علي نعمان المقطري / لا ميديا -

قلنا في المقال السابق إن سر الصمود اليمني يكمن في وجود القيادة القوية والعبقرية والمتميزة والاستثنائية، التي فكرت وخططت وجمعت القوى المبعثرة المتناثرة واستطاعت توحيدها حول أهداف ثورية وطنية إيمانية مشتركة، فتحولت القوى الضعيفة السابقة إلى قوى صلبة متماسكة، مؤمنة ومتفائلة بالنصر. فبعد أن كاد اليأس والملل والإحباط أن يدب في نفوسها، تحولت إلى قوى فولاذية ترعب بصبرها وصلابتها وبأسها وشجاعتها وأصواتها وشعاراتها الأعداء في الميادين والساحات.
 
 كل هذا ليس أمرا بسيطا يمكن أن تنجزه أي قيادة ثورية، وإن كانت مقتدرة، فهو -والحق يقال- أقرب إلى الإعجاز والخوارق، وليس في هذا أية مبالغة، بل هو التقييم الموضوعي المبني على الوقائع والحقائق والمنطق المادي العلمي والروحي معا. ولا يمكن تفسير الإنجازات القيادية وفقا للمنطق المادي الجاف منفردا، فالأمر نتاج خليط من عوامل مادية وموضوعية وذاتية وروحية وأخلاقية ومعنوية، وللعوامل المعنوية والروحية والأخلاقية إلى جانب العوامل المادية الدور الأهم، بل دوما لها الدور الحاسم في خبراتنا وثقافتنا وتقاليدنا وعقائدنا وتجاربنا التاريخية، لكن دور القيادة الثورية العليا في كل هذا يظل الدور الأكثر حسما وخطورة وتأثيرا بين مختلف العوامل الذاتية.

تحصين القلعة من الداخل وقهر المؤامرات العدوانية والتخريبية
كان اليمن عاريا ومكشوفا للأعداء منذ سنوات، جاهزا للاحتلال والاستعباد والإخضاع. وكان العدوان منذ سنوات طويلة قد أعد العدة للقضاء على القدرات العسكرية والحربية اليمنية ورصد مواقعها جميعا، ولم يترك العملاء شيئا إلا ورصدوه وسلموه للعدوان طوال سنوات سبقت إطلاق الهجوم العدواني، فقد أعطى النظام السابق للأعداء كل ما طلبوه من مواقع وقواعد بحرية وجوية وبرية وجزر وجبال ومرتفعات وسماء وبحار وسواحل وفجاج وصحارى ليقيموا عليها كل ما يريدون من أجهزة ومنصات للرصد والاستشعار عن بعد وعن قرب ومن فوق ومن تحت ومن جنب ومن كل الزوايا، أقمار صناعية فضائية ومحطات برية أرضية وطائرات مسيرة وغير مسيرة، وطائرات حربية واستطلاعية متحركة وثابتة تغطي جميع الجغرافيا اليمنية ولا تنسى منها شيئا  فوق الأرض وتحتها. 
كما بوأ للأعداء مواقع داخل الجيش والقيادة العامة والعليا والوسطى وداخل القوات والدفاع والأركان والعمليات والأمن والمخابرات والإدارة، يشرفون على كل شيء وعلى كل فرد ومسؤول وقائد ويديرونه بطريقة مباشرة وغير مباشرة، يعاملون البقية كخدم لهم، فهم أصحاب الأمر والنهي، الرفع والخفض، ووصلت الأمور إلى حد أن يكون للملحق العسكري الأمريكي وكذا السعودي مكاتب رسمية داخل مبنى القيادة العامة والعليا والأركان العامة للقوات المسلحه اليمنية يداومان فيها من الفجر إلى المساء، يأمران وينهيان ويوجهان ويديران ويتجسسان ويطلعان علنا على كل شيء، يقرران الحرب والسلم وشؤون الحكم، والكل يمتثل لهما، من الرأس حتى الأذناب.
وكان يتم في السفارتين التخطيط والتنسيق اليومي. كان هذا الوضع والحال المزري المهين قد بدأ مع حكم الإرياني ـ الأحمر ـ العمري ـ النعمان، ذلك الرباعي القذر العميل، ثم في عهد الغشمي، ثم عهد عفاش، ثم هادي. كان ذلك يبدو كحالة عادية، وكل حاكم منهم كان يطوره ويزيده سعة، لأن كلاً منهم جاء على عربة السعودية وأموالها وانقلاباتها الشهيرة والجريئة، فهم يدينون لها بالولاء والتبعية والاستعباد والاستزلام، ولا يتصرفون من ذات أنفسهم وإرادتهم، بل يرجعون إلى ولية نعمتهم في كل شيء وعبر مندوبها المحلي المكلف بحراسة عبيدها وإدارتهم كما تريد. وكان الكل للأسف عيونهم مركزة على كيس الملحق أو السفير أو الرسول السعودي، وهذا الكيس هو المقدس الأهم، هو القبلة وبوصلة العبادة، وما دام الكيس مفتوحاً وأزراره وخيوطه مرخاة، كان هناك دوما من هو مستعد للخدمة وتقديم الأسرار والقيام بالأعمال المطلوبة منه، من الانقلابات وقتل الزعماء والقادة إلى دفن آلاف الشرفاء، وتغييب الآلاف في السجون وتغييبهم تحت الأرض وفوق الأرض وفي البحر والجزر وفي قاع البحار ومن فوق السماء أيضاً في الداخل والخارج.
كان الجميع من الرؤساء والقادة والشيوخ وعلية القوم ووجهائهم يتسابقون على الخيانة، يخون بعضهم بعضا، ويخونون أنفسهم وأعراضهم ووطنهم ودينهم. الخيانة كانت هي البضاعة المطلوبة في كل عميل يود التقرب للمعبد الشيطاني القبيح. والنتيجة أن الأمن الوطني والقومي والسياسي والعسكري والاجتماعي والسلطاني والعام والشامل كله كان مكشوفا ومثقوبا وعاريا، وكل رئيس كان يوسع رقعة اختراقاته وانخرافاته وتعريه أكثر فأكثر. وكان كل واحد منهم يضيف ويبدع أكثر من سابقيه لينال الحظوة والقبول ويزيد من نصيبه وجوائزه. وكان جيش من الجواسيس والعملاء والمخبرين يعملون ليلا ونهارا لخدمة الأجنبي الدخيل، وخاصة خلال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. وفي المقابل كان هناك آلاف الوطنيين الشرفاء يقبعون في سجون السلطة القائمة العفنة ومعتقلاتها ومنافيها.

