علي نعمان المقطري / لا ميديا -

حين يدور الحديث عن الثورة الشعبية اليمنية ووعيها فهو وعي يدور وينبع من الإطار الإسلامي الثوري المحمدي الحسيني، ولا يوجد وعي ثوري صالح في هذا العصر خارجاً عن الوعي الثوري الحسيني، الوعي القادر على تأطير نشاط الشعوب العربية والإسلامية المقهورة وقيادتها إلى الأمام في ثوراتها التحررية الراهنة، لأن هذ الوعي يتطابق مع التاريخ العربي الإسلامي في معاناته ومكابداته وتجاربه الاجتماعية وتحدياته بكل أشكالها، ومع القيم التي استقاها والثقافة التي نهلها طوال القرون، فشكلت نفسيته وروحه ومعتقداته الراسخة ومناط رجائه وآماله ومصادر يقينه ومفاهيمه.
لقد فشلت ثوراتنا السابقة لأنها وأخفقت لم تنهل من هذا البحر الفرات الواسع والثري، وظلت في تصادم وغربة عنه، وكان ذلك نتاج تطبيق خاطئ لعلمانية متطرفة بذرها الغرب في تعاليمه وبثها في مناهجه التعليمية التي أسقاها لأجيالنا المتوالية منذ عصر النهضة العربية الإسلامية التي تحدد أنها منذ دخول الاستعمار الغربي محملا بالمطبعة والحداثة الغربية والليبرالية العلمانية المتطرفة والسلوك المجافي للقيم الشرقية العربية الإسلامية وللأخلاقيات والتقاليد الحميدة الراسخة.
كان ذلك أحد أهم أسلحة الغرب في زحفه على الشرق واستعباده بعزله عن مكامن قوته وروحه تمهيدا للسيطرة عليه والهيمنة على بلدانه وأراضيه وثرواته.
كل ثورة في العالم تعكس متطلبات حقيقية واقعية لواقع وبلاد معينة لشعب معين وأمة معينة في تاريخها بعد أن تكون قد جربت استحالة العيش بالطريقة القديمة. فأهم منظري الثورات في العالم الحديث يؤكدون أنه لا يمكن استبدال الأنظمة القديمة بالأنظمة الجديدة إذا لم تكن القديمة قد استنفدت كل طاقاتها على التقدم، ووصلت إلى حالة عجز وأزمة شاملة، وكان الجديد قد نشأت بواكيره في قلب المجتمع القديم نفسه، وتوفرت أسباب وعوامل سيطرته وفوزه في المواجهة القادمة.
فإن لم تتوفر مثل تلك الظروف والأسباب بعد فإن الأمر لا يعدو أن يكون مغامرة ارتجالية غير جاهزة وغير ناضجة الأسباب، ويقود إلى الفشل وإلى إجهاض النمو الطبيعي للثورة، ويشمل هذا النمو الطبيعي ليس فقط الظروف الموضوعية، بل أيضاً الظروف الذاتية المتمثلة في درجة وعي الشعب الثوري للضرورة والثورة والتغيير والاستعداد للكفاح والتضحية في سبيل إنجازه ومواصلته.

الانقلاب العسكري السياسي وأزمة الثورة
هذا لا ينفي أن بعض البلدان لا تستطيع مواكبة العالم نتيجة تخلفها ومعاناتها واستعمارها الطويل، وهي أسباب أفقدتها القدرة على مواكبة العالم، ويصبح التغيير ضرورة حيوية للحفاظ على الوجود الذاتي قبل أن تنقرض، وهنا يظهر الانقلاب العسكري بديلا عن الثورة الشعبية الناضجة.
كما أن التدخل الاستعماري الأجنبي قد خلق أسباباً وضرورات لتدخل مضاد من قبل القوى القومية والثورية التحررية في الإقليم والعالم بعد أن أصبح الاستعمار قوة عالمية مهيمنة ومسيطرة لا يمكن زحزحته عن مواقعه إلا باستخدام القدرات القومية والعالمية المضادة.
