رفعت الولايات المتحدة سلاح العقوبات في وجه العالم منذ تأسيسها ضد 21 دولة وقائمة أشخاص من 1300 صفحة

شايف العين / لا ميديا -
عُرفت كإجراء يُتخذ بإجماع دولي داخل «الأمم المتحدة» و»مجلس الأمن» ما يمنحها شرعية نافذة ضد البلد أو الجماعة أو الشركة أو الأفراد المستهدفين بها، ورغم أن العقوبات الاقتصادية أتت صياغتها قانونا من قبل قوى الاستكبار والهيمنة، إلا أنها تحولت إلى سلاح تشهره إحدى تلك القوى المستكبرة متمثلة في «الولايات المتحدة الأمريكية» في وجه من يرفض الانصياع لسياساتها ويكون ضمن أتباعها وأدواتها.
واعتقادا منها أنها المؤتمنة على العالم وشعوبه، اندفعت واشنطن إلى انتهاج إصدار قرارات تلك العقوبات ضد كل من يناهض غطرستها واستكبارها، وذلك بشكل انفرادي خارج الإجماع الدولي في «الأمم المتحدة» و»مجلس الأمن الدولي»، وما يزيد الطين بلة هو التزام جميع دول العالم، عدا الدول المستهدفة، بتطبيق تلك القرارات وإنفاذها وعدم رفضها، بخاصة وأنها أتت من خارج «الشرعية الدولية».

تاريخ العقوبات الاقتصادية الأمريكية
ترى واشنطن في العقوبات الاقتصادية أداة مهمة من أدوات سياستها الخارجية تجاه بقية دول العالم، سيما تلك الرافضة لهيمنتها، ووفقا للمعلومات المتوفرة فإن تاريخ بداية إصدار قرارات العقوبات الاقتصادية يعود إلى زمن تأسيس «الولايات المتحدة» وتحديدا في ديسمبر/كانون الأول 1807 حين أصدر «الكونجرس» ما سمي «قانون الحظر»، ووقع عليه رئيسها حينها توماس جيفرسون، ونص القانون على حظر التجارة مع كل من بريطانيا وفرنسا اللتين كانتا في حالة حرب، وكان ذلك القانون بمثابة تمهيد لحرب عام 1812.
وجاء «قانون حظر توماس» بنتائج عكسية على اقتصاد «الولايات المتحدة الأمريكية» ليلغيه الكونغرس في أوائل سنة 1809، قبل أيام فقط من نهاية فترة رئاسة جيفرسون، ويستبدله بقانون آخر أقل تقييدا سمي «قانون عدم التواصل»، ورغم ذلك استمرت العلاقات بين واشنطن ولندن في التوتر، حتى حصل الرئيس الأمريكي جيمس ماديسون على موافقة من «الكونجرس» بإعلان الحرب، التي بدأت عام 1812.
وقبل قرابة قرن من الزمن أقر الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون بأن سياسة «العقوبات الاقتصادية» هي سلاح حصري بيد الأمريكيين، حين قال من داخل مقر «الأمم المتحدة»: «الأمة التي نقاطعها هي أمة على وشك الاستسلام، وقد طُبّق هذا العلاج الاقتصادي والسلمي الصامت والمميت»، في إشارة منه إلى أن السلاح الاقتصادي هو الذي ساعد على هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى.
وأضاف ويلسون: «لن تكون هناك حاجة لاستخدام القوة، إنه علاج رهيب لا يكلف حياة خارج الدولة التي تقاطعها، لكنه يفرض ضغوطاً عليها، وفي رأيي أنه لا توجد دولة حديثة يمكن أن تقاوم»، وأتى هذا التبجح الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، إذ رأت أنها أصبحت قوة عالمية عظمى تدير المسرح العالمي، وباستطاعتها فرض عقوبات اقتصادية على أي بلد أو جماعة أو أشخاص تريد لتحقيق أهداف سياستها الخارجية بدلاً من استخدام السلاح لتحقيق ذلك.
