سيدي بليوط *

إن قراءة فاحصة للنصوص المؤسسة للنهب الأمريكي المنظم، تبين بوضوح الأهداف التي سطرها منظرو السياسة الأمريكية (وأهمهم بيفريدج) في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، بغية السيطرة على العالم. وخلاصة تلك التنظيرات هي:
1) أن الرغبة الأمريكية في حل أزماتها الاقتصادية بالعسكرة أمر محسوم منذ القرن 19.
2) أن السياسة الأمريكية تقوم على (فتح) الأسواق الخارجية عنوة وتحويلها إلى مستعمرات أو تحت اسم ملطف (مراكز تجارية). وهذا ما يفسر العدد اللامتناهي من القواعد العسكرية الأمريكية (وخصوصاً في مراكز الخليج)؛ فذلك ليس دليلاً على فائض قوة أمريكي بل هو إجراء عملي لتوصيات بيفريدج الذي نظر لهذه السياسة حتى قبل أن تمتلك أمريكا القدرة العسكرية الفعلية على تنفيذ هكذا مشاريع.
3) كل منطقة في العالم توافق على التبادل التجاري (الحر) مع أمريكا هي في عرف أمريكا مستعمرة، وإن حكمت نفسها، كما قال بيفريدج. لا ننسى أيضاً جملته الواضحة: "ويرفرف علمنا عليها". ولعل علم الناتو الصيغة المعاصرة لتلك المستعمرات (تركيا نموذجا).
وسنتطرق هنا إلى الجذور الأيديولوجية للوطنية الأمريكية (American Patriotism) المنبتقة من التنظيرات العنصرية للمدرسة الآرية، والتي تترجم إلى سياسات إبادة في الداخل والخارج لتنفيذ سياسات الهيمنة المذكورة أعلاه من أجل السيطرة على العالم. وإذ يتهمنا عادة أصحاب الميوعة الليبرالية بالتحامل على حمامة السلام (أمريكا) ويصفون نقدنا لها باللغة الخشبية، لذا قررنا أن يكون ردنا مبنيا على الاقتباس بالدرجة الأولى. يقول كل من ماتياس بك وبيت كويل في إحدى دراساتهما الأكاديمية المشتركة: عكس المنظرين غوبينو وتشامبرلين اللذين يعتبران بمثابة أيقونات للعرق التوتوني الأسطوري (Mythical Teutonic Race)، الذي كان مقرونا بألمانيا وبلدان الشمال الأوروبي (المقصود اسكندينافيا)، ركز عدد من الكتاب الأمريكيين على فكرة سمو الأنجلوساكسون على غيرهم. كان هؤلاء ينظرون للأنجلو - ساكسونية على أنها مجموعة من الآريين الذين يصعب التمييز بينهم وبين الآريين التوتونيين (الجرمان) بشكل أكثر أو أقل وضوحا. اقترنت ادعاءات التفوق الأنجلوساكسوني بالسيناتور وليام ألن وايت من ولاية كنساس، وهو كاتب مشهور وقيادي في الحركة "التقدمية"، الذي نظر لفكرة أن الأنجلوساكسون فقط هم من يمكن أن يحكموا أنفسهم، وأن قدرهم هو الاستيلاء على جميع الجزر المتواجدة وراء البحار و"إبادة تلك الشعوب التي استعصى إخضاعها". يقترن أيضا بالحركة التقدمية بالولايات المتحدة مع مطلع القرن (المقصود القرن العشرين)، عضو مجلس الشيوخ العنصري والمؤرخ ألبرت ج. بيفريدج من ولاية إنديانا. خلط بيفيريدج عنصريته مع الحماس الديني بالقول أنه من بين جميع الأجناس الآرية، فقد أشهد الله شعب الولايات المتحدة (أي اختاره وأخذ العهد عليه) ليكون حكماً، وليصبحوا (أي الأمريكيين) "أمناء التقدم في العالم وحراسا لسلام الصالحين به".
من هذا الاقتباس نستخلص الملاحظات التالية:
1) أن الأيديولوجيا الأنجلوساكسونية هي امتداد فعلي (وليس متخيلاً) لنظرية سمو العرق التوتوني على باقي الأعراق؛ وهي نظرية ظهرت في فرنسا مع أرتر جوزيف دو غوبينو وطورها الإنجليزي هيوستن ستيوارت تشامبرلين بمحاولة دعمها بأدلة "أكاديمية". ولمن لا يعلم من هو تشامبرلن، فقد كان من أكبر دعاة الوحدة الجرمانية، أو ما يسمى الشعوب الأنجلوساكسونية (إنجليز وألمان) خلال مطلع القرن العشرين. وقد كان مرجعا "أكاديميا" أساسيا لدى كل مفكري الحزب النازي الألماني.
2) أن سيطرة أمريكا على عالم ما وراء البحار تتم بالإخضاع، وإن استعصى عليها الأمر فالإبادة أو تدمير تلك المجتمعات، وهذا ما نراه في المشرق العربي من تهجير وإبادة للشعوب العربية كمدخل لفرط حبات المسبحة وتدمير المجتمعات العربية.
لا يفوتنا أن نلاحظ أيضا أن ما يسميه الأمريكان "تقدمية"، وهي في الحقيقة رجعية، هي المسؤولة عن هذه الجرائم. وإن كان الحال كذلك، ما الذي نستغربه حين يكون الغزو المباشر (العراق أنموذجا) نشرا للديموقراطية وحقوق الإنسان والذبح ثورة عظيمة؟! لا داعي للاستغراب، فكل المفاهيم الأمريكية مقلوبة!
