علي نعمان المقطري / لا ميديا -
ما زالت النهضة العربية الإسلامية والوطنية معلقة ومؤجلة للأسف بعد مرور عدة قرون منذ انتهاء الغرب من إنجاز نهضته في القرن السابع عشر، قبل ثلاثة قرون، وهي ما ينقصنا عن تلك الحقبة، وهو نقص ليس زمنيا فقط وإنما ما نحتاجه ما هو أشمل من ذلك، فليس التخلف تخلفا زمنيا فقط، بل هو تخلف مركب ومعقد يعود إلى ظروف ذاتية وموضوعية تاريخية، أبرزها الاحتلال والتبعية والسيطرة الأجنبية والإمبريالية، وهي كلمات تختزل الكثير من الأسباب والعلل التي حكمت علينا أن نبقى في هذا الوضع المأساوي المأسوف عليه.
والموضوع يتسع ويتشعب، وهو يتعلق بالمضامين والجواهر المختلفة للعلل التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه الآن. كلمات مثل الإمبريالية والهيمنة الأجنبية تختصر كل شيء وتفسر كل شيء في هذ المجال؛ لأن الباقي مجرد تفاصيل في النهاية. وأعلم أن كثيرا من أتباع التفكير الآخر ينزعجون من إعادة المصاعب إلى الأجنبي والاستعمار؛ لا لأنهم الآن في حالة تفاهم مع الغرب وموالون للاستعمار ولا يرون فيه بأسا ولا إشكالا، بل هو في نظرهم أساس التحضر والرقي الذي حصلت عليه شعوبنا وأممنا المتوحشة، ونقلها من البداوة والتوحش إلى الحضارة والحداثة والتقدم، كما يقولون!
ويستدلون على ذلك بقولهم إن الوجود الفرنسي البريطاني الغربي في منطقتنا العربية هو ما أحدث الصدمة الحضارية الأولى في ثقافاتنا الجامدة التي كانت قائمة في الثقافة الملوكية التركية العثمانية السائدة (لمدة خمسمائة عام) وقطعت الطريق أمام شعوبنا وأمام نفسها عن التقدم والنهضة، لأنها حافظت على أنماط التخلف والاستبداد والفساد. وهذا واقع لا غبار عليه، لكن بدلا من أن يصلوا في استنتاجاتهم إلى ضرورة تحقيق الاستقلال التام شرطا لتحقيق النهضة هم يذهبون اتجاها معاكسا، أي أنهم يطلبون النهضة برهن الاستقلال والحرية لدى الغرب، حيث يصنعون حلفا معاكسا للاستبداد العثماني والشرقي باستعمار أوروبي غربي بديل. وهذه هي نقطه انطلاق جميع النهضويين العرب السابقين بكل اتجاهاتهم من اليمين إلى اليسار، ولذلك فشل الجميع في تحقيق أي اقتراب من قضية النهضة الوطنية والقومية والإسلامية والاجتماعية، لأن جوهرها والرئيسي فيها هو نقل التبعية من الأتراك إلى الغرب، وهم بهذا لا يفعلون شيئاً تجاه قضايا الاستقلال والحرية والسيادة والهوية والثقافة والاقتصاد الوطني.
وإذا طال الاستغراب حول لماذا هذا الانهيار الأيديولوجي تجاه الغرب إلى تلك الدرجة؟ و"يبطل العجب إذا عرفنا السبب"، كما يقال في الأمثال، فالسبب الرئيسي لهذا الهيام بالغرب الذي ميز أولئك النهضويين الكبار هو المصلحة الذاتية لهم ولطبقاتهم التجارية البرجوازية الكومبرادورية الباكرة المرتبطة التحاما بالشركات الغربية ووكلاء لها وحلفاء وشركاء لوكالاتها أو جنسياتها التي عادت بالأموال الطائلة عليهم وعلى أسرهم المتطلعة إلى اقتسام فوائد التغريب.
فليس الجهل بشروط النهضة هو ما سبب الانهيار، وإنما المصالح التجارية الخارجية لأهل النهضة وقادتها التاريخيين هي التي أدت إلى تدمير أسباب النهضة، وهي سمة صاحبت نخب الأمة طوال أجيال وأجيال ومازالت قائمة، وتتجلى في عدم الرغبة في التضحية بقسم من الفوائد والأرباح من جانب النهضويين لصالح مشروع الحرية والاستقلال، ولذلك أغمضوا عيونهم طويلا عن الحقيقة، لأنها تلزمهم بأن يتخلوا عن تلك المصالح المتشابكة مع الغرب الاستعماري.
والمصيبة أن فكرة التغريب قد تغلغلت في أعماق القادة العرب منذ وقعت مصر المحروسة تحت سيطرة العثماني محمد علي باشا وأسرته وأعوانه، حيث أراد النهضة لذاته أولاً، ولحاجة جيشه قبل كل شيء، وليس تلبية لحاجات الأمة التي يسيطر عليها، فقد كان أول إنجازاته هو الإيغال في استعباد المصريين أكثر من ذي قبل، ويتجلى ذلك في نهب الأراضي الخاصة والعامة لمصر والمصريين، وتحويل الملاك الأحرار المصريين والعرب المسلمين والأقباط إلى مجرد عبيد للأرض بالسخرة، وصادر جميع أراضي العرب والمسلمين وقام بتوزيعها لأقاربه ولطبقته التركمانية وأتباعه الإقطاعيين المهجنين من غير العرب، وأقام نظاما استبداديا معاديا للعرب المصريين وأخضعهم للاستغلال والسخرة والإفقار والتجويع والكرباج، وكل هذا لا يذكره النهضويون، بل على العكس هم يتغنون بأمجاد محمد علي باشا وأبنائه ومماليكه من بعده.
ونعلم اليوم أن محمد علي باشا وخلفاءه هم الذين فتحوا الأبواب أمام الغرب من الفرنجة والإنجليز لالتقاء المصالح بين الجانبين، مصالح الباشا المتسلط على مصر ومصالح الاستعمار الغربي، للتخفف من سيطرة الباب العالي في استانبول، ولكنه كان بثمن باهظ، هو استقلال وحرية وحقوق مصر والمصريين والعرب، لأنه كان نموذجا لكل ما عانته الشعوب العربية في الشام والعراق واليمن والجزيرة والخليج والمغرب العربي وغيرها، ووضع البلاد تحت هيمنة الفرنجة ومصالحهم في الشرق، وهو ما جعل نابليون فيما بعد يتحول إلى متصوف مسلم زاهد مداوم على الأوراد والواجبات الإسلامية الموهومة، وتسمى باسم إسلامي ولبس العمة والقفطان الأزهرية التقليدية وتبعته فتاوى شيوخ الأزهر التي تشيد بإنجازاته وإخلاصه للإسلام، وكانت تلك من مظاهر الانهيار الروحي والأخلاقي والديني والعقيدي الذي وصل إليه العرب في ذلك الوقت.
وهل كان رجال وشيوخ الأزهر جاهلين إلى هذا المستوى وواقعين في مكائد الغرب فعلاً؟! أم كان مجرد مناورات وسياسات؟! إنما هي المصالح التجارية والاجتماعية التي كانت قد أسست من قبل الباشا، عندما حول الشيوخ الأزهريين إلى تجار وجعلهم أقرب إلى رجال الطبقة السائدة، بمنحهم رساميل ووكالات يعتاشون من أرباحها وعوائدها لكي لا يفكرون بروحية العامة من الشعب المصري المسلم، ولكي يتمكن الباشا من كسر عيونهم وإضعاف عزمهم عن التصدي للمطالب الإصلاحية والتصدي للمظالم الناجمة عن السخرة والإقطاعية (العلية). ويراجع المؤرخون العرب لهذه الفترة ومنهم الجبرتي للمزيد من التفصيل في هذ الموضوع الهام.

كان الباشا يدور همه حول كيف يحصل على حكم مصر، ويجعل منها له ولأبنائه نقطة انطلاق إلى المملكة الأكبر التي يحلم بها في ظل وعود فرنجية فرنسية بالدعم والإسناد الشامل، عسكريا وأمنيا وصناعيا تجاريا، مقابل فتح مصر أمام الاستثمارات والمصالح الغربية وطعن العثمانيين في خاصرتهم ومعهم قضايا المسلمين عامة، وجيوسياسيا بدرجة أساسية. وعندما عرض السلطان الأعلى على الفرنسيين والإنجليز والقياصرة الروس واليهود فوائد أكبر وتبعية أكبر لهم في أراضي الإمبراطورية العثمانية والعربية، سرعان ما تخلت عنه فرنسا وأطاحت به وأعادته إلى التبعية مجددا خاضعا للباشا العثماني، وتوقفت محاولات النهضة الجزئية التي حاولها الباشا مع الفرنجة، وتم إغلاق مرافقها وإنقاص عديد جيشه إلى 15 ألف جندي فقط وتجريده من الأسلحة الرئيسية الثقيلة وإزالة سلاح البحرية من تكوينه.
