اليمن بالحبر الغربي -
عندما دعا السيناتور بيرني ساندرز للتصويت على قرار صلاحيات الحرب الذي من شأنه أن يحظر الدعم الأمريكي للجهود الحربية التي تقودها السعودية في اليمن؛ تراجعت إدارة بايدن على الفور، وحذر البيت الأبيض من أن القرار سيقوض الجهود الدبلوماسية ويؤدي إلى الحرب التي كان يحاول إنهاءها.
وجاء في نقاط البحث الذي أعده البيت الأبيض والتي عُممت سراً: «تعارض الإدارة بشدة قرار سلطات حرب اليمن على عدد من الأسس، لكن خلاصة القول هي أن هذا القرار غير ضروري وسيعقد إلى حد كبير الجهود الدبلوماسية المكثفة والمستمرة لإنهاء الصراع. كانت الدبلوماسية غائبة وكانت الحرب محتدمة في 2019. لكن ليس هذا هو الحال الآن؛ بفضل دبلوماسيتنا التي لاتزال مستمرة وناعمة، توقف العنف فعلياً على مدى تسعة أشهر تقريباً».
ومع ذلك؛ فإن ادعاءات البيت الأبيض بأن دبلوماسيته تنجح تقوضها تحركاته السياسية والوقائع على الأرض، فلطالما وقف مبعوث الرئيس جو بايدن للصراع إلى جانب التحالف السعودي ضد حركة الحوثيين التي تسيطر على جزء كبير من البلاد. وعلى الرغم من أن وقف إطلاق النار خلال فصلي الربيع والصيف قد أرجأ سقوط خسائر في صفوف المدنيين بسبب القصف، إلا أن الحصار السعودي المستمر والحرب الاقتصادية ضد اليمنيين تطيل أمد الأزمة الإنسانية في البلاد والتي اعتبرتها الأمم المتحدة الأسوأ في العالم.
وقال منتقدو سياسة واشنطن في الصراع اليمني إنه بدون اتباع نهج منصف بحثاً عن حل سياسي والتخفيف من حدة الأزمة الإنسانية، فإن مكائد إدارة بايدن لا يمكن اعتبارها جهوداً صادقة في الدبلوماسية.
وقال جمال بن عمر مبعوث الأمم المتحدة الخاص لليمن حتى سنة 2015، لموقع «إنترسيبت»: «لم نشهد أي تقدم دبلوماسي على الإطلاق»، مشيراً إلى أنه «لم تكن هناك عملية سياسية ولا مفاوضات ولا حتى آفاق لها؛ لذلك يمكن العودة إلى حرب شاملة في أي وقت».
إن الانقسامات في اليمن، إلى جانب سيطرة التحالف السعودي على حقول النفط والموانئ الجنوبية، وسيطرة الحكومة التي يقودها الحوثيون على مناطق في الشمال تضم حوالي 80٪ من سكان البلاد البالغ عددهم 30 مليون نسمة؛ تزداد تجذراً. وبدلاً من طلب تنازلات من حلفائها في التحالف السعودي، أسهم انحياز الإدارة الأمريكية في انهيار الدبلوماسية.
وعلى الرغم من أن العنف لم يعد إلى مستوياته السابقة منذ انتهاء مدة وقف إطلاق النار في تشرين الأول/ أكتوبر، إلا أن القتال مستمر على طول بعض الخطوط الأمامية. وحذر الحوثيون من أن ضبط النفس لن يدوم طويلاً وسط المأزق الحالي واستمرار الحصار المفروض على واردات الوقود، وقالوا إنه إذا لم يتم تخفيف القيود على الحظر، فإنهم سيغلقون ممراً مائياً قريباً مهماً لأسواق النفط العالمية على أساس المعاملة بالمثل، فالوضع يزداد حدة.
المساعي الدبلوماسية التي استشهد بها البيت الأبيض إلى حد كبير في معارضة قرار ساندرز بشأن قرار سلطات الحرب -وهي جهود غير فعالة حتى الآن وتمنح الرياض مجالاً للمناورة- تتبع النمط الذي اتبعته منذ وقت مبكر من الإدارة الأمريكية عندما تعهد بايدن بالعمل نحو إنهاء «العمليات الهجومية» لحرب اليمن، فيما انخرطت المملكة السعودية في حملة القصف الأكثر عدوانية تحت عنوان «العمليات الدفاعية».
وفي ظل هذه الظروف؛ بقي التقدم نحو إبرام معاهدة أمرا بعيد المنال، ففي حين سيطرت جماعة الحوثي بشكل مطرد على مناطق عديدة واكتسبت دعماً سياسيّاً في البلاد؛ حافظت الحكومة المدعومة من السعودية وغيرها من المليشيات المتحالفة معها على السيطرة على المناطق الغنية بالنفط والموانئ في الجنوب، مما مكّن من فرض الحصار. ورفض بايدن الدعوات للضغط على السعودية لتخفيف الحصار عندما تسبب في أسوأ أزمة وقود في تاريخ اليمن. بدلاً من ذلك، عندما علق مسؤولو الإدارة، تجنبوا تسمية السعوديين، ودعوا بدلاً من ذلك «جميع الأطراف» إلى السماح باستيراد الوقود دون عوائق.