إن اللجوء إلى الانقلابات كشكل للتحرر الثوري الوطني هو إقرار بفشل الثورة الشعبية الناضجة واعتراف بعجز القوى الثورية الشعبية الوطنية عن إنجاز انتفاضتها بشكل مستقل، كما أنه أسوأ الخيارات، لكنه قد يكون الخيار المتاح الوحيد الباقي الممكن في ظل تكالب الرجعية والاستعمار على بلد ـ يطمح إلى التحرر ـ من أجل سحقه وإزالته من الوجود.
لا توجد نظريات ثورية صالحة للتطبيق خارجة عن الواقع التاريخي نفسه وخصائصه وثقافته وتطلعاته الواقعية، ولا يمكن أن تفرض برامج قوق طاقة واحتمال الشعب على التحمل والتنفيذ، فكلما كان البرنامج متقدما جداً أكثر من وعي الشعب به وقدراته، أصيب الشعب بالتعب والإنهاك والتمرد على البرنامج الجديد والأهداف الجديدة التي لا يدرك بعد أهميتها وضرورتها، ولذلك لا تفرض على الشعب برامج متقدمة جداً إلا بقدر ما تسمح به طاقاته ووعيه واستعداداته.
إن أفضل البرامج الثورية هي ما تتطابق مع استعداد الطبقات الثورية للشعب الثوري، وهي برامج يجب أن تكون قابلة للتعديل عند الضرورة عندما يتضح أنها غير قابلة للتنفيذ في الواقع، فالعناد القيادي البيروقراطي والسلطوي والتعسف في التنفيذ هو ما يحول البرنامج إلى مصدر للتعاسة الشعبية والقلق الاجتماعي، ويشدد من وتيرة الحروب الأهلية المستعرة.

ضعف الخبرات السياسية والنظرية
هناك خبرات عالمية يجب تعلم الدروس منها حين تكون أوسع في أبعادها وعالمية في جوهرها، والتعلم لا يعني بالضرورة نقلها حرفياً، وإنما الاستفادة من معالجاتها المميزة الناجحة في قضايا معقدة لم نجد لها حلولاً بعد، ناجعة وهادئة تجعل التطور الثوري سلساً ومناسباً.
وهناك رأي خاطئ حول الثورات ومجرياتها وأساليبها، وهو الرأي القائل بالمبالغة في أساليب العنف والقسوة ضد المخالفين بطريقة خارجة عن القواعد الأساسية للحقوق العامة والخاصة للإنسان.
صحيح أن ثورات معينة كانت مضطرة إلى استخدام أساليب قهرية لإجراء خطواتها وتنفيذ برامجها، نعم هذا كان في القرن الماضي وفي ظروف مختلفة، فليس ذلك قانوناً مطلقاً وفي كل مكان وحين.
تجربة الثورة الفيتنامية والكوبية والفنزويلية والساندينية والتشيلية قدمت لنا نماذج جديدة في أساليب العمل الثوري دون التطرف في العسف والعنف وتجاوز القوانين الأساسية للمجتمع، وذلك من خلال الحوارات العامة مع الشعب ومكوناته ومع القوى الأخرى المختلفة مع الثورة والوصول معها إلى تراضٍ وقناعات بقبول البرنامج الثوري كبرنامج وطني يحقق مصالح الأمة وكرامتها وسيادتها وتحررها، وهو أسلوب الديمقراطية الشعبية الوطنية.

الخصوصية والثورة
إن للغرب ثوراته ونهضاته الناتجة عن تجاربه وخبراته وقيمه الخاصة به، ولا يمكن أن يذوب كل طرف في بنية الآخر.
وللشرق ثوراته الخاصة التي تنتجها تجاربه وخبراته وقيمه ومعتقداته وإيمانه وتقاليده وتاريخه.
