نشوان دماج / لا ميديا -
في الوقت الذي نجد فيه احتفاءً عالمياً بالموروث الغنائي اليمني وإدراجه ضمن قائمة التراث العالمي، كما هو الحال بالنسبة للأغنية الصنعانية، تأتي تصرفات من هنا وهناك كأنما لتكرس في الذهن ما ظلت دويلات الخليج تعمل عليه طيلة عقود لضرب ذلك الموروث وطمسه فنصبح شعباً بلا ذاكرة غنائية.
ولا ننسى ما ظلت تصدره إلينا تلك الدويلات من أفكارها الوهابية التكفيرية مصحوبة بالأموال المدفوعة بلا حساب، بغرض ضرب مقومات المجتمع اليمني، والتي يأتي الفن على رأسها. 
لكنها إن استطاعت إحداث تجريف ما للموروث اليمني، فإنها لم تستطع انتزاع ذلك الموروث من جذوره الضاربة في أعماق التاريخ.  

خروج عن السياق الحضاري والثوري
يحدث أن يكون هناك تصرفات خارجة عن السياق الحضاري والثوري لبلد ما، تسجل فيها حالات اعتداء أو تضييق أو منع في حق هذا الفنان أو ذاك، لكن يبقى ذلك في إطار التصرفات الفردية. أما إذا تحول الأمر إلى ما يشبه الظاهرة فيجب على الدولة أن تتدخل وتضع حداً له.
ولا شك أن ما حدث في الآونة الأخيرة من تصرفات متكررة في حق عدد من الفنانين يستلزم موقفاً حازماً من قبل وزارة الثقافة، باعتبارها المعني الأول والأخير في التصدي لمثل تلك التصرفات المرفوضة والمدانة، والتي لا يمكن القبول بها بحسب الكثيرين، سواء ظلت تصرفات فردية أم أنها في طور أن تتحول إلى ظاهرة. 

تصرفات فردية!
تداول عدد من المواقع الإلكترونية تعميماً صادراً عن محافظ صنعاء عبدالباسط المهدي بتاريخ 11 ذي القعدة 1442هـ، بخصوص الحد مما سماه «ظاهرة الفنانين في المناسبات والأعراس».
وفي محافظة عمران أكد مصدر لصحيفة «لا» عن وثيقة «قبلية» أصدرها المجلس المحلي تحت مسمى «مبادرة تيسير الزواج»، وقع عليها عدد من المشائخ، وتم وفقها تكليف لجنة من ثلاثة أشخاص مهمتها تتبع ما سمته المخالفات، ومنها الغناء في الأعراس، وتحديد مبلغ مائة ألف ريال على كل من يخالف، بالإضافة إلى حبس 10 أيام.
وأشار المصدر إلى ما حدث للفنان علي المحن الذي تمت ملاحقته من قبل تلك اللجنة، فتمكن من الهرب.
الفنان شرف القاعدي، رئيس نادي المطربين اليمنيين، أصدر في 5 أغسطس/آب 2021 بصفحته على «فيسبوك» ما يشبه البيان، معنوناً إياه بـ«نحن الفنانين لسنا أعداء للوطن»، يشرح تعرضه والعديد من الفنانين، أمثال فؤاد الكبسي ونبيل العموش وعبدالله الصعدي ومحمد النعامي، لاحتجازات ومضايقات من قبل عدد من النقاط الأمنية، وخصوصاً في محافظة عمران، مستغرباً من تبرير الجهات الأمنية لتصرفاتها بالقول إن الفن والفنانين هو الذي يؤخر النصر في الجبهات.
ولفت القاعدي إلى أنه قبل فترة في عمران انتشر مقطع اقتحام قاعة أفراح في زفاف أخ الفنان أيوب السودي، واقتياد الفنانين إلى الحجز مع العريس، مؤكداً أن فنانين ومنشدين وفرقا فنية كثيرة تعرضوا لمواقف أخرى متشابهة يتفاوت فيها الفعل بين المنع والتوقيف في النقاط لساعات والاحتجاز.
   