ووسط استمرار الحصار وتفاقم أزمة الوقود؛ هاجم الحوثيون أبوظبي أواخر كانون الثاني/ يناير 2022 بهجومين منفصلين أحدهما طال قاعدة عسكرية أمريكية. وفي آذار/ مارس؛ استهدف الحوثيون موقع تخزين تابعا لشركة النفط الوطنية السعودية، في ثاني أجرأ هجوم على منشآت نفطية سعودية. وبدلاً من إقناع السعوديين بخفض التصعيد، تعهدت إدارة بايدن بالدفاع عن الرياض وأبوظبي ضد ما وصفوه بالهجمات «الإرهابية».
ومع ذلك؛ أصبح التهديد الذي يواجه إمدادات النفط العالمية واضحاً، وهو خطر لم يكن البيت الأبيض مهتماً به مع تزامن ذلك مع خوض الانتخابات النصفي والحرب بين روسيا وأوكرانيا. وبعد أسبوع من الهجوم على البنية التحتية النفطية السعودية، تمكنت الأمم المتحدة، بدعم من الولايات المتحدة، من جعل جميع الأطراف تتفق على هدنة من شأنها أن تسمح بإجراء محادثات حول تسوية الصراع الذي دام لسنوات. وقال بروس ريدل؛ محلل مخضرم في وكالة المخابرات المركزية وزميل أول بمعهد بروكينغز، في رسالة بالبريد الإلكتروني: «وافق السعوديون على الهدنة بعد أن أدركوا في وقت متأخر أنهم يغرقون في مستنقع باهظ الثمن». وأضاف أن «فريق بايدن أسهم في وصولهم إلى هذه النقطة إلى جانب الكثير من المساعدة من الأمم المتحدة وسلطنة عمان».
وسمحت الهدنة التي استمرت شهرين بوقف جميع الضربات الجوية السعودية والقتال البري وتيسير واردات الوقود إلى شمال اليمن، مقابل وقف صواريخ الحوثيين وضربات الطائرات المسيرة على السعودية.
وصمد وقف إطلاق النار إلى حد كبير واستمر تجديده حتى 2 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي؛ عندما رفضت حكومة الحوثيين تجديده مرة أخرى.
وألقت حكومة الحوثيين باللوم على الرياض وواشنطن لتجنب القضية الأهم بالنسبة للتحالف الذي يقوده الحوثيون: مدفوعات الرواتب الشهرية لموظفي الدولة؛ حيث نقلت الحكومة المدعومة من السعودية البنك المركزي اليمني إلى الأراضي التي تسيطر عليها منذ سنة 2016، متهمة حكومة الحوثيين بتحويل أموال البنك إلى المجهود الحربي، وهي تهمة وجد مراقبون دوليون وجماعات إغاثة أنه لا أساس لها من الصحة، وقد وعدت الحكومة المدعومة من السعودية بالحفاظ على سياسة البنك المتمثلة في دفع رواتب جميع الموظفين العموميين، الذين يقدر عددهم بمليون موظف يدعمون حوالي 10 ملايين مواطن آخرين، لكنها لم تلتزم بكلمتها، وحرمت ملايين اليمنيين من مصدر دخلهم الوحيد.
ووضع التحالف الذي يقوده الحوثيون قضية دفع الرواتب كشرط لتجديد الصفقة، لكن السعوديين وافقوا فقط على رواتب العاملين في قطاعي الصحة والتعليم، بينما أكد الحوثيون أن عائدات صادرات النفط في المناطق الخاضعة للحكومة المدعومة من السعودية، والتي تمثل ما يقرب من 70٪ من ميزانية اليمن، يجب تخصيصها لدفع رواتب جميع الموظفين العموميين، ولكن لا يمكن لأي دبلوماسية يقودها بايدن -سواءً كانت مكثفة أو حساسة أو مستمرة أو غير ذلك- إقناع السعوديين بالتوقف عن تحويل أموال الموظفين العموميين اليمنيين إلى الرياض.
لم يُحرَز أي تقدم يذكر في مسألة رواتب الموظفين العموميين، ووصف مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مطالبة حكومة الحوثيين بدفع رواتب جميع الموظفين العموميين بأنها «غير واقعية» و»متطرفة»، وخلال جلسة استماع في الكونجرس في كانون الأول/ ديسمبر الماضي؛ ألقى تيم ليندركينغ، مبعوث بايدن إلى اليمن؛ باللوم على حكومة الحوثيين في المأزق الحالي، منتقداً «مطالبة الحوثيين في اللحظة الأخيرة من الحكومة اليمنية بتحويل عائدات تصدير النفط المحدودة لدفع رواتب المقاتلين الحوثيين النشطين».