ويمكن القول إن «قانون حظر جيفرسون» كان الأساس الذي بنت عليه أمريكا سياسة «العقوبات الاقتصادية» واستراتيجيتها في تجويع الشعوب، مستغلة توسع نفوذها وهيمنتها على النظام الاقتصادي العالمي عقب الحرب العالمية الثانية، ودعمت تلك السياسة الاستكبارية بإنشاء كيانات «دولية» تمرر عبرها أساليبها في قهر الشعوب، مثل «منظمة الأمم المتحدة» و»مجلس الأمن الدولي» و»البنك الدولي» و»صندوق النقد الدولي»، لتتحول تلك السياسة إلى سلاح تشهره واشنطن على كل من يرفض الانصياع لها ويدور في فلك وصايتها.

الكيانات الدولية نافذة لتمرير «العقوبات الاقتصادية» 
سعت واشنطن وقوى الهيمنة والظلم المتحالفة معها من خلال إنشاء «منظمة الأمم المتحدة» إلى إضفاء «شرعية دولية» على ممارساتها العدائية التي مررت معظمها عبر «مجلس الأمن الدولي»، ومن لحظتها استخدمت إدارة العدو الأمريكي سياسة «العقوبات الاقتصادية» ضد كل من يرفض الانصياع لها وفرضته على أطراف عدة بشكل واسع النطاق.
وتشير المادتان 39 و41 من ميثاق «الأمم المتحدة» إلى فرضية أن تكون «العقوبات الاقتصادية» عبارة عن مجموعة من الإجراءات تتخذها «المنظَّمة الدولية» ضد دول أو كيانات أو هيئات متفق على عقابها داخل «مجلس الأمن»، كونها «أخلت بالشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي وهددت السلم والأمن الدوليين». 
ومثلت تلك المادتان الإطار القانوني الذي تستند إليه «الأمم المتحدة» و»مجلس الأمن» في فرض «العقوبات الاقتصادية»، ورغم أنها تصب في مصلحة سياسات واشنطن العدائية ودائما ما تعمل عبر التحشيد الدولي لإقرارها، إلا أن واشنطن تصدر في الغالب قرارات العقوبات الاقتصادية بشكل أحادي وخارج «الشرعية الدولية» وتلتزم بها كثير من الدول دون إجماع داخل «الأمم المتحدة» أو «مجلس الأمن الدولي»، ليتحول ظاهرها إلى «عقوبات دولية»، بينما هي في الحقيقة «عقوبات أمريكية» ويجب التوقف عند الأسباب أو العوامل التي تجبر العديد من الدول على الالتزام بهذه العقوبات رغم أنها خارج «الشرعية الدولية».
السفير السابق لدى وزارة الخارجية اليمنية عبدالإله حجر يرى الحقيقة في أن «العقوبات الأمريكية» تعتبر خرقاً وانتهاكاً للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة «قرار الجمعية العمومية رقم 68/200 بتاريخ 20 كانون الأول/ديسمبر 2013»، وليست ملزمة لدول العالم أو المنظمات الدولية.
ويقول السفير حجر: «إن التزام الكثير من الدول بتلك العقوبات يأتي نتاجا لصدورها من وزارة الخزانة الأمريكية، وبالتالي فإنها تسري على جميع الشركات والبنوك التي لها فروع وتعاملات مع شركات وبنوك في مختلف أنحاء العالم، بخاصة أن الكثير من التحويلات المالية تمر عبر بنوك أمريكية».

الدولار ذريعة أمريكية للعقاب والسيطرة على الاقتصاد العالمي
بعد صعودها عقب الحرب العالمية الثانية استطاعت «الولايات المتحدة الأمريكية» تعميم النظام الرأسمالي ليصبح الحاكم على الاقتصاد العالمي، وبات الدولار (عملتها الرسمية) -كما يسميه البعض- هو «العمود الفقري» للتجارة الدولية والتمويل وتجارة البترول، وحل محل «الذهب» كعملة احتياطية لدى معظم دول العالم، وعلاوة على ذلك، أصبح يحتم على بنوك تلك الدول تمرير معاملاتها المصرفية والتجارية عبر النظام المالي الأمريكي لتصفيتها.