وبهذا الوضع عادت قضية النهضة إلى ثلاجة الزمن، حتى أتى القرن العشرين وحدثت تحولات عالمية جديدة بعد الحرب العالمية الأولى، ووعد بلفور وسان ريمو، وكل الحقائق المرعبة التي ظهرت بعدها، فكانت الفضيحة لكل الذين راهنوا على الغرب لتحقيق الاستقلال العربي من القوميين والعرب في طورهم التقليدي من ملوك وأمراء، وعادت الأمة مجددا تحت نير الاستعمار الغربي بعد تجاوز دولة الأتراك واستبدادهم.
وكان أول ضحايا أوهام الخديعة البريطانية الفرنسية هم حكام الحجاز العرب، الذين سحبوا الوعي القومي العربي الساذج إلى الالتحاق بركب الحرب البريطانية الغربية ضد العثمانيين، التي سُمّيت بـ"الثورة العربية الكبرى" (1916) التي أدارتها بواسطة مخابراتها البريطانية بقيادة الضابط الشهير "لورانس"، قبل أن تظهر المؤامرة علنا بعد أن فضحتها قيادة الثورة الروسية البلشفية بزعامة لينين، الذي نشر تلك الوثائق والاتفاقات السرية التي عقدها المستعمرون الغربيون فيما بينهم وشاركهم القيصر الروسي المخلوع مقابل منحه أراضي تركية بعد هزيمتها، ومنح اليهود فلسطين كقاعدة استعمارية متقدمة ضد توحيد العرب ولتدمير قوتهم وتقدمهم والاستيلاء على أراضيهم وثرواتهم وممراتهم الاستراتيجية، ومعها تكشفت المؤامرات المتشابكة التي حاكها الإنجليزي والفرنسيون واليهود الصهاينة وبنو سعود المتصهينون الذين سيحلون محل الشريف حسين بعد أن رفضوا التوقيع على منح فلسطين لليهود ولبريطانيا، وفعلها بنو سعود، وعبد العزيز خاصة، ووقع لهم بخط يده وتوقيعه وشهد بهذا كل المؤرخين الموضوعيين، وكانت تلك صدمة هائلة للعقل العربي وللشعب المسلم كله.
وبدلا من أن تكون بداية لنهضة عقلية حقيقية للعرب تجعلهم يفيقون من الوهم الذين أوقعهم فيه رجالاتهم وقادتهم ونخبهم التقليدية، راح عدد من المثقفين الحداثيين من خريجي الغرب الأوروبي المهاجرين في الغرب في أغلبهم، يطرحون القضية النهضوية مجددا بطريقة خبيثة تتوافق مع مخططات الغرب الاستعماري، مستغلين عواطف الكراهية المتكونة للعثمانيين عند العرب، للنفخ في أسطورة تقليد الغرب طريقا للنهضة والتحرر والاستقلال والتقدم، وذلك عبر "التأورب" وتقليد الغرب في كل حياته وأساليبه.
وقد سيطر هذا الاتجاه الفكري الجديد على المنابر الجديدة التي نشأت في ظل الاستعمار الجديد. وكانت مصر والشام والمغرب والجزيرة العربية والعراق وإيران والهند المسلمة وإمارات الخليج الصغيرة هي مراكزه الاستعمارية المتقدمة الكبرى.

محاولات البعث القومي النهضوية في ظل التبعية ومآلاتها
مثلما حاول الناصريون القوميون، في منتصف القرن الماضي، إنجاز نهضة ناقصة في ظل التبعية الخارجية وفشلت وراوحت مكانها وسقطت التجربة في النهاية؛ حاول البعث (الصدامي البكري) القومي إنجاز نهضة عراقية عربية كبرى، كما ادعت أدبياته ووثائقه، وقد توفرت بين يديه مقدرات مالية هائلة وضخمة، فقد كان العراق ومازال يرقد على بحر من النفط والمعادن والأرض الخصبة والمياه العذبة؛ لكن تلك الثروة لم يحسن استخدامها، وكانت الحصيلة مفجعة بعد عقود من الاضطرابات الإقليمية والداخلية، كانت مأساوية وكارثية، وخلف الضجيج الإعلامي الديماغوجي الواسع الذي كانت ماكينة الدعاية تلوكه كانت تختفي الإشكالية الجوهرية لأزمة نظام التبعية الخارجية المغلفة، وسيطرة قوى الخارج الأجنبي على الإرادة الوطنية الداخلية، وهي الإشكالية التي أفصح عنها زعيم البعث السابق نفسه، السيد علي صالح السعدي، زعيم البعث العراقي الأكبر، في مذكراته، بعد مجازر انقلاب 63م والسيطرة على السلطة وإعدام قادة الثورة العراقية الأصيلين برئاسة الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه.
هذ الانقلاب هو ما وصفه الزعيم السعدي فيما بعد، عند المراجعات الذاتية، بأنه كان قاطرة المخابرات الأمريكية والغرب البريطاني والخليجي الرجعي الذي خطط ودعم وهيأ وسلح وتجسس وشارك بشكل مباشر وغير مباشر في الانقلاب ورفعهم إلى الحكم، ومعنى هذا أن مجيء هؤلاء إلى السلطة كان -حسب شهادة قادتهم أنفسهم- مشروعا أمريكيا غربيا بالوكالة.
وبالعودة إلى مذكرات قادة البعث السوري التقليديين، أي نظام ما قبل الرئيس حافظ الأسد، نجد أنهم يعترفون بأنهم قد تعاونوا مع الغرب ومع انقلاب البعث العراقي ضد الثورة، بهدف السلطة، كما أنهم أرادوا الوحدة مع مصر عبدالناصر بتلك الحماسة، ثم تخلوا عنها بالحماسة نفسها بعد أن حققوا أغراضهم منها، وأن هدفهم الأول كان استخدام نظام عبدالناصر القمعي في القاهرة، بهدف قمع الأحزاب الوطنية والاشتراكية المنافسة للبعث في سورية، الذين فازوا في انتخابات البرلمان السوري وتوسع حضورهم وتأثيرهم بين الشعب وفي مفاصل الدولة.
وباسم الوحدة مُنعت الأحزاب الأخرى، وباسم الوحدة قُمعت الأحزاب والقيادات، إلى حد القتل بالأسيد وتذويب الجثث في البانيوهات أيام الفريق عبدالحميد السراج، نائب عبدالناصر في دمشق، والمشير عبدالحكيم عامر حاكم سورية.
لن نطيل كثيرا في الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب العراقي ووحدته، عربا وأكرادا وأقليات، شيعة وسنة، قوميين ويساريين ووطنيين ونقابيين ومثقفين وأدباء ومفكرين وخريجين وعلماء وقادة عسكريين وسياسيين وفقهاء ورجال دين ونساء.

كانت أجهزة "البكر – صدام" تلاحق المعارضين السياسيين والوطنيين إلى مختلف دول العالم والمنطقة، وتغتالهم وتقتلهم بشتى الأساليب القاسية والوحشية، وأصبح الصراع على السلطة بين الأجنحة الداخلية لبعث العراق هو الشغل الشاغل لرجال الحكم والدولة هناك.
وجهت الأموال نحو الاستيراد، استيراد كل شيء، من الخارج، ومنها الأسلحة والتدخل في البلاد الأخرى، المجاورة والعربية، وتبديد القدرات العراقية في الحروب، ومحالفة الغرب وضخ الأموال الضخمة إليه على شكل استيراد السلع الجاهزة والمعلبة والملابس ومواد التجميل وبناء القصور وشراء السيارات الفخمة والحفلات وتوزيع الهبات على المحاسيب...
وكل ما كان قد راكمه العراقيون خلال عقود من أموال وقدرات وثروات واستثمارات تم تبديدها في حرب صدام على جارته إيران التي استمرت 8 سنوات واستنزفت كل الصناديق العراقية وخرج منها مديونا، ثم وقع في مغامرات مجنونة من احتلال الكويت إلى حرب الأكراد إلى حلبجة إلى الدجيل، ثم هيأ العراق للوقوع تحت الاحتلال الأمريكي، عبر شن حرب الخليج الثانية، والخروج منها مدمرا عسكريا واقتصاديا واجتماعيا ووطنيا، بعد أن دُفع إليها بإيعازات أمريكية، حسب روايات كثيرة، ومنها كتاب محمد حسنين هيكل "حرب الخليج"، فقد أسرف كثيرا في أحلام اليقظة، حيث اعتقد أنهم سوف يعتمدونه بديلا لنظام شاه إيران، شرطيا على الخليج، وكان يصدقهم كثيرا ويراهن على تحالفات طويلة معهم.