ومثلما لا يمكن للغرب أن يتلبس أفكار غيره ولا قيمه ولا ثقافته، فإن الشرق لا يمكنه أن يخلع ثوبه ويتنصل من قيمه ومعتقداته ليلبس ثقافات شيطانية أنتجها الغربي في صراعاته مع خالقه حتى صار الإلحاد والإباحية والتهتك والبوهيمية فضيلة وتغييراً، والزنى تحضراً، وتبادل الزوجات تسلية وتغييرا لأنماط مملة وتنشيطاً للحياة اليومية الرتيبة.

المؤامرات الغربية المموهة
في الوقت نفسه خلق الغرب لنا نسخاً إسلامية مزورة جديدة على يديه شذبها من كل ما هو ثوري تحرري وعقلاني، في شكل الحركة الوهابية السعودية والحركة الإخوانية اللتين أنشأهما الاستعمار البريطاني خلال وجوده في المنطقة لتأبيد وجوده فيها، وكان هدفه ومازال هو أن يحتوي تطلعات الشعوب واتجاهاتها المختلفة في صيغتين أساسيتين هما:
ـ الليبرالية العلمانية المتطرفة الملحدة المعادية للدين والقيم الأخلاقية.
ـ الحركة الإسلامية الشكلانية العقيمة الزائفة.
ودفع ودعم تطور هاتين الحركتين بهدف استباق كل تحرك وطني حقيقي وثوري، مادام هاتان الحركتان تحصران الحركة الشعبية في المسارات المحددة لها من قبل المستعمر وكياناته وتحت سيطرته، وكانت مهمة الحركة الليبرالية أن تدفع الناس في اتجاهات الذاتية والمصالح الفردية والحريات الشخصية والغرائزية، والابتعاد عن السياسة الوطنية التحررية، والترويج لأساليب النشاط السلمية الكلامية والتفاوضية مع المستعمر في إطار التحالف والتعاون معه والقبول به كنموذج حضاري للعالم الحر ونقل نماذج تفكيره الثقافية والأخلاقية السلوكية وقيمه.
وكانت مهمة الحركة الليبرالية المصدرة هي أن تخلق أجيالاً من المثقفين والمتعلمين الحداثيين معادين لتراثهم وثقافتهم الوطنية والعقيدية والأخلاقية.
أما الحركات المتأسلمة المزورة فكانت مهمتها التصدي للحركات الثورية الوطنية التحررية المعادية للاستعمار، واتهامها بأنها ملحدة ومعادية للدين والإيمان، وإبعاد الناس عن تأييدها.

رديف الاستعمار والرجعية
في تاريخ تطور الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني، نلاحظ كيف وقفت حركات الإخوان ممثلة برئاسة الحسيني ضد حركة الشيخ المجاهد الإسلامي عز الدين القسام، وكيف خذلت الفلسطينيين عن نصرته وعن نصرة الثورة الشعبية، وظلت تخدع الشعب الفلسطيني وتعيقه عن الجهاد وعن الثورة لعقود من السنين حتى أكملت بريطانيا تسليم فلسطين لليهود وجلبتهم من أنحاء العالم.
وخلال احتلال فلسطين الثاني في يونيو 67 وما بعدها، وقفت حركة الإخوان ضد الثورة الوطنية الفلسطينية، وتعاونت مع المخابرات وأجهزة الأمن الإسرائيلية ضد منظمة التحرير الفلسطينية، ومكن لها المحتل السيطرة على المساجد ودور العبادة والمؤسسات الاجتماعية في الأرض المحتلة، وكانت تردد الشعارات القديمة بأنهم علمانيون وليسوا مسلمين، وتتعاون مع الصهاينة، لأنهم "أهل كتاب" كما يقول رؤساؤهم وزعماؤهم. وكان ومازال هذا دأبهم طوال تاريخهم.
