«لا» 21 السياسي -
(على مدى أكثر من قرن ونصف قرن، شكّلت الولايات المتحدة المتغيّر الأهم في الصراع العربي - الصهيوني، والعامل الأهم في الحال الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية وتقرير المصير الذي حلّ بالشعب الفلسطيني. فرغم الأدوار المختلفة التي قامت بها الدول الأوروبية المختلفة (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا) منذ البداية، إلا أنّ الدور المتصاعد للولايات المتحدة ابتداءً من عام 1870 كقوة كونية صاعدة، مروراً بعام 1900 كدولة منافسة على الهيمنة الكونية بين دول المركز الإمبريالي، وأخيراً كقوة مهيمنة مع نهاية الحرب الإمبريالية الأولى عام 1917، لم ولا (ولن) يوازيه أي دور آخر.
ما بين بداية تموز/ يوليو ونهاية تشرين الأول/ أكتوبر 1917، تبادل ممثلو الحركة الصهيونية مع الحكومة البريطانية أربع مسودات في سياق التفاوض على نص «وعد بلفور» الذي سيصدر بعد الاتفاق النهائي على المسودة الخامسة في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 1917.
وفيما لم تتضمن المسوّدة الأولى (تموز/ يوليو 1917) أي ذكر إطلاقاً للفلسطينيين، وتركز النقاش أساساً على «الوسائل (الضرورية) لتحقيق هدف الوعد»، خلت كل من المسودة الثانية والثالثة (آب/ أغسطس 1917) من أي ذكر حتى لـ«الحقوق الدينية والمدنية للجماعات/ الجاليات» التي تقطن فلسطين، كما جاء في النص النهائي لـ»الوعد». أما المسودة الرابعة (4 تشرين الأول/ أكتوبر 1917) التي ورد فيها ذكر الحقوق «المدنية والدينية» للمرة الأولى، فشملت أيضاً بنداً إضافياً يتضمن تعهداً بحماية «حقوق المواطنة لليهود في الدول الأخرى، إن هم اختاروا البقاء حيث هم» (وليس فقط الحقوق الدينية والمدنية كما كانت الحال بخصوص العرب في فلسطين). النسخة النهائية من النص، والتي يعرفها العالم، تم الاتفاق عليها بعد أربعة أشهر من المسودة الأولى، في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1917. هذا مختصر قصة الوعد السائدة، كما يعرفها العالم.
لكن الوعد لم يصدر حقاً، وخصوصاً في هذا التوقيت بالذات، فقط بسبب الاتفاق بين الحركة الصهيونية والحكومة البريطانية. كما لم يؤخر إصداره تبادل المسودات والصياغات التي لم يُنشر من تفاصيلها سوى الوعد نفسه. فحال العالم حينها، قبل عام بالضبط من نهاية الحرب الإمبريالية الأولى، لم تكن لتسمح، رغم رغبة الحكومة البريطانية وحتى بغض النظر عنها، بأن يكون للوعد أي مفعول سياسي ممكن وتاريخي مختلف عن الوعد الفرنسي الذي سبقه (وعد السكرتير العام لوزارة الخارجية الفرنسي، جول كامبون، لممثل الحركة الصهيونية ناحوم سوكولوف في 4 حزيران/ يونيو 1917)، أو التعاطف الإيطالي مع مشروع استعمار الحركة الصهيونية لفلسطين؛ بل إن الوعد صدر فعلاً، وأصبح له المفعول التاريخي الدامي الذي اختبرناه أساساً بسبب موافقة الولايات المتحدة ودورها في إصداره، ووقوفها خلفه وتبنيه. عدا ذلك، فلربما بقي الوعد مثل وعود أخرى أصدرتها الحكومة البريطانية وانتهت مجرد وثائق في الأرشيف يدرسها المؤرخون.
منذ عام 1900 تحديداً، بدأت مؤشرات بداية دورة جديدة من الهيمنة الكونية تتشكّل. فحينها، عام 1900، لم تتساوَ فقط، وللمرة الأولى في التاريخ، المساهمة الاقتصادية الأمريكية والبريطانية في الإنتاج العالمي (بنسبة 9% لكل منهما، وهي النسبة الأقصى التي وصلت إليها المساهمة البريطانية في كل تاريخها الإمبريالي)، بل كانت الولايات المتحدة أيضاً هي القوة الصاعدة الجديدة، وبدا الأفق أمام هيمنتها مفتوحاً، فيما كانت بريطانيا تختبر مخاضات الأفول. وفي عام 1917، عام صدور الوعد، كانت الولايات المتحدة قد تجاوزت، وبدرجات، وفقاً لأي مقياس مركب وشامل لقياس الهيمنة (ليس الاقتصاد فقط)، الإمبراطورية البريطانية. لهذا، فإن كان عام 1900 بمؤشراته الشاملة قد أنبأ ببداية العصر الأمريكي، فبحلول عام 1917، وخصوصاً بعد تدمير القوة الألمانية الصاعدة والمنافس الوحيد الممكن للولايات المتحدة حينها في الحرب، وحتى تقييد إمكانية انتعاشها لاحقاً، كان قد مضى شوط على ترسيخ إعادة تشكيل بنية السلطة الكونية بقيادة
 أمريكية ودخول العالم دورة جديدة، مختلفة، وغير مسبوقة، من الهيمنة.