العراق الأغنى نفطا وزراعة ومياهاً وأرضا وسكانا وأموالا وثقافة وتعليما وفنيين وعمالا وفلاحين ومهندسين يقع بكامله تحت السيطرة الغربية في نهاية المطاف، ويغدو بلدا محتلا كبلد من بلدان أمريكا اللاتينية، أو آسيويا صغيرا يحتله بضع مئات من الجنود المارينز الأمريكيين ومن شركات الأمن الغربية الخاصة للعمليات القذرة. وكانت النهاية التي مازالت ماثلة أمام أعيننا هي خير شاهد على ما تفعله التبعية الأجنبية وسيطرتها على القرار الوطني.
إن المتغربين التبعيين من كل الاتجاهات يعلمون يقيناً أنهم تابعون في النهاية للقرار الأجنبي، الذي لا يسمح بإحداث نهضة حقيقية، ومهمة القادة المحليين هي أن يقنعوا الشعوب بأنهم لا يمكنهم التقدم بدون الارتباط بالأجنبي الغربي والتبعية له وخدمته وتبادل الخدمات والمنافع بكل حذق وكياسة وسياسة، وهم مهما فعلوا إنما يثبتون دون أن يريدوا صحة مقولات الهيمنة الأجنبية التي امتدت خمسة قرون ومازالت قائمة بأشكال مختلفة حتى لدى البلاد التي تدعي أنها استقلت وتحررت ونهضت من الاحتلالات العسكرية، لكنها وقعت ضمن السيطرة الاقتصادية السياسية والثقافية الأجنبية، وهو واقع لا ينكره حتى العميان، والسبب الرئيسي لهذا الواقع، أقصد الهيمنة الاقتصادية السياسية، رغم انتهاء عصر السيطرة العسكرية المباشرة، هو أن النخب التي حققت الاستقلال المزعوم كانت للأسف تابعة للنخب الغربية ومن تربيتها، وقد ساعدتها على تحقيق الاستقلال الشكلي الصوري القائم مقابل الانتقال إلى الوقوع تحت هيمنتها الثقافية والاقتصادية والسياسية والاستراتيجية في عصر السيطرة المادية المالية.
هذه التبعية العميقة التي كانت قائمة بين طرفي المعادلة (الجيوسياسية الأجنبية والمحلية) في القرن الماضي وما قبلها، شكلت التبعية الجديدة المستمرة إلى الآن، وهي التي أشار إليها كثير من المفكرين التابعين للأنظمة القومية المأزومة، عندما سموا ثوراتهم بـ"الثورات الناقصة"، أو "الثورات إلا خمسة"، بتعبير الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل حول الثورة المصرية العسكرية في كتاباته العديدة وهو يقيم ثورة يوليو الناصرية القومية بعد رحيل زعيمها وسقوطها في عهد السادات بواسطة أحد أعمدتها وأطرافها وليس من خارجها، والسبب الرئيسي كان هو أنها من البداية قامت على فكرة التبعية الفكرية الاستراتيجية للغرب الأمريكي الجديد فكريا واقتصاديا وأمنيا وعسكريا وسياسيا وهوية وقدوة، واعتباره نموذجا للتقدم والتطور والحداثة والنهضة، ولعب الدور الكبير فيها الغرب الأمريكي الإمبريالي في التحضير لتلك الثورات القومية سواء البعثية أو الناصرية الخالصة.
هذا الاغتراب الواضح عن الاستقلالية والحرية، جعل مصير الثورة والبلاد معلقا بشعرة من الغرب. وادعاء أن عبدالناصر قد خرج من تحت تبعيتها نهائيا هو كلام غير حقيقي وأن قراراته أصبحت مستقلة بعد فترة من التعاون مع الغرب هو كلام كذب لا أساس له، رغم الخطابات ودويها في أرجاء الفضاء العربي فقد كان مظهريا لا حقيقيا.
وصحيح أنهم قد استفادوا من التعاون مع الغرب والتحالف معه، والأصح أن يقال إنهم قد تسولوا من الغرب تسولاً وما زالوا يتسولون طعام العيش رغم أنها أرض الخصب والقمح ومصدر غذاء العالم.
إنهم بتعاونهم، أي الغربيين، في تلك الثورة (الانقلاب) قد صاغوها حسب رواية الغرب الجديد نفسه وما يسمح به، ودمجوا مصالحهم بمصالح الغرب وأهدافه الاستراتيجية. وهل كانت المساعدات المالية النقدية والعينية الاستراتيجية والمقدمة للضباط الثوار مجانا بدون مقابل يدفع آجلا أو عاجلا؟ الجواب: لا، وإنما قد قبلوا ذلك عن قناعة أنهم كانوا عاجزين عن إنجاز أي حركة إصلاحية دون دعم من الغرب الاستعماري نفسه واستثمار تناقضاته، وهذا معناه أنهم اختاروا نصف الاستقلال فقط، هذا إذا افترضنا أنه يمكن تقسيم الاستقلال والحرية ومرحلتهما، ولذلك جاء الوضع مخترقا من اليوم الأول لنظام الثوار العتيد، بل من قبل أن يقوم الانقلاب المخطط له، وهذا مثبت وموثق في مذكرات جميع أطراف الانقلابات العربية القومية والعسكرية. والمصيبة ليس في التعاون مع الغرب فقط، وإنما هو التضليل بشأن الحقائق الواقعة وإخفائها وتصويرها بأنها مؤامرة استعمارية لتشويه الإنجاز العظيم للثوار القوميين ولزعامة القيادة العظيمة الإعجازية التي أجبرت الاستعمار على الخضوع والرحيل عن البلاد وتسليم السلطة والحكم لأهلها، ومن حيث الشكل الظاهري صحيح، ولكن من حيث الحقيقة والباطن فقد أوكلوا الحكم إلى أتباع الغرب الاستعماري (الإنجلوساكسوني) نفسه ومن أبناء البلاد الأقحاح، وليس من المهجنين وبقايا الأتراك والأقليات، بل من الأصلاء هذه المرة، لكي يتم سبك الدور جيدا، وهكذا انطلت الحيلة وعبرت في عيون المواطنين السذج والضباط الصغار السذج أيضاً، حتى جاءت المصائب ونكسات الهزائم الكبرى وفتحت الدفاتر المخفية ونشرت تحت نور الشمس الوقائع والحقائق عما حدث في البلاد، وخاصة بعد سقوط التجربة ونظامها على أيدي بعض وأهم رجالها.
عندها ظهر الكثير من النواحين والكتاب البيروقراطيين والديماغوجيين الذين خدموا النظام الناصري السابق ثم عادوا بعد الانقلاب عليه بالحماس نفسه يخدمون المنقلبين الاستعماريين، ثم عادوا يبكون عليه بعد إبعادهم من قبل النظام الانقلابي الجديد خلال الساداتية ومعقباتها التالية.

النقد الموضوعي أساس النهضة الحقة 
كان من المتوقع من الناصريين والقوميين الوطنيين الحقيقيين أن يكونوا أول من ينتقد التجربة المحسوبة عليهم وحلفائهم اليساريين إيجابياً، والإشارة إلى اختراقاتها بوضوح والتبرؤ من تلك الاختراقات، والتمسك بما يثبت فعلا أنه سليم المضمون، وإن كانت الحقيقة تفرض التخلص منها كلية لا مانع، فهي تجربة قابلة للتقويم والإصلاح والنقد وليست مقدسة، وأشخاصها ليسوا فوق النقد وأصحاب قداسة وراحوا يصورونهم كأبطال، موهومين بأنهم فوق الأخطاء وفوق النقد، فهم أشبه بالأهرامات كما أشار بعض الشعراء العاطفيين. ولكن الموضوع ليس شعراً ولا ردحاً ولا عواطف، لا حبا ولا بغضا؛ لكنه حقيقة يتم البحث عنها ووضعها في سياقها كما هي دون رتوش ومحسنات.
وهذ المنهج المتبع في السياسة القومية هو منهج اللامنهج في الحقيقة واللا نقد واللاواقعية وإلا موضوعية، السائدة في طريقة التفكير السياسي العاطفية للقيادات القومية الوطنية الراهنة التي مازالت عاجزة عن فهم ما جرى إلى الآن، ليس جهلاً بالحقائق وإنما رفضاً للتغيير والتطور والتحول الضروري في الفكر والسياسة والفلسفة والحكمة التي تتطلبها النهضة. والسبب الذاتي الآخر هو أن اختراق المستعمر قد وصل إلى الفروع بدوره، ولم يقتصر على المركز بل شمل كل الفروع والمجالات التابعة للحركة.
