صلاح الدكاك / لا ميديا / مرافئ -

دون جدوى وبوتيرة يومية ذرعت المكان ذهاباً وإياباً إلى العزبة التي يقطنها... طرقت الباب... كانت هامدة تماماً.. رفاق سكنه أخذتهم تباشير العيد إلى قراهم البعيدة وهو... ماذا عنه هو وأين عساه يكون...؟!
قبل قرابة شهر من الآن نقض لغير سبب معلوم غَزْل صداقتنا المديدة وثوابتها، وانقطع بلا سابق إنذار!
هجرني هكذا دفعة واحدة.. لم يكلف نفسه عناء نسج ذريعةٍ ما لقطيعته المعيبة هذه، علني أتسلى بتفكيك منطقها عن الغيظ الذي احتدم في صدري كتنور ضخم.
طرقت باب العزبة للمرة الألف، واختلج أثير المكان الهامد كالعادة بصدى طرقاتي اليائسة والغاضبة معاً... و... حين استدرت لأغادر بخيبتي، شق السكون صوت ملاك صغير: من بتدور يا عمو؟!
التفت على استدارة محيا متوهج كشمس شروق شتوي وديع... كانت الطفلة ابنة الجار القاطن في المنزل الملاصق للعزبة...
- عن صديقي.... أجبتها.. فسألتني بنبرة تشي بأنها تعرف كل شيء عن قاطني المكان: «باسمه؟!».
- عبدالرقيب...
كان صديقي الذي اختفى فجأة قد حدثني ذات مرة عن جارته الطفلة الذكية والموهوبة وعن صوتها الرخيم في الغناء وإنشاد الزوامل.. «إنها هي ولا ريب... بنت المطري».
صمتت لبرهة مديدة حزينة وآسية كموجة سكنت إثر هبة ريح... قبل أن يختلج محياها المشرق على وقع سؤالي:
تعرفين عبدالرقيب إذن... أين عساه يكون؟
- هو قد عَزَّل من هانا وانتقل للسكن في حارة أخرى... ردت بنت المطري بنبرة غاصة تشوبها حشرجة باكية وهي تبلع ندى أنفاسها.
- هل تعرفين اسم الحارة التي انتقل إليها...؟ سألتها متشبثاً بطرف خيط لغز القطيعة أخيراً.
ردت الطفلة باقتضاب مفجوع وهي تفرك أصابعها الشبيهة بخيوط شمس تكاثفت براعم متوهجة على كفيها الحليبيين، قائلة:
- «اسمها ماجل الدمة...» و... وانكفأت المسكينة كنسمة صوب باب منزلهم اللصيق بالعزبة... تاركة تنور غيظي على صديقي الحانث أكثر احتداماً من ذي قبل.
«إنه في ماجل الدمة إذن... الحارة غير نائية إلى حد تبرير القطيعة... بضعة كيلومترات فقط تفصله عني ولا يزور ولا يسأل».
يا لها من نهاية مرتجلة وماسخة وغير مكترثة - إذن - لصداقة بدت دائماً في اعتقاد الآخرين أقوى من صلة نبي بملاك الوحي.
صداقة مرتجلة كوخزات أصابع صديقي الحانث على أوتار آلة العود المستعارة التي لفظت أنفاسها الأخيرة بين يديه مختنقة بوعد لحن أومض وتلاشى في مدار المحال...