لهذا بالضبط، في الثالث من أيلول/ سبتمبر 1917، أي حتى قبل إنجاز نص الوعد، عرضت الحكومة البريطانية على الرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون، فكرة إصدار بيان تعاطف (الوعد) مع الحركة الصهيونية. ويلسون، بدوره، رفض إصدار بريطانيا للوعد، مجيباً -حرفياً- بأن الوقت حينها «غير مناسب»، بسبب ظروف الحرب العالمية، فامتنعت بريطانيا عن إصداره. لكن، في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر، أي قبل إصدار الوعد بأقل من شهر بقليل، وفي أعقاب الاستشارة البريطانية الثانية، أعطى الرئيس ويلسون موافقته على إصدار الوعد. بهذا، يكون القرار بصدور الوعد أمريكيا أساساً، حتى لا نتحدث عن معنى اصطفاف أمريكا ومفاعيله، القوة الكونية الأولى حينها، خلف الوعد. في هذا الوقت بالضبط، أصبح المشروع الاستعماري الصهيوني مشروعاً أمريكياً بامتياز، وليس بعد حرب 1967.
ليس هناك جدل بين المؤرخين الدبلوماسيين حول مركزية الدور الأمريكي في صدور الوعد الذي حمل اسم صاحب الرسالة الموجهة إلى اللورد الصهيوني روتشيلد. الجدل، الذي يبدو سطحياً في الحقيقة، يدور فقط حول مساهمة بعض الأفراد المحيطين بالرئيس في التسريع بالموافقة، وليس حول الموقف ذاته. فويلسون، أصلاً، لم يرفض فكرة الوعد، لكنه أراده بتوقيت أمريكي. لهذا، يجادل بعض المؤرخين بأن الدور الأساسي في إقناع الرئيس كان لقاضي المحكمة العليا حينها لويس برانديز (أول قاضٍ يهودي أمريكي في المحكمة الأمريكية العليا) استناداً إلى تواصل بين جايمس روتشيلد في بريطانيا، والذي صدر الوعد باسمه، ولويس برانديز بخصوص الوعد – ربما يكون أهم تواصل هو كابل أرسله روتشيلد لبرانديز في 25 نيسان/ أبريل 1917 (أي قبل الحوار البريطاني - الصهيوني حول نص الوعد) يحثه فيه على العمل لتأمين دعم الرئيس الأمريكي للوعد. أما البعض الآخر، مثل ليونارد شتاين، أحد مؤرخي «وعد بلفور»، فيُشير إلى دور محوري لمستشار الرئيس المُكنّى بالعقيد إدوارد هاوس لقربه من الرئيس. ربما يكون برانديز قد حث الرئيس ويلسون فعلاً على تأييد الوعد، وربما يكون الكولونيل هاوس أيضاً قد فعل ذلك، ولكن هذا وحده لا يفسر قرار الرئيس النهائي، وخصوصاً على أعتاب نهاية الحرب العالمية الأولى، إعادة تقسيم العالم، وصعود الإمبراطورية الأمريكية كقوة مهيمنة جديدة.
لهذا، بأثر رجعي الآن، وبعد مرور أكثر من قرن، يمكن الاستنتاج أن بريطانيا لم تكن وحدها خلف الوعد، ولم يكن حتى في استطاعتها إصدار الوعد وضمان المفاعيل التي استتبعها واستولدها، حتى ولو كانت خلفها كل الحركة الصهيونية في بريطانيا وأوروبا، كما كانت فعلاً (وفي هذا تبخيس أيضاً لدور أساسي للحركة الصهيونية وأنصارها في الولايات المتحدة). لكن، لأن وعد بلفور يمثل لحظة الولادة الحقيقية لمشروع الدولة الصهيونية على أرض فلسطين العربية كمشروع إمبريالي غربي مستقبلي أساساً، ويمثل أيضاً الرابط التاريخي الملموس والواضح حول العلاقة العضوية بين الصهيونية الاستعمارية والإمبريالية الغربية، فإن صدور الوعد، كما صدر وكما كانت تبعاته، كان ممكناً فقط وفقاً للتوقيت الأمريكي، ومثل منذ البداية ملامح العصر الأمريكي ومقدمة لتجلياته في المنطقة العربية. كان هذا الوعد، كما ستنبئ الأحداث لاحقاً، هو وعد ويلسون حقاً، ولم يكن دور بلفور البريطاني، بالمعنى التاريخي، أكثر من ساعي بريد.
عاشت فلسطين!
جزء من: د سيف دعنا: طوفان تشرين - الإلياذة الفلسطينية، مجلة «المستقبل العربي»، العدد 537، تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.