وفي العراق القومي كان الأمين العام السابق للبعث العراقي (السيد علي صالح السعدي) في مذكراته المنشورة خارج العراق بعد انقلاب البعث على قيادة عبدالكريم قاسم وإعدامه واغتيال عشرين ألف شاب عراقي يوم الانقلاب تصدوا للانقلاب المدعوم أمريكيا ورجعيا سعوديا وخليجيا ومصريا، قد قال صراحة: نحن جئنا إلى الحكم على قاطرة أمريكية مخابراتية، وكانت النتيجة هي إبعاده وترحيله عن البلاد، ومات منفيا منسيا لأنه لامس الحقيقة، وهو ما ينطبق على انقلابات قومية أخرى، ويكشف بوضوح طبيعة العلاقات المؤسسية بين الثوار العسكريين الضباط المجمهرين، والغرب الاستعماري الأمريكي، رغم الخطابات النارية ضد الاستعمار والرجعية، فقد كانت تلك ضمن سياسة التمويه المتبادلة بين الطرفين.
وهذا الواقع كان ومازال أحد أهم أسباب الانكسار النهضوي والهزائم والنكسات، وهو ظاهرة الزعامات القومية المخترقة التابعة غير المستقلة غير الحرة في إرادتها بغض النظر عن أشخاصها وحسن نواياها إن وجدت، فالنتيجة واحدة، فالمناط هو ما ينتج وما يفعل لا ما يقال ويردد ويعلن.
وهي الصدمة العظمى التي ظللنا نتلقاها ولا نجد لها تفسيرا ولا وضوحا لسنوات وعقود.

ورب ضارة نافعة
فالشعوب مهما طالت سنوات استغبائها وغيبوبتها وخداعها فإنها لا بد أن تهتز مع تكرار المصائب عليها وعلى الأمة لا بد أن تهتز قناعاتها القديمة.
غير أن الاستعمار ومؤسساته كان جاهزا لمواجهة مثل هذا الاحتمال المتوقع حتما في المستقبل، فأنشأ مؤسسات محلية وعالمية دينية الشكل والمظهر، وأقامت تنظيمات مخابراتية تابعة لها سرا جاهزة لاستلام المواطنين المصدومين من تجارب الحركات القومية والوطنية ورميها إلى دهاليز التنظيمات الماسونية الدينية الشكل والمظهر، باسم الحلول الدينية والابتعاد عن الأحزاب القومية العلمانية الكافرة والدخول إلى جنان الداعشية والقاعدية والسلفية الوهابية (الانجلو أمريكية الصهيونية السعودية)، وهو ما سماه هيكل عصر سيطرة الثروة النفطية والبترودلارية على "الثورة إلا خمسة" كما قال سابقا، ولم يذكر أن السيطرة الإمبريالية واقع حقيقي على الثروة والثورة. وهو التضليل الهيكلي للوطنية والقومية.
كان هيكل قد أسس وعمد كناطق وحيد باسم القومية والتحررية والثورات والناصرية والتحرر العربي القومي، واحتكر صحيفة "الأهرام" ومراكز نشرها ومؤسساتها البحثية طوال عقدين، قبل أن يبعد في نهاية عهد صديقه وحليفه أنور السادات، وكان أقرب المفكرين إلى قلب وعقل عبدالناصر، وكان يعتبر في نظر المناصرين لعبدالناصر وقضيته الوطنية والناصرية كانوا يعتبرون كل كلمة يقولها هيكل إنما تعبر عن فكر عبدالناصر في نهاية المطاف، وقد عمل هذا كثيرا من الإرباك والتردد ظهرت آثاره الخطيرة عندما انتقل هيكل إلى نصرة ترشيح السادات رئيسا من اللحظات الأولى بعد غياب عبدالناصر، وكان هذا الموقف المتناقض هو الذي شكل مقدمة اختراقية لكل ما جاء بعدها من تطورات وتنازلات وانتكاسات، وقد أوعز لجميع قادة عبدالناصر بذلك الإرباك والتردد واللا يقين وانعدام الوضوح والفوضى السياسية التي اتبعها السادات فيما بعد ودعمه هيكل حتى النهاية، الأمر الذي ساعد السادات على القيام بانقلاب ناجح وغادر ضد القيادة الناصرية الوطنية واتجه سرا نحو تلقي التعليمات والتوجيهات من المخابرات الأمريكية والخارجية عبر القناة السرية التي أقامها من خلف المؤسسات الأمنية العسكرية المسؤولة، كما أشار إلى ذلك وزير الدفاع والقائد العام الفريق محمد فوزي في مذكراته ومقابلاته ووصف هيكل بأنه "منظم انقلاب القصر الساداتي". وقد اتبع موقف التواطؤ والتحالف مع السادات في جريمته تلك التي كشف عنها في كتبه اللاحقة بعد العام 74م.
وكان السادات قد استغنى عن خدماته في عهد التوجه نحو "إسرائيل" علنا ومباشرة دون الحاجة إلى وسطاء.
وكان السادات بحاجة إلى صوت جديد من الكتاب والمتحدثين السياسيين لم يحترق بعد، لكي يكون لما يفعله مصداقية ورواج وقبول، خاصة وهو قد أعد نفسه لصدمات جامدة للعقل العربي والمصري، ليست زيارة القدس المحتلة إلا أولاها، وليست اتفاقية "كامب ديفيد" إلا أشهرها فقط، ومازال الطريق طويلاً.
فاتجه السيد هيكل لإعادة قراءة تراث ناصر وعهده، وادعى الدفاع عنه، خاصة وأنه كان المؤتمن على وثائقه وملفاته حسب ادعائه، وحسب سلوك الزعيم معه وإيحاءاته في حياته بما يفيد ذلك، وقد فعل الكثير لكي يحصل على أهم الوثائق، بل جميعها، والمعلومات حول انقلاب يوليو 52م وسلطته وقيادته وإنجازاته. وقد خاف السادات من القدرة على التلون السريع من جانب هيكل حسب التطور السياسي الناشئ واستعداده للانتقال من النقيض إلى النقيض حسب مقتضيات تحول واتجاه التيارات القادمة وغلبتها.
وكان الأمريكيون من النمط الذي لا يرمي بكل أوراقه دفعة واحدة، وإنما لكل مرحلة ورقتها المناسبة. وكانت مهمة التوثيق والأرشفة وتجميع المعلومات من تلك المصادر بحيث لا يمكن التمييز بينه وبين أي جاسوس يسعى للوصول إلى المعلومات والأخبار وتوظيفها لصالحه في النهاية.

استحالة النهضة في ظل التبعية
لقد انطلق القوميون المتغربون والوطنيون اليساريون الخياليون من خلال النماذج النهضوية التي قدموها عن إمكانية تحقيق النهضة في ظل التبعية الفكرية الاقتصادية الأيديولوجية والسياسية، دون أن يروا أي مشكلة تعترض النهضة التي بدؤوها في نظرهم.
وقد حاول القوميون نشر النموذج المذكور على مستوى الوطن العربي من خلال الانقلابات العسكرية الشبيهة التي يرضى عنها الغرب الأمريكي ويشارك في التمهيد لها وغض الطرف عنها طالما هي مستعدة لفتح أبوابها أمام الاقتصادات الأمريكية وشركاتها. وهذا كان يظهر من خلال الأهداف والاستراتيجيات الغامضة التي تعلنها تلك الانقلابات العسكرية كأهداف قومية ووطنية وخيارات ثورية لانقلاباتها تلك، وفي مقدمتها فتح الأبواب أمام التجارة الخارجية مع الغرب ومنحه مواطئ أقدام وعدم الانحياز لأحد أو ضد أحد ولا ضد الاستعمار المحتل للأرض العربية، وقبول المساعدات الاقتصادية من الغرب واعتبارها معيارا للعلاقات المتينة بين الدول الثورية وبين النظام الإمبريالي الغربي، والسياسات المعلنة كانت واضحة.
وفي الواقع كانت السياسات العلنية تصل إلى حد التبعية السياسية للولايات المتحدة واعتبارها غير استعمارية، وأنه يجب كسبها وتحييدها وأنها الدولة الأعظم في العالم. وكان لهيكل الدور الفكري الأكبر في تضليل الجماهير، فهو كاتب خطابات الزعيم دوما والمعبر عن توجهاته.
