حلقات يومية يكتبها القاضي محمد الباشق / لا ميديا -
نعم، إن الإحسان بذل وعطاء مما تملكه إن كان ماديا، أو تتقنه إن كان خبرة أو تجربة أو علما ومعرفة أو خلقا حميدا وسلوكا طيبا، فتكون قدوة.
ويتبادر إلى الذهن أن المستفيد من الإحسان هو من أخذ منك، نعم هو مستفيد، وكلما كان الإحسان قبل الطلب كان صاحبه أكثر إخلاصا وأصدق جودا وأحق بوصف الكرم والإحسان، وكلما كان أنفع وأسرع وسرا لا يسبقه استعلاء ولا يلحقه منٌّ ولا يرافقه أي هوى أو طمع أو تخطيط لطلب ما يكون مقابل هذا الإحسان، كل هذه أمور تم تناولها بفضل الله في حلقات العام الماضي.
وأريد في هذه الحلقة أن أتحدث أن المستفيد حقيقة من الإحسان والرابح من العطاء والذي ينتفع بما أعطى هو المحسن المعطي المتصدق نفسه، فمردود المال على المستلم له مردود وقتي، دفع به عن نفسه وأهله مضرة أو جلب وحقق به مصلحة، والمستفيد من إنفاق العالم والطبيب كذلك؛ لكن بركة وأثر وفائدة، وربح المنفق أكبر وأكثر، فأول فائدة أنه أخرج من سجن الأنانية ونجا من ظلمات الأنا وانتصر على كيد الشيطان، فلم يكن ممن استدرجهم كما استدرج أراذل الكفار الذين قالوا: «أنطعم من لو يشاء الله أطعمه»، وانتصر على إغواء الشيطان له بالعجب والمنّ، وحاز على شكر المنعم وزيادة النعم وبركتها؛ لأنه لله أعطى، وهذا هو الشكر العملي والسلوكي، وفاز براحة النفس وحياة الضمير وصدق المشاعر، حيث قدم خيرا أو أعطى مما معه بكل إخلاص، فتخلص من إثم الشح ومعصية البخل، وسمت نفسه فصار قدوة للآخرين، وينال حقيقة الثقة أن الله يخلف له ويبارك له ويجزيه بإحسانه إحساناً أكبر وأبقى أثرا.
فمن أراد أن يتاجر مع الله فما عليه إلا أن يبذل وينفق ويحسن مما معه، بلا منٍّ ولا أذى ولا رياء ولا عجب، فيكون الأثر النفسي له وفي داخل نفسه أكبر من أثر الإحسان على نفسية من وصل إليه، إضافة إلى دفع المكاره، الذي استفاضت في بيانه الأحاديث النبوية الشريفة في فضل الصدقة وبركة الإنفاق ونمو واستثمار الإحسان.
ويكفي من القرآن الكريم أن كل من لم يكن منفقاً يتمنى عند الموت العودة إلى الدنيا لكي يعمل صالحا بسعة فهم العمل الصالح، ولم يرد من العمل الصالح بنص صريح إلا الصدقة.
فتصدق وكن من الصالحين، وهذه إشارة واضحة صريحة أنه لا صلاح لشحيح ولا صلاح لبخيل ولا صلاح لمن لم ينفق، لذا فإن ثمرة الإحسان يقطفها طيبة مباركة المحسن نفسه وكم من بلاء دفع وكم من شر ابتعد وكم من كيد ومكر تحول إلى تمكين وظفر وكم من نحس زال وحل التوفيق بالإحسان والبذل والجود والإنفاق.
كما أن من إسراف الناس على أنفسهم بالمعاصي إسرافا يكون الإنفاق والإحسان كفارة له ومكفرا عنه، بل ودافعا له، فكلما كان العبد محسنا أنجاه الله من حبائل الشيطان وأبعده عن فتنة النفس الأمّارة بالسوء وأنقذه من غرور الدنيا. وما من مسرف على نفسه بالذنوب إلا نسي رحمة الله، ونسي قرب الله ومراقبة الله له، فإن أحسن وأنفق وبذل وأعطى فإن فعله هذا يسوقه ويقوده إلى الصفاء مما قد كدر به حياته ونكد به على نفسه من ضنك وأحزان وهموم، فبالإنفاق قدم اعتذارا عمليا عما بدر منه من زلات وآفات، فالراحمون يرحمهم الرحمن، ومن رحم خلق الله رحمه الله فأنقذه من نار ذل المعاصي وأخرجه من ظلمات الشيطان.
فابشر يا من تنفق وتعطي مما معك بألطاف تجد بها نسيم القر.
ومن أعظم الإنفاق وأجل الإحسان وأبقى وأبهى الكرم والجود أن تنفق على نفسك بالإنابة إلى الله، فأعظم الإنفاق أن تأخذ إرثك من آدم: «ربنا ظلمنا أنفسنا»، وتأخذ إرثك بعد سن الأربعين: و»أن أعمل صالحا ترضاه»، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين. ولا صلاح بلا إنفاق. فأنفق على نفسك بفتق لسانك إنابة إلى الله وعودة إلى رحابه بإظهار دوام الافتقار إلى الله الغني عن كل شيء وحاجة كل شيء إليه، إلى مدده وعونه ورعايته وحفظه وألطافه ورحمته وفضله ومغفرته وعفوه.