وقد استطاعت تلك الحركات المشبوهة بدعم من المستعمر وأجهزته وأمواله وسطوته وقدراته، استطاعت السيطرة على العوام من المسلمين المرتبطين بالعبادة ودورها، وهم أنشط الجماعات الإسلامية في السيطرة على دور العبادة والمؤسسات الدينية والقوانين الدينية والشرعية، وبهذا أحكم المستعمر السيطرة عبرها على الشعوب الإسلامية والعربية، حيث جرى ترويض الشعوب الإسلامية على الصبر وتحمل الوجود الاستعماري باعتباره قدرا لا مفر منه، وإرادة الله، وأنها عقوبة منه على العباد الذين ابتعدوا عن الله، كما يصورونه هم، ويمنعون الشعوب من الاشتغال بالسياسة والاستقلال والتحرر الوطني، فهم يكررون أن الوطنية ليست من الإسلام كما هم يفهمونه وكما يريد لهم المستعمر أن يفهموه وفقاً لأهدافه ومصالحه، وبما لا يحرض على الاستعمار ولا يطالب بالحرية والاستقلال.
هكذا طالت مراحل الاستعمار للشرق حتى بلغت نحو قرن ونصف في بعض البلاد، التي تحملت عبء المواجهة مع الاحتلال والاستعمار، وكانت هذه المواجهة من نصيب الحركة القومية الوطنية واليسارية الثورية، وهذه حقيقة تاريخية لا ينبغي تجاهلها أو إغفالها، ومنها نفهم الكثير من التطورات والتعقيدات التي صاحبت التطور الوطني.
فاحتلال الجنوب اليمني استمر أكثر من قرن وثلث القرن، ولم تجر إثارة الشعب للتحرر والاستقلال والجهاد ضد الاحتلال إلا من قبل زعماء وطنيين وصوفيين وقبليين واجتماعيين، أما الحركة الإخوانية والوهابية المسيطرة فقد كانت تتصدى لكل تحرك وطني وتقود الناس بعيدا عن الجهاد الوطني، وتخدم المستعمر وأجهزته وسلاطينه وتراقب الوطنيين والمجاهدين وتتقرب بهم للمستعمر وأجهزته وإداراته وتتقاضى عليها الأجور والمكافآت، كان هذا دأب وديدن الرابطة السلاطينية التي كانت واجهة من واجهات الإخوان والوهابية، وقد تعاونت الحركة الإخوانية والوهابية تعاونا وثقيقا مع الاستعمار في معاركه ضد القوى والشعب والحركة الوطنية.
وفي مصر وسوريا والعراق والأردن وفلسطين، فإن الحركات الإخوانية الوهابية كانت وماتزال تعمل كقاعدة للاستعمار وفي خدمته، وتوظف الدين لصالح بقاء المستعمر والدفاع عن الكيانات الرجعية التابعة له والتي تستعمر ميدانيا نيابة عنه.
وتقتضي الأمانة التاريخية القول بأن هناك من شذ عن القاعدة الإخوانية التابعة، وهما حركتا "حماس" و"الجهاد" الفلسطينيتان، وإن كانتا قد نمتا تحت إطار الحركة الإخوانية القديمة في مصر وفلسطين، غير أن انكشاف الخيانات القيادية لقضية الوطن الفلسطيني لدى الحركة الإخوانية القديمة برئاسة المفتي الحسيني ولدى إخوانية الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات، دفع قطاعات وطنية من الحركة إلى التمرد، واتجهت مع شعبها تقاتل وتجاهد حتى صارت أكبر الحركات الجهادية الآن، فقد جرت متغيرات قيادية داخل الحركة الجديدة بقيادة جيل من القادة الشباب الوطنيين الصادقين الذين عادوا إلى جادة الحق والطريق الصحيح، وهم اليوم على رأس الحركة الجهادية التحررية الوطنية إلى جانب بقية الحركات الوطنية الفلسطينية.
وليس مصادفة أنهم الآن يواجهون الصهيونية وحلفاءها المحليين والحكام العملاء وكلاء الاستعمار والصهيونية، لأنهم تمردوا على صفقات الخيانة ومدوا أيديهم إلى قوى المقاومة الوطنية الإسلامية التحررية في المنطقة، وهو مؤشر إلى ما ينتظر الحركات الإسلامية من تعقيدات وتغيرات داخلية قادمة، حيث إنه لايزال هناك قطاعات من الشباب المسلم مخدوعة وستصدمها الوقائع والحقائق التي لم تكشف بعد.