وقد فشلت تلك المحاولات النهضوية التي تكررت في المنطقة طوال أربعين عاما من المحاولات الفارغة من المحتوى. وكانت النتائج السوداء المأساوية لتلك السياسات هي وضع الأمة العربية القومية التحررية تحت النفوذ الأمريكي الصهيوني تدريجيا، بشعارات صورية عالية الصوت عالية السقوف فارغة من كل معنى. وقد عرضنا الواقع المصري والليبي والعراقي والجزائري والسوداني واليمني وغيره، لكي نوضح مدى استحالة تحقيق أي خطوة نهضوية للأمام في ظل التبعية للإمبريالية وللغرب، سياسيا وفكريا واقتصاديا، ويشهد تاريخ القارة اللاتينية الكبيرة بأكملها، إذ ظلت قرنين وأكثر تحت النفوذ الغربي الأمريكي، ومازالت إلى الآن عاجزة عن النهوض، إلا بشرط واحد، هو التحرر من النفوذ الأمريكي والأجنبي، أيّاً كان شكله وصورته.

تبعية عظمى تسقط
تعتبر حالة التبعية الروسية (الجورباتشوفية اليلتسينية) أوضح مثال، وتجلت تلك الاستحالة لكل من يملك عينين تبصران وتبحثان عن الحقيقة والعدالة والتحرر الحقيقي لأمته، فالحالة الروسية تمثل وتجسد المثال الأحمق للدولة العظمى والصغرى على السواء التي تسعى لإنجاز استكمال التنمية بالتبعية للغرب الأمريكي الأجنبي وقدراته العلمية التكنولوجية المتوهمة، وما هي الأثمان التي دفعتها روسيا العظمى؟! وكيف عادت إلى مستوى دولة ممزقة أقل مستوى دخل واقتصاد من دولة نامية عاجزة عن دفع أجور جيشها وموظفيها؟! وكيف زحفت على ركبتيها خضوعاً للأمريكيين للحصول على القروض والمساعدات المالية البنكية الضرورية؟! وكيف ابتزتها الولايات المتحدة وأذلتها إذلالاً لم يلحق بدولة من قبل، بما فيها اليابان وألمانيا بعد هزيمتهما في الحرب الثانية الكونية، وضيقت الخناقات والحصارات المتنوعة وأجبرتها على بيع مقدراتها الاستراتيجية وموقعها في الساحة الدولية والإقليمية ومصادر ثرواتها ومفاتيح أمنها القومي ومحيطها الحيوي الجيوسياسي والاستراتيجي وأراضيها القومية المعترف بها من قرنين من الزمان من أيام بطرس الأكبر؟!
لقد جزأتها إلى 15 دويلة معادية لروسيا، وتعيش على رشاوى الأمريكيين والغربيين ومساعداتهم واعتمادا على جواسيسها الذين غرستهم في تلك البلدان لمحاربة روسيا بكل الأساليب والصور ومحو روسيا من العالم ومن الوجود كلية، بتمزيقها باستمرار دون توقف، وبعد عذاب طويل مرير وأكلاف كبيرة جدا عادت مجددا مستقلة وحرة بعد أن كسرت القيود الأمريكية وتبعيتها السابقة، بعد أن قامت القوى الوطنية الروسية بثورة داخلية صامتة وغيرت الطاقم السياسي العميل السابق، وأقامت حكومة مستقلة مذاك، وها هي روسيا تعود وتنهض من جديد بعد عقدين من التبعية والآلام والإفقار والاستغلال والتمزق القومي.

نهضة واعدة
إن النهضة الإسلامية التي تبرز من خلال المثال الإيراني التحرري الاستقلالي هي دليل جديد وقوي على سلامة المنطق السابق الذي يقطع باستحالة تحقيق أي نهضة وطنية دون الاستقلال والحرية أو على حسابها كما حاول بعض القوميين والليبراليين والإصلاحيين الذين قادوا حراك الشعوب العربية في القرن الماضي ومازالوا يسيطرون على عقليته إلى الآن بصور جديدة؛ لكن الجوهر هو هو، محاولة إحداث إصلاحات شكلية في ظل التبعية والاستبداد العائلي والعشائري والعسكري والطبقي.

النهضة ثورة شاملة ضد الاستعمار
هل تجتمع النهضة والأزمة القومية والتحررية وغياب الاستقلال والتنمية والتقدم في إطار سياق مشترك واحد؟ من الصعب ذلك، بل مستحيل، وكل محاولة تهمل هذه الحقيقة إنما هي عبث حقيقي؛ لأن كل خطوة نحو النهضة الحقيقية تتطلب استقلالا وإرادة مستقلة وحرية وطنية كحد أدنى؛ لأن النهضة هي قبل كل شيء حرية تسير على قدمين على الأرض الوطنية. ودون هذه الشروط الأساسية لا يمكن تحقيق شيء حقيقي، فالنهضة تعبير عن إرادة مستقلة وطنية وقومية وفكرية وعقيدية وهوية ذاتية طموحة، وإلا تحولت إلى تراكمات وتشوهات تعيق إصلاح الأوضاع العامة بدل أن تنميها وتطورها للأمام، وكم من بلاد ظلت تحت التبعية، ورغم توفر الطاقات المادية الهائلة لها؛ لكنها ليس لديها ما يعود إلى النهضة الذاتية في شيء، فهي تشتري كل شيء من الخارج، الغرب والآخرين، وإليه ترسل أموالها وثرواتها وثروات أجيالها المتوالية منذ عشرة عقود وأكثر، وتجد نفسها اليوم تحت السيطرة الأجنبية المباشرة وغير المباشرة، تتسول غذاءها ولقمتها من الأجنبي، وتتسول كل شيء تقريبا من الغير. مثال ذلك: مصر ودول الخليج، التي تتسول كل شيء من الخارج، بمن فيه الصهيونية، رغم أنها تملك الثروات، إلا أنها تعتبر نفسها مجرد عمال لدى الغربيين والدول الكبرى، وهذا ما عبر عنه بصراحة رئيس الوزراء القطري السابق وزير خارجيتها خلال الغزو الصهيوني للبنان وغزة، الذي قال: "نحن مجرد شغيلة على محطة نفطية عند الغربيين الغرباء، والنفط لا نملكه نحن فعلا، بل هم"، وأضاف: "نحن مجرد أغنام".
وهذا الشعور الدوني العبودي الذي يعبر عنه المتحدث الكبير (الهمام) ليس تمثيليا، بل هو الواقع الحقيقي الذي يؤمن به ويشعر به الحكام العرب والخليجيون التوابع وأشباههم، وهو ينطبق على المصري والأردني والمغربي وبقية السلالات الخيانية المقدسة، لا فرق، فالمطبخ الذي أعدهم واحد: واشنطن ولندن و"تل أبيب"، والمنهج واحد، والفكر والشعور واحد، والتربية واحدة، إنهم موحدون إلى أقصى درجة، وبمباركة غربية عليا، ومثل هذه المشاعر والإيمانات العبودية الدونية لا تحقق أي تنمية أو نهضة قومية أو إقليمية من أي نوع كان.

كانت مصر قد بدأت النهضة منذ ثلاثة قرون، وقبل اليابان؛ فلماذا لم تكمل نهضتها إلى الآن؟! الإخوة المصريون يجيبون منذ قرن بأنه الاحتلال والتبعية، ومازالت لم تحقق الاستقلال ولا النهضة الحقيقية، فما الذي يجري في مصر من مشروعات وبناء وقنوات جديدة وقروض وديون سنوية تصل إلى عشرة مليارات دولار للبنك الدولي وغيره من دول الغرب والشرق؟! إلى الآن أكثر من 150 مليار دولار للخارج الأجنبي وأسعار السلع والتضخم في ارتفاع دائم، وقد عجزت عن خدمة الديون وحدها، ناهيك عن تسديدها. والإعلام يتغنى ليل نهار بأنهم أصحاب أقدم الحضارات على الأرض، وفي الأخير يحتالون على السعودية احتيالا لكي ترضى بأن تشغلهم هم وقواتهم في مرتزقتها ومعتديها.
وتكتب الصحافة المصرية الناقدة أنهم احتالوا على السعودية أن تشتري -سرا- جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، لكي يعيدوهما عبرها إلى العدو الصهيوني، والبرلمان يصوت على عدم تملك مصر للجزيرتين وينكر تبعيتهما لمصر! إنها غاية المهانة لدولة كبيرة كمصر عمرها سبعة آلاف عام. كما تقول في إعلامها إنه استعباد ما بعده استعباد وانبطاح ما بعده انبطاح، وأن مجموعة من الساعات الرولكس الباهظة الثمن كانت ضمن الهدايا السياسية التي وُزعت على أعضاء المجلس ورئاسته. مثل هذه الأوضاع والنماذج البشعة لا يمكن أن تحقق نهضة حقيقية.