إن ما تعتبره الولايات المتحدة غير واقعي هو في الواقع مطلب من الديمقراطيين في الكونغرس، فما طالبت به صنعاء كشرط لتجديد الصفقة لم يكن مستحيلاً أو حتى غير واقعي؛ حيث دعت مجموعة من 16 من أعضاء مجلس الشيوخ -إلى جانب العديد من منظمات الإغاثة- بايدن في أيار/ مايو 2021 لإنهاء الحصار السعودي، وفي حين أن إدارة بايدن قررت إبقاء الحصار وسيلة ضغط في المفاوضات، فقد قال أعضاء مجلس الشيوخ إن الحظر «يجب أن ينتهي اليوم وأن يتم فصله عن المفاوضات الجارية».
بالنسبة للمنتقدين؛ فإن موقف إدارة بايدن -باعتبارها أن مدفوعات الموظفين العموميين اليمنيين باهظة كثمن لتأسيس وقف جديد لإطلاق النار- ليس نهجاً جاداً لإنهاء الحرب.
وقالت شيرين الأديمي، الأستاذة المساعدة في جامعة ولاية ميشيغان وزميلة غير مقيمة في معهد كوينسي: «هذه المطالب تفيد العمال اليمنيين العاديين، وليس حكومة صنعاء نفسها»، مشيرة إلى حكومة الحوثيين في العاصمة صنعاء، وأضافت: «إن ما هو «غير واقعي» بل وقاسٍ هو الاستمرار في حرمان ملايين الموظفين العموميين من رواتبهم لسنوات عديدة وإفشال مفاوضات وقف إطلاق النار بسبب مطلب إنساني وليس سياسياً أو عسكرياً».
لقد كان الهدوء النسبي في القتال ووقف القصف الذي شهدته البلاد منذ نيسان/ أبريل الماضي أمراً نادراً، لكن تأثيره مع ذلك كان ضئيلاً على الفئات الأكثر ضعفاً، فالكثير من معاناة اليمنيين نتجت في الواقع عن الحصار وتكتيكات الحرب الاقتصادية الأخرى، وليس عن الرصاص والقنابل.
إن الوضع الراهن لا يحفز الحوثيين للحفاظ على هدنة تسبب البؤس للناس الذين تحت حكمهم دون أي تنازلات جدية حول الحصار أو مدفوعات موظفي الخدمة العامة، في المقابل عرضت الحكومة الحوثية وقف قصفها للسعودية وشركائها في التحالف، ووافقت السعودية، بتشجيع من البيت الأبيض، على تخفيف القيود على واردات الوقود فقط.
وعاد المفاوضون العمانيون إلى شمال اليمن في أواخر الشهر الماضي، وعرضوا على الحوثيين الجلوس مع السعوديين لمناقشة القضيتين، لكن عبدالملك الحوثي، زعيم جماعة الحوثي وصاحب القرار فيها؛ رفض العرض باعتباره محاولة سعودية أخرى للتهرب من معالجة الأزمة الاقتصادية أولاً، والتي شدد هو ومساعدوه على ضرورة فصلها عن أي قضايا أخرى يجري التفاوض بشأنها، كانت رسالة الحوثيين بسيطة بحسب مصدر مطلع على المحادثات: دفع رواتب جميع الموظفين العموميين، ورفع الحصار عن ميناء الحديدة الشمالي ومطار صنعاء، ومن ثم يمكن للطرفين الجلوس معاً للتفاوض على شروط أخرى.
ومع ذلك لا يبدو أن من المرجح أن يتزحزح السعوديون والإماراتيون، فحتى الآن لم يقدموا تنازلات إلا في مواجهة العنف الموجه ضد أبوظبي وحقول النفط السعودية، وليس من خلال المفاوضات التي يقودها بايدن.
قد تكون الديناميكية الكامنة وراء معارضة البيت الأبيض لقرار بيرني ساندرز المتعلق بسلطات الحرب هي أنه بدون دعم الولايات المتحدة لطائرات السعوديين الحربية، فإنهم سيكونون مقيدين بشكل فعال، وربما يشجع ذلك الحوثيين، الذين على أهبة الاستعداد، لإعادة إطلاق الصواريخ والتأثير على أسواق النفط العالمية من أجل إنهاء الحصار، فقد أدت هجمات الحوثيين التي كانت تهدف إلى تقديم التحذيرات حتى الآن إلى خوف قباطنة الناقلات من تفريغ ملايين البراميل من النفط الخام التي كانت ستفيد الحكومة المدعومة من السعودية.
وفي مواجهة واقع تصعيد الحوثيين لهجماتهم؛ يمكن لإدارة بايدن إمّا أن تعاند وترفض تلبية مطالب الحوثيين المعقولة مع صد معارضة الكونغرس للحرب، أو يمكن للبيت الأبيض الضغط على السعوديين من أجل إنهاء فعلي للحرب، وفي محاربته لقرار ساندرز؛ اختار البيت الأبيض العناد حيث إن دبلوماسية إدارة بايدن «مستمرة» ولكن ليس من الواضح أنها ستحقق أي شيء يذكر، مما يجعل تجدد العنف يبدو الآن أمراً لا مفر منه.
* شعيب المساوى
 إنترسيبت