هاشمي وفنان؟!
وقال القاعدي إنه في نهاية 2017، عندما وُجِهت لهم دعوة حضور من إذاعة صوت الخليج لإضافة الأغنية اليمنية الصنعانية إلى مكتبة الإذاعة هو والفنان أحمد الحبيشي وبشير المعبري وبسام عنبة وبدر المليحي، وأثناء رجوعهم من عُمان وفي طريق العودة إلى صنعاء وتحديدا في نقطة الفلج بمأرب، تم إيقافه لمدة نصف ساعة لأنه فنان «هاشمي»، ثم بعد أن تواصلوا بعمليات مأرب، بحسب القاعدي، سمح لهم بالمرور كونهم فنانين.
وأضاف: «بعدها بسنتين وتزامنا مع تأسيس نادي المطربين اليمنيين وصلتني رسائل نصية عبر الهاتف بالتهديد بالتصفية أنا وأولادي وزملائي من الفنانين إن لم أترك الغناء ولنفس السبب: كوني فنانا وهاشميا! وعملت وقتها بلاغات للجهات ذات العلاقة. وقلنا تصرفات فردية».
واختتم القاعدي منشوره بالقول: «ولأننا نعد كل تلك التصرفات تصرفات لا مسؤولة وفردية، نتحاشى الخوض في مثل تلك المواضيع نظرا لوضعنا اليمني المزري وما نتعرض له نحن اليمنيين من حرب وحصار وغلاء وتجويع وإرهاب ومناكفات في كل اليمن، ولا نريد أن نزيد الطين بلة».

جهات ليست ذات اختصاص
مثل هذه الإجراءات، بحسب أحد العاملين في القضاء، تحدث لصحيفة «لا» وفضل عدم ذكر اسمه، مرفوضة جملة وتفصيلاً، لأنها صادرة عن جهات ليست ذات اختصاص ولا يحق لها أن تقرر ما تقرر في هذا الصدد. وكان من المفترض بتلك الجهة أو غيرها أن تتواصل مع وزارة الثقافة، باعتبارها الجهة الرسمية المخولة بالبت في هكذا مواضيع، وتبين لها الحيثيات التي تستدعي من وجهة نظرها الحد من تلك التي سمتها «ظاهرة»، هل من منطلق ما تشكله الظاهرة من إزعاج وإقلاق للسكينة العامة مثلاً، أم من منطلق الحلال والحرام، فتكون «هيئة الأمر بالمعروف» الوهابية قد انتقلت من السعودية إلى اليمن، أم ماذا؟ ووزارة الثقافة حينها تقرر كيف تعالج المسألة. أما أن تتصدر الموقف جهة أمنية أو محلية فهذا ليس من اختصاصها.

بلا قانونية
وبحسب مداخلة القاضي، ليس هناك قانون يمنع الغناء في الأعراس، مشيراً إلى أن حبس أي فنان أو صاحب عرس بتهمة الغناء يعد جريمة يعاقب عليها القانون وتتحمل مسؤولياتها وتبعاتها أقسام الشرطة وإدارات الأمن.
وتوجه عبر صحيفة «لا» بسؤال إلى تلك الجهات: «إلى متى ستظلون تقولون بأنها تصرفات فردية؟!»، مشيراً إلى أن على وزارة الداخلية أن تتخذ موقفاً صريحاً مما يحدث.
وأضاف: «تأتي للنيابة قضايا وشكاوى بهذا الخصوص، فتوجه على الفور بإطلاق المحبوسين، لكن هناك تقاعساً على الدوام من قبل الأجهزة الأمنية، متحججين بأن لديهم أوامر عليا لا ندري ممن!».