مصر أكبر الدول العربية سكاناً، وأقدمها وأكثرها تعليماً وثقافة وثروات وقوة ومساحة وقدرات، تقف مستعبدة ذليلة بلا كبرياء ولا كرامة ولا عزة، تتسول وتبيع مواقفها وسياساتها لمن يدفع أكثر من الأعداء والأصدقاء، كما يقول السيسي، وهو القادم إلى الحكم تحت يافطة ثورية وطنية ونهضوية وشعارات، علما بأن قواته البحرية والجوية تسيطر على مساحات واسعة من أراضي اليمن البحرية الساحلية، وتفرض على الشعب اليمني حصارا بشعاً وطويلاً، وتفرض عليه الموت من الجوع والحصار، وهي تعرف حقيقة أننا لم نعتدِ على أحد، وأن بيننا وبينها معاهدات دفاع مشترك من أيام عبدالناصر، ولم يلغها أيٌّ من الطرفين. ألا يستحي هؤلاء الناس؟! أم أنهم فقدوا كل شيء يتعلق بالكرامة والشرف والدين والأخلاق والقيم؟! ما القضية إذن؟! وكيف تُفهم؟!
إنهم حقيقة لا يحكمون مصر، بل يحكمها الأجنبي الأمريكي، ووجود السيطرة الأجنبية في بلد ينفي إمكانية تحقيق أي نهضة فيه، وهذه أمثلة عملية، فالسيطرة الاستعمارية على مصر تجعلها مجرد مستعمرة ملونة، يحكمها وكلاء شركات الأجنبي وكومبرادورية وموظفي أجهزته الأمنية والمخابراتية والعسكرية منذ السادات ومبارك، والسيسي يكمل المسيرة فقط، فلا جديد في المسيرة البائسة لدولة من دول التبعية، ومثلها شقيقاتها العربيات في الجوار، فهذه ليبيا مازالت تحتضر منذ غزوها الناتوي الفرنسي الأمريكي الإخواني الإيطالي وتهليل ومباركة العرب الأشقاء والجوار ومشاركتهم في حفلة الدم الضخمة التي أريقت؛ ولكن العتب على النظام الذي حكمها 40 عاما بقيادة القومي العربي الاشتراكي الثوري الثائر زعيم العرب وأفريقيا مجتمعين!
كم من الثروات النفطية والذهبية كانت تحت يديه ونظامه؛ لكنه بعثرها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وفي النهاية لا يوجد صاروخ واحد ضد الطائرات الغربية المغيرة على البلاد؛ لماذا؟! وأين المال والأصدقاء؟! وأين الجيوش والخريجون والمؤهلون والمنظومات الحربية الجوية والبحرية والبرية التي بناها طوال أربعين عاما؟!
وصل الأمر إلى الحديث عن الأسلحة النووية والكيماوية والضوئية والخبراء الدوليين والمعلمين و... و... و... كل ذلك كان مجرد أوهام أو أحلام يقظة لا غير! أم أن الأمر يتكرر كما حدث مع صدام حسين وجمال عبدالناصر؟! إنها اختراقات عدوانية لم يفد معها حلاقة رؤوس القيادات الليبية كل يوم لشد الانضباط القومي الثوري العروبي وعدم تراخيه!
لم تكن ليبيا بحاجه للمال، فهو متوفر لديها في مخازنها وبنوك الآخرين بكميات كبيرة كافية لخلق معجزة اقتصادية خلال عشر سنوات، لو استخدم بشكل صحيح مخطط ومنظم. لقد كشفت أحداث ليبيا 2011 عن وجهها الحقيقي بعد الحرب، وأنها مازالت أشد تخلفاً مما كانت عليه يوم الثورة في أيلول/ سبتمبر 69، رغم المياه التي جرت وتدفقت في أنهارها الصناعية العظيمة، ولو كان لديها قيادات وطنية قومية متحمسة بما يكفي، فالإرادة الوطنية المستقلة متوفرة أيضاً؛ فأين المشكلة إذن؟!

الإخفاقات وإشكالية العقلية القائدة
بالعودة إلى أمثلة إخفاقات العراق ومصر وليبيا والجزائر واليمن والسودان والصومال وغيرها، فإنها تجمعها إشكالية مشتركة واحدة، هي سيطرة مجموعة من الأوهام والمغالطات العقلية والمنطقية الساذجة وقلة الخبرة، ويمكننا إجمالها في عدة نقاط نستخلصها من الحوادث الواقعية نفسها ومن التاريخ ونستنبطها من مكنوناتها ونستدل بها من مقدماتها الواضحة:
1 - جميع القادة الوطنيين القوميين بدون استثناء كانوا مبهورين بتجربة أوروبا وما حققته من تقدم، ومستعبدين للمركزية المثالية الأوروبية في جميع مفاهيم الحياة والتطور والإصلاحات والتغييرات والأمثلة والقيم التي خلفها والحركات التغييرية ونظام الحكم والأساليب المعيشية والثقافية والسلوكيات، ويرون أن المواطن الغربي قد قطع شوطاً هائلاً في التقدم لا يقاس بالإنسان الشرقي والعربي والمسلم الذي ظل وما زال تحت نير الثقافات المتخلفة الجائرة، ومبهورين بالأفكار والمبادئ والنظريات والفلسفات الأوروبية، ولا يمكنهم إحداث أي تغيير إلا إذا قلدوا المسار الغربي بتفاصيله، ولذلك كانوا مستعبدين دون شعور منهم، استعبادا روحيا وفكريا ونفسيا وثقافيا، خاصة وأنهم تتلمذوا في معاهدهم وجامعاتهم ومدارسهم ومراكزهم الثقافية، وخاصة بلدان المتوسط والقريبة منها، حيث التواصل البشري والهجرة والتثاقف والاختلاط مستمر ودائم، خاصة أن الاستبداد العثماني قد أغلق على العرب والمسلمين في ظل استبداده وتخلفه 500 عام من الاحتلال باسم الدين والخلافة الإسلامية، ولم يطلع العرب على الثقافة الحديثة، إلا تحت وهج الغزوات الاستعمارية الغربية وما يسمونه "صدمة الحملة الفرنسية على الشرق" وما أحدثته من يقظة في العقل العربي.
2 - ورثوا الثقة بالغربيين والأمريكيين وتصديقهم، خاصة فيما يعتقدونه عنهم أنهم أوفياء في وعودهم وموضوعيون في تقييماتهم وأوفياء لقوانينهم الحرة عن حقوق الإنسان والاستقلال وحق الشعوب في تقرير مصائرها ومبادئ الحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية والعلم والتقنيات، وهو ما جعلهم يتخذون منهم أصدقاء وحلفاء وشركاء اقتصاديين مباشرين.
3- منهم من هو ساذج وغبي نسبياً وقليل الإدراك. ومنهم من كان يدرك حقيقة الغرب؛ ولكنه كان ذا مصالح اقتصادية تجارية لا يمكن حمايتها إلا مع الغرب الرأسمالي، وهم بالجملة برجوازيون متوسطون أو صغار وأبناء طبقات متوسطة تعيش على السياسة الوسطية والاعتدال وتخاف من الثورات العنيفة الشاملة، وتؤمن بالإصلاحات الفوقية العليا بواسطة البيروقراطية الحاكمة المسيطرة. والتصور الساذج عن الأوروبيين كان منتشرا بين الأوساط الريفية البسيطة الواقعة تحت هيمنة الأفكار السطحية التي تقدمها السينما والإعلام والمجلات الراقية، وأنه يمكنهم التعلم منهم ما نحتاج إليه وما ينقصنا من علوم ونقلها إلى البلاد.
وفي مثال ليبيا، كان القذافي قد صدّق وعود الأوروبيين والأمريكيين بأنه إذا لم يأت بالسلاح السوفييتي (الروسي) الصاروخي الحديث المضاد للطائرات فإنهم يضمنون له عدم تهديد السماء الليبية، وقالوا له أيضا إنه لو جاء بالسلاح الروسي الصاروخي المتطور (إس 300) و(إس 400) فإن ذلك يهددهم مباشرة ويهدد أمنهم، حيث إن كل صاروخ يستطيع استهداف أي طائرة أوروبية وهي مازالت في مطارها على بعد 300 كيلومتر وأقل من ذلك على الضفة الأخرى للمتوسط، مما سيدفعهم حتما إلى استهدافها بعد أن تصل مباشرة، وأنه إذا أراد أن يضمن أمنه فإن عليه ألا يوصل الصواريخ الحديثة إلى بلده، وهكذا أضحت سماء ليبيا مكشوفة، وهو صدقهم أنهم أوفياء في تعهداتهم، وهذه كانت مفتاح تدمير القوات المسلحة الليبية على الأرض من قبل الناتو وسقوط البلاد بأيدي عملائه وحلفائه وإخوانه وإرهابه.