مواجهة الاختراقات الإمبريالية في الداخل
ما كان للثورة أن تنتصر، وما كان للوطن أن يصمد في ظل بنيته الداخلية المريضة والمهترية والمخترقة من الماضي بشكل كبير. ولذلك كان لا بد من شن حرب طويلة عميقة ومحسوبة بدقة ضد الاختراقات البنيوية الداخلية الشاملة.
كان العدو يحسب منطقيا أنه ما دام الوطن مخترقا من قبله إلى تلك الدرجة من الشمولية والاتساع فإن أية قوة وطنية ستظل عاجزة عن إحداث أية اختراقات مضادة لمشروعاته ومخططاته واستراتيجياته، بل كانت تلك تقديرات الكثير من القوى والقيادات الوطنية القديمة اليسارية والوسطى والقومية من الجناح المعادي للاستعمار والرجعية تاريخيا، خاصة وقد شملتها اختراقات الرجعية والغرب سياسيا وفكريا ونفسيا، أمثال ياسين سعود والعتواني والعطاس والبيض والمخلافي. فقد كانت اللجنة الخاصة الأمريكية ـ السعودية قد جندتهم وأمثالهم الكثيرين وصارت تدفع لهم المرتبات والعطايا المالية باسم الإكراميات الشهرية والسنوية والدعم الخيري، وكلها بنيت على القاعدة العميلية التي أرساها نظام عفاش والأحمر والزنداني وتابعها هادي وعلي محسن وحميد والآنسي واليدومي.
كانت البنية الداخلية السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والدبلوماسية والإدارية كلها مخترقة تحت سيطرة اللجنة الأمنية الاستخبارية الأمريكية ـ السعودية، فقد كانت تضم كشوفات مرتبات اللجنة السعودية الاستخباراتية أكثر من 50 ألف مرتزق عميل، باع نفسه للدوائر المخابراتية الأمريكية ـ السعودية، وهي كتلة كبيرة نمت طوال 40 عاما من حكم عفاش وعملائه وزبانيته وأسرته، وكانت تضم كبار الضباط والقادة والمسؤولين والمشائخ والوجاهات والسياسيين والإعلاميين والمثقفين والأكاديميين والتجار ورجال الأعمال وقادة أحزاب وجمعيات ونقابات ومؤسسات رسمية وغير رسمية. كل هذا العدد كانت مهمته اليومية جمع المعلومات الأمنية والعسكرية والسياسية الخاصة باليمن وأمنه القومي والوطني والعام، وإيصالها أولاً بأول إلى مجمع السفارات الأمريكية والبريطانية والسعودية المشتركة، وتنفيذ التعليمات والأوامر المطلوبة، وحياكة المؤامرات وتصفية القوى والعناصر الوطنية، والسيطرة على مؤسسات ودوائر السلطة والحكم والقيادة في جميع فروعها ومفاصلها، وإحكام قبضة الهيمنة على جميع أجهزة الدولة وثرواتها وقدراتها والتحكم بها وإدارتها بموجب مخططات سيدهم الأمريكي ـ السعودي وأهدافه.

