أنس القاضي / لا ميديا -

«جاء الإسلام وقضى على الحضارة اليمنية»، هذا التعميم يتردد في أوساط بعض المثقفين، وهو تعميم خاطئ، لا يستند على الواقع الموضوعي الذي جرى، بل ينطلق من ثنائية «نحن اليمنيين» و»هم القرشيين»، فيفترض أن الإسلام جاء من خارج سياق التطور التاريخي في الجزيرة العربية، وحل محل الحضارة اليمنية القديمة، فقضى عليها؛ فهو فكر غير علمي وميكانيكي لا يرى في حركة التاريخ جدلاً وتفاعلاً وفق سُنن معينة تحكم تطور المجتمعات، فالمصادفة والإرادة الذاتية والحيل والنوايا هي الحاكمة لسير حركة التاريخ من وجهة نظر هؤلاء.
إن البديهيات البسيطة لنقض هذا التوهم هي معرفة التاريخ اليمني كما تقدمه نقوش المسند والمدونات اليونانية الآشورية الفرعونية التي عاصرت الحضارة اليمنية، وأولى هذه البديهيات معرفة أن الحضارة اليمنية الحميرية الناضجة كان سقوطها بعد مقتل الملك «يوسف أسأر» سنة 525م، فدخلت اليمن في الهيمنة الأجنبية الحبشية، ونصبت أكسوم حاكما صوريا لليمن يدعى «شميفع أشوع». فيما كان انتصار الإسلام في الجزيرة العربية متمثلاً بفتح مكة سنة 630 ميلادية، فواقعياً دخلت الحضارة اليمنية مرحلة الانحطاط قبل 100 عام من انتصار الإسلام ودخول اليمنيين فيه، وقد كانت اليمن آنذاك ولاية تابعة للدولة الفارسية في حالة تخلف حضارية. 
لقد كان ظهور نظام «الإيلاف» الاقتصادي قبل الإسلام بزعامة قريش نتيجة تاريخية موضوعية، وتعبيراً عن سقوط الدور الحضاري في اليمن، فتجار قريش لم يدخلوا في منافسة مع الحضارة اليمنية الحميرية، وانتصروا عليها ليتحول الدور المركزي الاقتصادي السياسي من جنوب الجزيرة إلى شمالها، بل قاموا بدور تنظيم وحماية طرق التجارة وعقد اتفاقيات مع القبائل والممالك بعد أن أصبحت اليمن المُدمرة المُستعمرة عاجزة عن القيام بهذا الدور الحضاري، خصوصاً إذا ما علمنا أن التجارة هي الركيزة الرئيسية التي قامت عليها الحضارة اليمنية القديمة.
وفي هذا الخصوص ينقل عبدالفتاح إسماعيل عن إنجلز قوله: «إن حرباً واحدة مدمرة تستطيع أن تقضي على سكان بلد من البلدان لمدة قرون، وإن تجرد هذا البلد من كل حضارته، وإلى هذا النوع من الظاهرات، يعود برأيي زوال التجارة العربية الجنوبية في المرحلة التي سبقت محمدا... لقد كانت اليمن بين 200 و600 ميلادية عرضة دائمة للاسترقاق والغزو والنهب من قبل الأحباش، فمدن الجنوب العربي التي كانت ماتزال مزدهرة في عهد الرومان، غدت في القرن السابع مجرد صحارى حقيقية من الخرائب» (رسائل ماركس إنجلز).