وفي مثال العراق، حدث مع صدام حسين ما يشبه المثال الليبي مع القذافي، فقد قالوا له عبر سفيرتهم الأمريكية (السيدة غلاسبي) عشية حرب الخليج، إنهم لن يتدخلوا إذا هو اتجه نحو احتلال الكويت دون الاتجاه نحو احتلال الرياض والسعودية؛ لأن الكويت جزء من العراق ويمكن معالجة الخلاف في الإطار العربي، وكان هذا هو الفخ الذي أعدوه له جيدا ليقع فيه فيسهل ضربه وإخراجه وتدمير قواته واستخدام السعودية كقاعدة انطلاق للضربات الموجهة ضد العراق وقواته ومبررا وذريعة لاستخدام القوة المفرطة للسيطرة على السعودية والخليج عسكريا، والباقي معروف للجميع.
ومثل هذا الخداع الاستراتيجي قد سبق مع الزعيم عبدالناصر (عشية عدوان 5 حزيران/ يونيو 67) حين أقنعه الأمريكيون عبر رئيسهم بنفسه في رسالة وجهها إليه عشية العدوان طالبا منه ألا يبادر إلى أي عمل عسكري ضد "إسرائيل"، وهم يضمنون أن "إسرائيل" لن تهاجم مصر بالمقابل إذا لم يهاجمها، وصدّق عبدالناصر الوعد ونام باطمئنان هو وقادته.
إنه المرض العربي القديم نفسه (إحسان الظن بالآخرين وبالغرب)، هذا إذا لم يُقَل إنه إهمال جسيم وخيانة للذات وتواطؤ مع العدو، وهو احتمال يدل على جهل وضلال متأصل فينا كما قال المجاهد الكبير إبراهيم الأشتر النخعي، جهل في الجوهر وقابلية للانخداع وتصديق العدو نتيجة الانبهار والهيام به والنظر إليه بوصفه أقرب إلى المثل الأعلى، وهو مرض يضرب في طبيعة العقلية العربية البدوية الساذجة التفكير، المغرورة المتعالية، ومثل تلك القيادات يستحيل أن تنتج نهضة مستدامة حقيقية، لأنها يمكن أن تنخدع ولا تتعلم من الدروس والأحداث.
نطرح السؤال وسنظل نطرح الأسئلة على أنفسنا لكي نتعلم الدروس المستقاة من هذه المأساة التي كنا وإياها شركاء في معارك الاستقلال القومي العربي ويهمنا أن نفهم ما غمض وما أشكل علينا؛ لأن معارك النهضة القومية العربية والإسلامية الإنسانية واحدة، ويغذي بعضها بعضا ويشد أزره، وليست نهاية المطاف والطريق.  
قد يحدث مؤقتاً قبل أن تنتكس الحركة التي انطلقت دون أن تكتمل أركانها وأسسها وشروطها فتظل تصارع المشكلات والمعوقات حتى تسقط تحت معاولها وثقلها؛ لأنها تكون أضعف قوة وأطرى عودا في غياب مقوماتها الكاملة، وكأنها تجربة أولية تاريخية تسمح برؤية التحديات الحقيقية الواقعية القائمة في التجربة المستمرة وفي المحاولات التالية؛ ولكنها لا تستطيع الاستمرار ولا تقوى على البقاء والتطور أمام ما يعترضها من عقبات وإشكاليات ومصاعب؛ ولكن متى كانت النهضات والتطورات تحدث بيسر دون مصاعب وعقبات وتضحيات، فتلك حكمة السماء في الخلق والمخلوقات، وتلك سنة الكون والمجتمعات، فلا شيء يحدث إلا بقوة تدفع المعوقات وتدحر العقبات أمام الغايات والأهداف، ولا يأتي شيء في الحياة بسهولة ويسر، وإنما هو الجهاد والكفاح والنضال والكدح والسعي الدائب المستمر، وذلك هو منتهى الحكمة، فالشعوب التي تأتيها غاياتها بيسر وسهولة لا تبقى ولا تستمر، وإنما تتعرض للضياع بسهولة، كما جاءت بسهولة ويسر، فالشعوب لا تدافع إلا على ما عانت من أجل بلوغه.
وإن العقل البشري حين يحسن توظيف طاقاته فإنه ينظر إلى تلك التجارب والخبرات كتراكمات أساسية للنهضة يمكن أن يبني عليها قواعد الحركة التالية والمستقبلية من خلال دراسة وبحث المتغيرات الواقعية وتناقضاتها ومشكلاتها والتأمل العميق فيها واستنباط الحلول والمعالجات والخطوات التي تحقق الأهداف المرجوة بأقل القليل من الأكلاف والتضحيات وتحويل التحديات إلى فرص وتعلم الكثير من الدروس والعبر.
والنهضة كأي ظاهرة تاريخية بشرية واجتماعية أخرى تتطور بناء على جدلياتها الخاصة الداخلية الخارجية المترابطة، أي بناء على مواجهة المشكلات التي تكابدها في أعماقها وتحاول الوصول إلى حلول بشأنها، سواء كانت عقلية أم فلسفية أم عملية وطبيعية وعلمية واقتصادية واجتماعية وإنسانية وسياسية... والحقيقة أن النهضة الاقتصادية مهدت للنهضة الفكرية والسياسية والصناعية التالية، وهناك ترابط وحضور شامل للأشياء والمشكلات من جميع وجوهها، وهي تمر بمرحلة هامة أولية هي حقبة طرح المشكلات والقضايا، قد تطول وقد تقصر تلك الحقبة، وهذا يعود للشروط والظروف التي تخص كل بلاد على حدة؛ ولكن النهضة بعد زمن معين قد تصبح اتجاه عام دولي وعالمي وقاري وقومي، عند مرحلة من التطور لا تجد البلاد مفرا من مواجهة مشكلاتها النهضوية التي كانت هادئة في الماضي القريب حين كانت منعزلة عن مشكلات العالم الخارجي حولها، حيث إن كل بلاد هي في النهاية جزء من قارة أو عالم أو قومية أو مجتمع أوسع وأكبر، وبعد تجاوز عزلتها نتيجة التقارب والتكامل والتخالط بين الأقاليم والقارات نتيجة تطور حركة ووسائل المواصلات والإعلام والمعرفة وانتقالها وإيصالها إلى أمداء أوسع تشمل شعوبا وأمما وقارات بكاملها، حيث تعيش معا في وقت واحد المشكلات نفسها، العقلية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية أيضاً، ولذا قد تنهار الجدران والأسوار العازلة القديمة، وتتهدم وتفتح الأبواب أمام الشعوب لتبادل الأفكار والآراء والتجارب والمصالح والخبرات والمعارف والنماذج والنظريات والمعارف والفلسفات والمناهج والأنظمة الفكرية والسياسية والثقافية وتسقط النماذج القديمة والقيم السابقة التي كانت سيطرت على العقول والنفوس في الماضي وتتهدم العقائد المقدسة السابقة، ومن ثم يحدث تغييرات جديدة تدريجية؛ لكنها تحدث وتطرح مشكلات جديدة بحاجة إلى المعالجات والحلول من البسيط إلى المعقد إلى الأكثر تعقيدا.

مشكلات ومعوقات أساسية أمام النهضة الوطنية والقومية
أولى المشكلات التي تواجه النهضة هي كيفية طرح المشكلات وتحديدها ومعرفة جوهرها الاجتماعي التاريخي وماهيتها، وهل نبدؤها جميعا في وقت واحد أم على مراحل وحقب متعاقبة، وما هي المناهج التي نتبناها لتحقيق النهضة المنشودة في ظل الاستعمار والتبعية والتجزئة؟ وهي إشكالية واجهت العرب والمسلمين، ومنهم اليمنيون، منذ القرنين الماضيين ومازالت إلى الآن تواصل الضغط على الأمة وتضيق خياراتها وأولوياتها.

"الأفغانـي" الشعلة المضيئة للنهضة وللثورة الإسلامية والعربية
كانت القضية النهضوية قد برزت بقوة عشية الثورة العرابية بقيادة جمال الدين الأفغاني بعد القبض عليه ونفيه من مصر من قبل الإنجليز، ومعه تلميذه الكبير الشيخ محمد عبده، وتفرق بقية التلاميذ في أكثر من اتجاه بعد اجتياح مصر من قبل البريطانيين، بعد خسارة أحمد عرابي في معركة "التل الكبير" واستسلامه أمام القوات البريطانية ونفي قادتها إلى الخارج.
كانت تلك الثورة هي آخر إنجازات جامع وجامعة الأزهر التاريخيين، فقد كان أغلب أهم قادتها ودعاتها أزهريين، من تلاميذ الشيخ الأفغاني جمال الدين الحسيني الذي خاض معارك ضد سيطرة النخبة القديمة المحافظة السلفية من كبار الأزهريين الذين كانوا قد حافظوا على المناهج المتكلسة الموروثة من الحقبة المملوكية الاستعمارية القديمة التركية والفرنسية، وكأن الإسلام لا يحق له أن يتبنى قضايا الأوطان والشعوب، وإنما هو محصور في الركوع والسجود وتلاوة القرآن والأوراد والحديث والحض على الطهارة والوضوء والصدقات والإرث والزكاة والمواريث والنكاح فقط، أما القضايا الوطنية والقومية وأرض المسلمين وحرياتهم وحقوقهم الإنسانية والسياسية فلا مجال لها.
