«لا» 21 السياسي -
في التاسعة صباحاً حطت الطائرة القادمة من مطار دبي في مطار طهران. طار النظر بسرعة أقوى من البصر نحو امراة غير محجبة تسرع الخطى نحو ركن مراقبة جوازات السفر. كادت عينا الصديق الذي رافقني من دبي تجحظ نحوي، بعدما شاهد تسمّري في المكان الذي يبعد خطوات قليلة عن تلك المرأة، ملتقطاً تفاصيل دهشتي وارتيابي عما سيؤول إليه مصير «عاثرة الحظ». وما كاد الارتياب يبلغ ذروته حتى كانت تلك المرأة تحمل حقيبتها بثقة كاملة وتدخل إلى طهران، ومن دون أن يظهر أي وجوم أو عبوس على الموظفة في ركن الجوازات. لقد أدت مهتمها مع تلك «السافرة» كما فعلت مع غيرها، رجالاً ونساءً، ولا فرق بين مواطن وآخر. ابتسم صديقي بعدما أيقن من تبدُّد هاجسي، وقال: «نحن في دولة لا تحارب مجتمعها، ولا تواجه مواطنيها».
قبل أن نفترق، صديقي وأنا، ويذهب كلٌّ في سبيله، كانت عيناي تروحان وتجيئان في أرجاء المطار، عسى تعثران على نظرة «قهر» لامرأة سافرة، والسافرات قليلات، لكنهن يذهبن ويأتين من غير أن يتعرضن لرادع أو زاجر. عند ذاك أو عند تلك المقارنة العاجلة، كان سائق التشريفات يناديني، ولما أخذتُ مقعدي في السيارة قال: «إلى فندق آزادي؟». فقلت: «إلى آزادي». يبعد الفندق عن المطار زهاء خمسين كيلومتراً، كان نظري خلالها يسرح ويجول على جانبي الطريق الطويلة، لم أرَ ورقة على جانبي الطريق، لم أعاين حفرة، وطوال هذه المسافة لم تخدش أذناي شتائم يتبادلها السائقون ويتقاذفون بـ»فنونها وإبداعاتها»، ولم يحصل أن منبّهات السيارات انطلقت أكثر من مرتين او ثلاث، وفي كل مرة كان الحياء يغلب صوت المنبّه فيأتي خفوتاً خفيضاً.
في صبيحة اليوم الخامس كنا في سوق طهران التاريخية: «بازار تهران». لم تختلف مشاهد الأيام السابقة عما هي عليه في «البازار»؛ لا شيء يثني عن شراء أي شيء، من أغلى قطعة سجاد عجمي إلى شرائح البطاطا المقلية والمحمصة، ومع ما تشرئب إليه الأفواه الجافة في صيف طهران من مرطبات غربية لا يخلو منها مكان ولا تفتقدها زاوية في «البازار» الكبير، ولم يبق بعد التجوال في نصف طهران إلا العودة إلى الفندق، حيث اللقاء مع المسؤول الكبير، وبادرته بالسؤال:
- النساء اللواتي من دون حجاب نسبتهن قليلة...؟
- بعض المراقبين عندنا كان يتوقع أكثر مما رأيتَ وشاهدتَ!
- واضح أن هذه التوقعات أصابها الإخفاق؛ ولكني سمعتُ عن قرار له صلة بالسيارة، لم أفهمه، ما مضمونه؟
- هذا القرار يعتبر أن السيارة «حرم شخصي»، مثل المنزل، وكما يوجد «حرمة المنازل»، يوجد «حرمة السيارات»، بمعنى أنه لا يجوز التدقيق بما ترتديه الفتاة في السيارة، ففي هذه الحال، كأنها في منزلها.
- طبعاً هذا اللباس له حدود...؟
- طبعاً، طبعاً.
- أيضاً سمعتُ عن «بيوت التفكير»، التي تبحث وتفكر في «طريق ثالث» بعيداً عن اللباس الغربي بالمطلق وبعيداً عن اللباس المعروف في الحوزات الدينية أو من اختارت بإرادتها هذا النوع...؟
- بالأصل، هذا هو الشغل الشاغل للحكومة الحالية، وما تعمل عليه هذه الحكومة هو الهداية والنصح والإرشاد.
- أيضا سمعتُ مقولة أعجبتني، مفادها أن الدولة في إيران لا تحارب مجتمعها ولا تواجهه...؟
- بالضبط، هذه هي قاعدة الحُكم عندنا، والحكومة تعي وتدرك أن الناس ليست على خط بياني واحد، من واجبات الحكومة هداية الناس وإرشادهم وتوفير سبل رفاهيتهم ورفع مستوى عيشهم المادي والتعليمي والصحي؛ لكن العبث بالأمن أمر لا يمكن التساهل معه، مهما كان جزئياً وتفصيلياً.
- ما لاحظته من حركة العمران والأسواق والاقتصاد أن الحكومة تعمل على استيعاب فئات محددة من المواطنين...؟
- مع تحفظي على السؤال، استيعاب كل شرائح المواطنين ورعايتهم من مسؤوليات الحكومة وواجباتها، أليس هؤلاء مواطنينا؟!
- إجابتك تقود إلى السؤال عن كيفية صنع القرار في إيران!
- هناك ما هو رسمي وما هو غير رسمي في صناعة القرار في إيران. الرسمي يتمثل بالولي الفقيه ومجلس الخبراء ومجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس النواب والحكومة، وما هو غير رسمي: رجال الأعمال والحوزة الدينية واتحادات الطلبة وروابط العمّال ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام. وأي قرار رسمي في إيران يأخذ بالاعتبار تأثيرات القوى غير الرسمية وفعاليتها في الرأي العام، والأخير هو المجتمع الذي لا تحاربه الدولة، فهي جزء منه. هل سمعت أن نفساً تواجه أو تحارب نفسها؟!
بهذا الجواب كان من اللائق أن أطوي صفحة الأسئلة. وبعد دقائق معدودات نظر المسؤول الكبير إلى عقارب ساعته وقال:
- أستأذنك؛ لن أغفر لنفسي لو تأخرتَ عن موعد إقلاع طائرتك.
وألقى تحية الوداع وغادر.


(من مشاهدة مطولة للكاتب والصحفي اللبناني توفيق شومان - 19/ 7/ 2023)