ضوابط لما تسببه الأعراس من إزعاج
وعن موقف وزارة الثقافة مما حدث من تصرفات غير مسؤولة، أوضح محمد حيدرة، نائب وزير الثقافة، لصحيفة «لا» قائلاً: «إن الوزارة، التي هي المسؤولة عن هذا الجانب، لم يصدر منها أي تعليمات أو توجيهات بخصوص هذا الموضوع، لا بمنع الغناء ولا بمنع الفنانين من ممارسة نشاطهم»، مشيراً إلى أن ما يحدث هو عبارة عن تصرفات فردية تصدر من هنا وهناك.
وأضاف حيدرة أن هناك ضوابط ستصدر من وزارة الثقافة تنظم عملية الأعراس وما يرافقها من مظاهر احتفالية، مؤكداً أن «كل هذه الضوابط تتعلق بقضية واحدة هي الإزعاج المرافق لبعض مظاهر الأعراس. أما بالنسبة لما يتم داخل صالات الأعراس فأصحاب العرس أو الاحتفالية لهم الحرية الكاملة، سواء في إحضار فنانين أو منشدين أو ما يرونه هم، وبما لا يضر بالمحيط من ضجيج أو ما شابه، وخصوصاً استمرار الاحتفالات في بعض القاعات إلى ساعات متأخرة من الليل. وبالتالي مشكلتنا فقط هي مع الإزعاج. أما خلاف ذلك فليس هناك أي منع، بل بالعكس نحن نتضامن مع أي فنان يتم الاعتداء عليه، وعندما نتلقى شكاوى بهذا الخصوص نعمل على معالجتها أولاً بأول، بما يضمن عدم حصول مثلها مستقبلاً، وقد وردت إلينا شكوى من الفنان فؤاد الكبسي وتم التعامل معها ومعالجتها». 
وبخصوص المذكرة الصادرة عن محافظ صنعاء، عبد الباسط الهادي، أكد حيدرة أنها وثيقة لا أساس من الصحة. مؤكداً أنه حيث يحدث من حين لآخر أن يقوم رواد مواقع التواصل الاجتماعي بافتعال وثائق على أنها مذكرات رسمية لإحداث ضجة بأن ما يحدث هو عبارة عن توجه رسمي لا تصرفات فردية قد تحدث هنا وهناك.

ظاهرة أكثر ضرراً
في المقابل، ثمة ظاهرة يراها البعض أكثر ضرراً على الفن تمارسها وزارة الثقافة نفسها والفنانون أنفسهم، وهي أن الغناء أصبح بالنسبة للكثيرين مرتبطاً بالأعراس و«طلبة الله»، أكثر من كونه فناً وأكثر من كونه موقفاً. وبالتالي هي أيضاً ظاهرة تحتاج إلى علاج يبدأ بتلك الوزارة التي اسمها ثقافة، والتي لم تكلف نفسها طيلة سنوات العدوان إقامة فعالية أو مهرجان غنائي يحفظ للفن وللفنانين مكانتهم، وتوفر الأجواء التي تتيح إنتاج فن راق ومسؤول، تفاعلاً مع قضايا مجتمعه ومواصلة لدوره الرائد الذي ينهض بالوعي والإنسان.  
كما أننا لم نر من أولئك المحسوبين على الفن نتاجاً واحداً طيلة مسيرتهم الغنائية، إذا جاز لنا أن نعتبرها كذلك، يمكن أن نعتبره إسهاماً في تطوير الفن، بل نجد العكس تماماً، وهو اتكاؤهم على ما بناه الأولون والنهل منه بطريقة تشويهية أكثر منها تجديداً. ولذا هم مسهمون في تدني الذائقة الغنائية العامة وانحدارها إلى أسفل سافلين. وربما أصبح من شروط أن تكون «فناناً» في الآونة الأخيرة هو أن تتخلى عن ذائقتك وحسك كفنان، وأن تتماشى مع الذائقة الهابطة، بدل أن يكون دورك تنميتها وجعلها ترتقي إلى أن تكون بمستوى تلك الكلمة.