ويؤكد معتز القرشي، الملحق الدبلوماسي لدى السفارة اليمنية في دمشق، أن ازدياد النفوذ التجاري والمالي لأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، مكنها من امتلاك سلاح العقوبات الاقتصادية وتطبيقه بشكل فعال. 
وتابع القرشي حديثه لـ»لا»: «تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية هذا السلاح من خلال تحشيد الدول الحليفة لها وتهديد من لا يلتزم بتطبيق العقوبات بالحرمان من القروض والتحويلات والاستثمار وغير ذلك، خصوصا وأنها تهيمن على صندوق النقد الدولي ولها نصيب الأسد في كل المنظمات الدولية».
وقد عملت واشنطن على إنشاء هياكل ذات تأثير عالمي تلقي من خلالها ثقلها على القطاع المالي العالمي، مثل «قانون باتريوت» و»الأمر التنفيذي 13224»، الذي يجبر البنوك على الامتثال لإملاءاتها، خارج «الشرعية الدولية».
ويقول الكاتب والمحلل السياسي الدكتور أحمد المؤيد إن أمريكا مسيطرة على الحركة الاقتصادية العالمية منذ السبعينيات، واستطاعت فرض عملتها (الدولار) على كل تعاملات دول العالم، وسمتها «العملة الصعبة»، ووصل بها الحال إلى أن تستطيع معرفة أين ومن استخدم الدولار؟ وفي أي عملية تجارية؟ ومن قبل أي بنك؟!
وكشف المؤيد في مداخلته لصحيفة «لا» عن أن التعاملات المالية العالمية بـ»الدولار» تمر عبر بنك «مورغان» في نيويورك، ولذلك تتجنب الدول والمنظمات التعامل مع كل الدول التي تفرض عليها «أمريكا» عقوبات فردية جائرة، حتى لا تعاقبها واشنطن وتوقف تعاملاتها في أعمالها الخاصة وتعاملات الآخرين معها.

«باتريوت آكت» عقب مسرحية «هجمات سبتمبر» يوسع صلاحيات أمريكا في استخدام العقوبات
لم يكن الدولار وحده بالنسبة لـ»أمريكا» كفيلا بإرغام بقية الدول على الرضوخ لها والانصياع لإملاءاتها وتوجيهاتها، فابتكرت «الإرهاب» وأنشأت فقاسات عديدة لتفريخ عناصر جماعاتها التكفيرية «القاعدة وداعش» التي ستمكنها من التذرع بـ»مكافحة الإرهاب» لشن الحروب واحتلال البلدان وقهر الشعوب وإلصاق التهمة بكل من يرفض الخضوع لها كي يتسنى لها ممارسة أساليبها الإجرامية ضده بمباركة دولية.
فعقب مسرحية «هجمات 11 سبتمبر 2001» أصدر نظام العدو الأمريكي قانوناً سمي «باتريوت» أو «باريوت آكت»، ويعرف أيضا بـ»قانون الوطنية»، واسمه الرسمي «توحيد وتعزيز أمريكا من خلال توفير الأدوات الملائمة المطلوبة لاعتراض وعرقلة الإرهاب»، وبموجبه وقعت واشنطن اتفاقيات مع معظم بلدان العالم التي أقرت تشريعات مشابهة له بدعوى «مكافحة الإرهاب».
وبموجبه مُنح مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي «إف بي آي» ووكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه» صلاحيات دولية موسعة، كما شرّع القانون وضعية «المقاتل العدو» و»المقاتل غير الشرعي»، وهو الأمر الذي سمح لسلطات العدو الأمريكي بالقبض -بدون اعتبار لحدود جغرافية أو محاكمة- على من تتهمهم بـ»الإرهاب»، واتخاذ الإجراءات اللازمة من وجهة نظرها ضدهم سواء كانوا أشخاصاً أو هيئات أو حكومات.
وشملت بنود قانون «باتريوت» الذي انتهت صلاحيته يوم 31 مايو/أيار 2015، ثلاثة برامج استفزازية تخص المراقبة المحلية والدولية، نصبت بها واشنطن نفسها حاكمة للعالم ومسؤولة عن أمنه وسلامته المرتبطان بأمنها وسلامتها.