وكان هذا ما آلت إليه الأمور بعد أن ألحق المسجد بالأمراء والملوك والحكام، وانتزعت منه هيبته القديمة واستقلاله عن الدول والممالك، منذ الردة الأموية وما بعدها، وخلال تلك الفترة تم ترسيخ مفهوم دين مزيف في ظل حكام فاسدين غرباء عن الوطن والإسلام الحقيقي، فقد تم تجميعهم من أصقاع مختلفة لا تربطهم رابطة بالإسلام والعروبة؛ لأن جلهم كانوا مماليك أو خدماً للملوك؛ لذلك لم يشهد حراكاً حقيقياً، إلا بعد وصول الأفغاني من الهند مقيدا، بعد أن ألقي القبض عليه من قبل الإنجليز في الهند وتم إبعاده إلى مصر، فقد كانت الهند آنذاك تغلي بالثورات والاحتجاجات ضد الاستعمار البريطاني وعملائه، حين كانت أسرة محمد علي حاكمة لمصر، وقد خضعت للنفوذ البريطاني التركي الفرنسي المشترك قبل الاحتلال العسكري الذي سيأتي بعد هزيمه الثورة العرابية. وكانت الدولة المصرية قد وضعت تحت الوصاية الغربية بحجة الإشراف على ضبط مالية مصر وضمان دفع القروض الأجنبية الغربية التي استدانتها في عهود ملوكها أو خديوييها الأتراك. فتلك الأسرة كانت ما تزال تركية تتبع سلطة الباب العالي في الحقيقة، كما تتبع سلطة المشرفين الغربيين الذين أدخلوا بحجة الإشراف المالي من خلال تراكم الديون على مصر جراء العبث والإنفاق المالي الكبير على القصور ومجون وترف حكامها وملوكها الذين سفهوا كثيرا في نفقاتهم، مما أدى إلى انتقال ملكية قناة السويس إلى الأجانب مقابل الديون فيما بعد، وكانت تلك من خلفيات الثورة التي شهدتها مصر بعد وصول الأفغاني.
وقد كان الأفغاني عالماً إسلامياً عظيماً ومناضلاً ثورياً حراً قارع طغاة الهند وأفغانستان والفرس والغربيين والعثمانيين المستبدين والفاسدين. كان مجاهداً كبيراً يسعى للنهضة الإسلامية وللاستقلال والتحرر والتقدم، فراح يوقظ المسلمين والعرب للنهضة الاستقلالية والانعتاق من نير الاحتلال الأجنبي، ولم يرَ فارقاً بين بلاد المسلمين أينما كانت ما دامت تواجه عدواً ومصيراً واحداً وتحمل قضية واحدة هي قضية الحرية والاستقلال، ولأول مرة يوقظ في الأزهر تلك الشعلة الثورية الإسلامية التي فقدها قروناً من التخلف والفساد والاستبداد. ورغم أن المستعمر استطاع أن يفصل رأس الحركة الوطنية عن جسدها بإبعاد الأفغاني ومحمد عبده، إلا أن الثورة استمرت في الاشتعال بفضل الأفكار المضيئة التي ألهمها الأفغاني للناس حتى بعد غيابه في المنفى الإجباري.
إن المناضل الأفغاني لا يمكن أن يتغافل عنه كل منصف أو يقفز على الدور الخطير والكبير الذي خاضه في نهضة العرب والمسلمين. وقد ظهر الأفغاني في لحظة تاريخية حاسمة ومحورية من تاريخ العرب والمسلمين كانت روح التبعية والاستكانة والأسطورة والخرافة قد سادت بين الأوساط العليا للمجتمع عند نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر حين كان الوطن العربي والإسلامي يتعرض لحملات جديدة من السيطرة الغربية الاستعمارية، وكانت تُحكم سيطرتها بأساليب جديدة ووسائل حديثة، حيث تستخدم حكاماً مسلمين نيابة عنها لتمويه وجودها، فهي تستخدم الوجود التركي والعثماني والمملوكي لإخضاع البلاد والعباد بأجهزة الدين بعد أن تفرغه من جوهره الثوري الكفاحي وتقيم عليه شيوخاً جهلة لا يتحدثون إلا بما يريده ويسمح به المستعمر أو صاحب الأمر، وقد أفرغوا الإسلام ومفاهيمه من كل ما يتعلق بالحرية والاستقلال والإنصاف والحقوق.
وقد أتى الأفغاني حاملاً شعلة الثورة الإسلامية من قلب تاريخ الإسلام نفسه ومن خبراته وتجاربه ومن أهدافه وغاياته العليا وتقاليده. وقد تتلمذ على يديه في مصر، كما في الهند وفارس وأفغانستان، جميع رجال النهضة القادمين من جميع المشارب والاتجاهات الوطنية والقومية واليسارية والتقدمية والليبرالية والإصلاحية والدينية من كل طبقات المجتمع الحية. وكان قادراً بما وهبه الله من ملكات العبقرية والموسوعية العلمية والفلسفية والشجاعة والتضحية والجلد والصبر والاحتمال وجرأة رجال الثورات العظمى والرسالات الكبرى، على زلزلة الطغيان والاستعمار، بما مُنح من قوة البيان والفصاحة في القول والأفكار والمحتويات والخطط والاستراتيجيات وبناء الرجال، حتى أعطى النهضة العربية والإسلامية أفضل رجالها وزعمائها. وقد بلغ في تلك المهمة العظمى الحدود القصوى، حيث أسس المنظمات الثورية الحديثة من أحزاب وجمعيات وروابط وصحف وحلقات فكرية لم تبلغها أي حركة بعده ولا قبله، ورسم مسارات الحركات الوطنية الآتية بعده لقرن كامل وأكثر. وكان أحمد عرابي قائد الثورة التي عُرفت باسمه ضد السيطرة الأجنبية، من تلاميذه الأوائل ومعه كل الشخصيات الكبيرة أمثال القادة العسكريين علي عبدالعال حلمي ومحمود سامي البارودي وسعد زغلول قائد الثورة الثانية العام 1919، إلى جانب أهم رجالات الثورة الثانية والأولى من عبدالله النديم ولطفي السيد ومحمد عبده...

زعيم نهضة نموذجي
لم يكن هناك في مصر أي شيء ينم عن الحركة والنهضة والثورة. كان كل شيء فيها يشير إلى الاستكانة والجمود والخمول والفساد؛ وكأنها ميتة. وقد حسبها البريطانيون كذلك؛ لكن وجود الأفغاني فيها لبضع سنوات أثمر نهضة وثورة كبيرتين مازالتا تغذيان الوجدان العربي والإسلامي بأينع الثمار والأفكار، وتضيئان مسالك النهضة الوطنية والقومية والإسلامية، وترسمان طريق الخلاص للأجيال المتوالية من الأحرار.
كان الأفغاني سيداً علوياً حسينياً من حيث نسبه ومبادئه ونهجه وثقافته الموسوعية التي جعلته قادراً على رؤية العالم بأوسع مدى وأوضح صورة، وأن يقارن ما عند الغرب بما عند الشرق، وأن يخوض حوارات ثقافية فكرية إيجابية وسلبية باعتزاز واقتدار مع فلاسفة غربيين كبار كانوا يحاربون على رأس الاستعمار الغربي لتبريره ومخادعة الرأي العام الغربي بشأن أفعاله الوحشية في البلاد المستهدفة، وفهم الأساليب الاستعمارية الماكرة الخبيثة والمتنوعة والشمولية التي يمارسها في البلاد المستعمرة، فاستطاع الأفغاني أن يرسم سياسات استراتيجية لمواجهتها والالتفاف عليها وهزيمتها بشكل استراتيجي بالغ التأثير.
لم يكن هناك أي شكل من أشكال التنظيم السياسي العسكري والثوري والثقافي الفكري والمدني والشعبي، فأطلقه الأفغاني من عقاله، وإذا به مارداً ثورياً يهز عروش الطغيان الإقطاعي التركي الأجنبي المسيطر على مصر، ويبرز التنظيم الشعبي الوطني الواسع الذي استطاع أن يؤطر وينظم الشعب المصري بكل طوائفه واتجاهاته وطبقاته الشعبية، وأن يؤسس صحافة ثورية واسعة التأثير بقيادة عبدالله النديم، ألمع قادتها والمعروف بخطيب الثورة العرابية، وأصحابه.