مغني أعراس لا فنان
بطبيعة الحال ليس هناك ما يشين الفنان إن هو غنى في هذا العرس أو ذاك، فكثير من الفنانين شاركوا ويشاركون الناس أفراحهم، الفنان علي الآنسي على سبيل المثال. لكن في اللحظة التي أكون قد قبلت فيها على نفسي بأن أتحول إلى مغني أعراس، فهذا يعني أنني لست فناناً من الأساس، لأن كلمة فنان تقتضي دوراً منوطاً بي ورسالة أؤديها. فمغني الأعراس، أي من أصبحت تلك هي مهنته، هو في النهاية مجرد ديكور يُستأجر مثلما تُستأجر باقي مستلزمات العرس، من كوشة وزينة وأضواء، وفستان أبيض للعروس أو سيف أصفر للعريس.
وبحسب البعض، فإن الكثير من الفنانين للأسف ارتضوا أن يكونوا ذلك الديكور، طالما أن القضية في النهاية قضية مال. والفارق فقط هو أن ثمن استئجار الكوشة أو الفستان الأبيض يكون أقل بكثير من ثمن استئجار هذا المغني أو ذاك، حيث يتجاوز مع بعضهم مبلغ المليون ريال في الليلة الواحدة.  
نحن هنا أمام مسألتين يجب التفريق بينهما: الأولى أن الغناء في الأعراس والصالات هو مصدر دخل ورزق أكثر من كونه فناً؛ والثانية أن الفن مسؤولية اجتماعية ووطنية في المقام الأول، وشتان بين المسألتين. فإن تم الاعتداء على فنان لأغنية أو عمل أصدره، هنا يكون ثمة اعتداء فعلي على الفن. أما منع غناء في صالة أعراس فيبقى اعتداء على حرية الناس.
كما أن الفن لا يمكن أن يحكم عليه من منظور الحلال والحرام، بل بمدى نهوضه بقضايا وطنه ومجتمعه، ومسؤوليته في هذا الظرف الذي تمر به البلاد.. غير أن تلك المسؤولية ليست ملقاة على عاتق الفنانين وحدهم، بل على عاتق وزارة الثقافة نفسها التي تنصلت تماماً من دورها، وأصبح وجودها كعدمه بحسب الكثيرين.

أوبريتات خالدة
الفن لغة العالم الأولى، ووجه كل الحضارات والثورات. وهو في النهاية موقف، مثلما أن الحضارات والثورات موقف هي أيضاً، وبالتالي ليس لأي ثورة أن تقف ضد الفن، لأنها تكون بذلك قد وقفت ضد نفسها.
وثورة 21 أيلول/سبتمبر لم تقف ضد الفن، ففي أيام اللجنة الثورية قدم العديد من الفنانين، أمثال صلاح الأخفش وحسين محب وغيرهما، أعمالاً غنائية، ولم يمنعهم أحد من ذلك. وتم تقديم أوبريت بعنوان «جذور النضال» شارك فيه فنانون وشعراء ومنشدون، بمناسبة الثالثة للثورة، كما تم تقديم أوبريت فني حمل اسم «لبيك يا وطني.. معاً ضد العدوان»، تم فيه تسليط الضوء على جرائم العدوان السعودي الأمريكي بحق ضد اليمن أرضاً وإنساناً. 
هذا الأوبريت الفني الذي تم تديشنه في فبراير 2016، شارك فيه نخبة من الفنانين والمنشدين والممثلين والمذيعين من جميع الأطياف والمكونات السياسية ومن شمال الوطن وجنوبه، بقيادة صاحب الفكرة المنشد أحمد شذان، مدير عام الإنشاد الديني والوطني بوزارة الثقافة، وممن شاركوا في أداء الأوبريت، المنشد الكبير عبدالرحمن العمري، ومن الفنانين الغنائيين منصور بن علي وآزال المغلس وفضل الحمامي وبشير المعبري.
هذه الأوبريتات الفنية، وبشهادة الكثيرين، مثّلت أعمالاً نوعية ونادرة وخالدة في تاريخ الفن اليمني، كما اعتبرها البعض أعمالاً فنية ضخمة بحجم العدوان السعودي والصمود اليمني.
وهو ما يؤكد أن ثورة أيلول ليست في موقف الرافض للفن والغناء كما يحاول البعض أن يشيع، وليس هناك توجه رسمي لمنع الغناء، وأن كل ما يحدث هنا وهناك لا تعدو عن كونها مجرد تصرفات فردية ولا مسؤولة، ولكن مع ذلك فإن الواجب يفرض على الجهات الرسمية المسؤولة وضع حد لمثل هذه التصرفات، ومنع تكرارها.