ويتعلق البرنامج الأول في «باتريوت آكت» بالجانب الاقتصادي العالمي، ويُعرف بـ«القسم 215 أو ما يسمى رسميا «حكم السجـــــــــلات التجارية» الذي يعطي حكومة العدو الأمريكي وتحديدا «وزارة الخزانة الأمريكيــــــة» صلاحيات واسعة للحصول على سجلات الشركات المتعلقة بالأشخاص أو الأنظمة أو الهيئات أو الشركات التي تلصق بها تهمة التورط في «الإرهاب»، ويرتبط هذا القسم مباشرة بـ»العقوبات الاقتصادية» التي تفرضها واشنطن بشكل أحادي خارج «الشرعية الدولية» وتلتزم الكثير من الدول بتنفيذها.
ومن وجهة نظر الدكتور المؤيد فإن «العقوبات الاقتصادية» سلاح تلجأ إليه «أمريكا» نتيجة عجزها عن تحقيق أهدافها عبر المواجهة السياسية أو العسكرية أو بالتزامن معهما. مشيرا إلى أن هناك توجهاً عالمياً لكسر هيمنة الدولار على التعاملات التجارية العالمية، عبر العملات المشفرة أو دعم عملات أخرى كاليوان الصيني وغيرها، لكنها لا تحل المشكلة إلا بشكل جزئي.
الدبلوماسي القرشي يعود لتأكيد أن أحد مكامن القوة الأمريكية في ابتزاز أي دولة هو ارتباط العملات المحلية للدول بالدولار الأمريكي، الأمر الذي جعله بمثابة «شريان الحياة» لكثير من بلدان العالم، ما جعلها تخضع للنفوذ الأمريكي وتجبر على مقاطعة أي دولة تريد واشنطن عقابها، وهنا تذهب العدالة لتحل محلها شريعة القوة، وبدلا من أن يكون إصدار العقوبات من اختصاص «الأمم المتحدة» تحول إلى سلاح أمريكي.
ويتابع حديثه بقوله: لا تملك أمريكا قانونياً الحق بفرض عقوبات على أي دولة أو منظمة أو أفراد في العالم، إنما تستند على قوة دولارها واقتصادها، وتفرض «حكم القوي على الضعيف». وهذا ما يسمى حرفيا «الهيمنة الأمريكية».

قرابة 21 دولة وقائمة من 1358 صفحة مدرجين لدى «الخزانة الأمريكية»
يتولى «مكتب مراقبة الأصول الأجنبية» في «وزارة الخزانة الأمريكية» مهمة إدراج أسماء البلدان والحكومات والهيئات والأشخاص والشركات في قائمة «العقوبات الاقتصادية الأمريكية»، ويعد الحظر التجاري من أبرز أشكالها، وهي حاليا نوعان: «عقوبات أساسية» و»عقوبات ثانوية».
وكشفت وسائل إعلام أمريكية أن «مكتب مراقبة الأصول» يدرج حاليا 22 بلدا في قائمة «العقوبات» هي البلقان، بيلاروسيا، بوروندي، جمهورية إفريقيا الوسطى، كوبا، جمهورية الكونغو الديمقراطية، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، اليمن، سوريا، العراق، لبنان، ليبيا، مالي، نيكاراغوا، كوريا الشمالية، الصومال، أوكرانيا، روسيا، فنزويلا، زيمبابوي، والسودان (وإن كانت تمت إزالتها مؤخرا من قائمة العقوبات الأمريكية، إلا أن العقوبات لاتزال سارية على جنوب السودان).
أما الأشخاص المدرجون ضمن قوائم «مكتب مراقبة الأصول» بغية استهدافهم بـ«العقوبات» فيوضح دوغ باندو، وهو كاتب سياسي أمريكا وباحث بمعهد كاتوا للدراسات الأمريكية، أنه بلغ عددهم قبل عامين ثمانية آلاف شخص، ونقل عن مجلة «الإيكونومست» قولها إن إدارة ترامب وحدها أضافت 3100 اسم خلال سنواتها الثلاث الأولى، أما حاليا فتجاوزت الأسماء في قائمة المستهدفين 1358 صفحة.