مواجهة أزمة المعلومات والمخابرات والاختراقات
كان أمام القيادة مهمة خطيرة جداً وهي تأمين المعلومات وسلامتها وحمايتها من التسرب والاختراق، وقبل كل شيء معرفة العناصر المدسوسة على الأجهزة الحكومية السابقة وفرزها عن العناصر الوطنية الشريفة وتحديدها بدقة وعزلها ومحاصرتها وتحييدها حسب جرائمها وخطورتها وأنشطتها الهدامة، تفكيك وتطهير الأجهزة القديمة المخترقة بناء على تقييم ودراسات معمقة وشاملة وسليمة، وإعادة بنائها على أسس جديدة واعتمادا على كوادر وطنية مشهود بنزاهتها والتزامها وانضباطها وجهادها، إنشاء أجهزة متخصصة جديدة ووقائية ذات قدرات عالية ومهارات غير مسبوقة في مختلف المجالات الأمنية والعسكرية والسياسية والتصنيعية والاستراتيجية والعمليات الخاصة والاتصالات والتقنية وتأمينها، وإحداث اختراقات مضادة للعدو وأجهزته وقواته وقياداته وتقنياته وتحركاته ومؤامراته ومخططاته.
 
تأمين الثورة والوطن
يأتي الإعجاز ليس من طبيعة المنجزات المحققة وحدها، بل من سر القدرة الأسطورية للقيادة الثورية في ظروف مضادة معاكسة تاريخيا وموضوعيا وإقليميا تحول دون توفر إمكانات إنجازها وأبسط المتطلبات الضرورية وفقا للحسابات الموضوعية والتحليلية، وتحويل الواقع المتعفن اليائس إلى مادة بناء وثورة وصمود وانتصارات كبرى وبناء واستنارة ووعي ومواكبة استراتيجية. تحويل القبيلي والفلاح والراعي والحرفي والبدوي والمتعلم والمثقف الوطني والمديني التقليدي إلى عنصر ثوري بناء تطوري منظم ومنضبط وتطوعي وقيادي ومستعد للعطاء والوهب والسخاء والجود بالأموال والأنفس والأرواح. كان ذلك فوق تصور جميع القوى الوطنية السابقة، بما فيها أكثرها يسارية وقومية وتقدمية وشعبية وثورية والتزاما وتشددا وحداثة.

مشكاة واحدة ينسل بعضها من بعض
إن اليد والعقلية والروحية نفسها التي تعهدت من قبل رجالا بسطاء من عامة الناس ومن فقرائهم وبوسائلهم ومهمشيهم، كبلال الحبشي وزيد المستعبد وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وياسر العنسي وزوجته سمية وأبي ذر والمقداد والأشتر النخعي وموسى بن نصير اللخمي وطارق بن زياد المولى البربري، واليد نفسها التي تعهدت بتحويل وتربية رجال كانوا من علية قومهم وأشد الناس كراهية للإسلام ونبيه وأتباعه، إلى أناس ناقضوا طبقيتهم وسيادتهم وثرواتهم ومكانتهم وتخلوا عنها ولحقوا بالنبي الأعظم، واليد نفسها التي حولت ملوكا وأباطرة وجبابرة وطغاة وأثرياء غارقين في النعيم والحرير والقصور والأملاك والقصور والصولجان والقوة والسطوة والعز والمنعة التي كانت تداني قصور فارس وروما وتحت إمرتهم جيوش وقوى كانت ترتعب من سطوتها الإمبراطوريات لعزيمتهم وشدة بأسهم وأمجادهم، حولت أولئك الملوك إلى رهبان وفرسان وإلهيين وربانيين لا مطمع لهم في الحياة سوى نشر العقيدة الجديدة الصحيحة التي عرفوها من خلال رسول الله ووصيه وصهره وأخيه واستمسكوا بالعروة الوثقى، ومئات الآلاف من العرب والمسلمين الذين حولتهم أيادي النبوة والعترة مما كانوا عليه إلى ما أصبحوا عليه، هي نفسها اليد المربية الحانية، وهي نفسها الروح الملتهبة بشعلة الإيمان والإنصاف والعدالة والقيم الجوهرية الإنسانية والربانية والرشد والعزم والتضحية والقوة والإقدام والاستقامة والعقل والعرفان.