقين في حركة فتح، وهي خطوة فُسِّرت على نطاق واسع بأنها محاولة لتمهيد الطريق لعودة محمد دحلان السياسية. ونظراً لعلاقات دحلان الوثيقة بالإمارات، اعتبر البعض هذا بمثابة انفتاح على أبوظبي؛ لكن الشكوك ظلت قائمة.
رغم تأييد البيان الختامي لمقترح مصر لإعادة الإعمار -الذي وُضع بمساهمة من البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي- فإن الخطة تواجه عقبات كبيرة. فقد رفضت كل من واشنطن و»تل أبيب» أي إطار عمل يشمل حماس أو الأونروا.
وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، برايان هيوز، في بيان: «لا يُعالج الاقتراح الحالي حقيقة أن غزة غير صالحة للسكن حالياً، وأن سكانها لا يستطيعون العيش بسلام في منطقة مُغطاة بالحطام والذخائر غير المنفجرة». وأضاف: «يتمسك الرئيس ترامب برؤيته لإعادة بناء غزة خالية من حماس. ونتطلع إلى مزيد من المحادثات لإحلال السلام والازدهار في المنطقة».
في الوقت نفسه، يظل تأمين الدعم المالي يشكل تحدياً، حيث لا تزال الرياض وأبوظبي مترددتين في الالتزام به.
زيارة واشنطن ذات المخاطر العالية
لكسر الجمود، بذلت مصر قصارى جهدها وأرسلت وفداً من كبار الشخصيات السياسية في عهد الرئيس السابق حسني مبارك إلى واشنطن أواخر شباط/ فبراير. ضمّ الوفد وزير الخارجية السابق عمرو موسى، وشخصيات سياسية مخضرمة مثل منير فخري عبد النور ومحمد كمال وحسام بدراوي. وتواصل الوفد مع شخصيات بارزة في إدارة ترامب والكونغرس ومراكز أبحاث أمريكية مؤثرة.
أبرزت الاجتماعات مع جاريد كوشنر، ومايك بومبيو، والسيناتور ليندسي غراهام، مدى حشد مصر الدعم الأمريكي. وبينما أبدى بعض المسؤولين اهتمامهم بالخطة، لم تكن هناك التزامات واضحة. وتركزت المخاوف الأمريكية على حماس، والرقابة المالية، وضمان دعم السعودية و»إسرائيل»، وفق ما أفادت مصادر لصحيفة «ذا كريدل».
التباين بين الموقفين المصري والأمريكي يضع القاهرة في موقف حرج؛ إذ كانت الأخيرة تراهن على دعم واشنطن أو على الأقل تأمين غطاء دولي يسمح بحشد التمويل من مصادر أخرى؛ لكنها الآن تجد نفسها مضطرة للبحث عن بدائل تشمل إشراك الاتحاد الأوروبي والصين.
الحفاظ على خطة إعادة الإعمار حية
الخيار البديل هو تقديم مقترحات تتوافق جزئياً مع الرؤية الأميركية، دون المساس بالدور المصري في الملف الفلسطيني، واستغلال السنوات المتبقية من ولاية ترامب الرئاسية بما يضمن أقل قدر من الضرر على غزة.
ولتطمين السعودية والإمارات، اقترحت مصر أن يشرف البنك الدولي على صندوق إعادة الإعمار، لضمان شفافية التمويل وجذب المساهمات الدولية، رغم قناعة مصر بأن إعادة بناء القطاع في ثلاث سنوات لا يمكن أن تتحقق دون تبرع سخي من السعودية والإمارات بالإضافة إلى قطر.
ولكن حتى مع سعي القاهرة جاهدةً لتشكيل إجماع إقليمي، كانت واشنطن قد غيّرت مسارها بالفعل. ففي خطوةٍ فاجأت «إسرائيل»، عقد فريق ترامب اجتماعاتٍ مباشرة مع حماس في الدوحة. وتراوحت المناقشات بين تبادل الأسرى وترتيبات وقف إطلاق النار، بل وحتى أطرٍ سياسية أوسع نطاقاً - وهو تطورٌ استثنائيٌّ أبرز سيولة ديناميكيات القوة في المنطقة.
تظل مصر ملتزمة بخطتها؛ لكن العقبات لا تزال هائلة. إن الرفض الأمريكي، والتردد العربي، والرفض «الإسرائيلي»، تجعل الطريق إلى الأمام غامضاً.
مع استمرار ولاية ترامب الثانية، قد تضطر القاهرة إلى تجاوز حلفائها التقليديين، والسعي للحصول على دعم مالي من أوروبا والصين، مع إدارة التوترات الإقليمية بحذر. ويظل مؤتمر إعادة الإعمار شريان حياة محتملاً؛ لكن نجاحه في حشد الدعم الدولي يبقى سؤالاً مفتوحاً.
المصدر ترجمة خاصة:أقلام مانع / لا ميديا