3) عكس ما يروجه الكثير من المثقفين العرب أو اليمين الأوروبي بأن هناك حفنة من الصهاينة تسللت وسيطرت على القرار في أمريكا وبريطانيا، فإن تنظيرات المحافظين القدماء تبين أن كل الأفكار التي طبقتها لاحقا الصهيونية في فلسطين (1948 وما بعدها) متوفرة قبلا في تنظيراتهم. فالسيناتور ألبرت بيفريدج يرى أن الأمريكان هم "شعب الله المختار"، والسيناتور وليام ألن وايت يرى أن الإبادة أو الإخضاع هي الطرق الناجعة لفرض الأمر الواقع، وهو ما فعلته أيضاً عصابتا الهاغانا وشتيرن الإرهابيتان واستمر كيان العدو في تطبيقها حتى بعد أن خضعت له سلطة أوسلو. وبالتالي فالصهيونية نفسها منتج استعماري أنجلوساكسوني، وليس مجموعة بشرية استولت على مركز القرار في لندن قبل قرن من الزمن. محاربة الصهيونية تكون بالتصدي للمشاريع الأنجلوساكسونة في مجملها ومقاومة فكرة الخضوع لسياسة الترهيب الصهيوأمريكي.
4) يرى بيفريدج في سعيه للسيطرة على العالم وجوب أن يكون الأمريكان "أمناء التقدم في العالم وحراسا لسلام الصالحين به (الصالحين بهذا العالم)": كان الأمريكان يشيعون بأنه لولاهم ما تقدم العالم، وأن عليهم مسؤولية ربانية في نشر التحضر في العالم غير المتحضر بغزوه وإبادة أهله. غير أن تجربة المعسكر الشرقي أثبتت أن التقدم يمكن أن يأتي من خارج العالم الأنجلوساكسوني، كالسبق السوفياتي في غزو الفضاء مثلا مما حدا بالسياسيين الأمريكان إلى تعديل خطابهم عن أنفسهم من "أمناء التقدم في العالم" إلى "أمناء حقوق الإنسان في العالم" في إطار نفس السياسة الاستعمارية. أما وصفهم لأنفسهم بحراس السلام الصالحين في هذا العالم فهو منطق تقسيم العالم إلى فسطاطين: الصالحين (محور الخير أو الاعتدال) والمغضوب عليهم (محور الشر)، وهو نفس الخطاب الذي استعادته الإدارة الأمريكية أيام جورج بوش الابن (إما معنا أو ضدنا). والصلاح هنا هو الخضوع والانبطاح للرغبة الأمريكية، في حين أن الشر كل الشر كامن في مقاومة رغبة الهيمنة الأمريكية. أما عبارة "حراس السلام" فقد تم استبدالها بعد إلغاء الاتحاد السوفياتي بعبارة أصدق تعبيرا وهي أن "أمريكا شرطي العالم".
5) عندما يقول بوش الابن (وهو من المحافظين الجدد) بأن "الله" كلمه لغزو العراق، فذلك ليس عتها، بل تقليد للمحافظين القدامى كألبرت بيفريدج الذي يرى بأن الأمريكان شعب الله المختار الذي اصطفاه لغزو البلدان الأخرى. إنه مزيج من العنصرية (تفوق العرق الآري) مخلوطا بالخطاب الديني, أي الرطانة التي يحاولون بها إخفاء الوجه الحقيقي والقبيح للرأسمالية. إن الرأسمالية ولادة للهمجيات، خصوصا في وقت أزماتها، وعلى رأسها الفاشية العرقية أو الدينية وأحيانا تزاوجهما.
ولكل هذه الأسباب، فلا غرابة أن يقتل الإنجليز ملايين البشر في الصين والهند وأفريقيا وكذلك فعلت أمريكا بملايين البشر في كوريا وفيتنام والعراق دون أن يؤدي ذلك إلى أي وخز للضمير. فلا تستغربوا تصريح مادلين أولبرايت بأن "قتل نصف مليون طفل عراقي كان ثمنا يستحق أن يُدفَع" ,ولا التصريح الذي تحدثت فيه هيلاري كلينتون عن اغتيال أمريكا للزعيم معمر القذافي قائلة فيه بكل استخفاف ومع قهقهات: We came، We saw، He died (جئنا، نشرنا*، فمات)، فكانت كلينتون بذلك مدشنة عصر الداعشية في ليبيا وسوريا كما أثبتت ذلك وثائق "ويكيليكس".
وبالتالي، حين يزعم "مثقفو" التبعية بأن مشاكل المنطقة ذاتية المنشأ لرفض المنطقة الانخراط في روح العصر (أي الليبرالية!) مفوتة على نفسها فرصة للتقدم (أي القبول الطوعي بالنهب الأمريكي المنظم لخيراتها)، فذلك خطاب تزييفي. وبما أنهم مولعون بتفسير الواقع بالنصوص المكتوبة سلفا، لا يسعنا إلا أن نوجهه للنصوص المؤسسة لليبرالية، كنصوص البريطاني هربرت سبنسر الذي نظر لفكرة استلهام صراع الحيوانات في الغابة وتطبيقها على المجتمعات والأفراد، ثم أطلق لاحقا على هذا المفهوم مصطلح "البقاء للأقوى". وبما أن الحال كذلك، فإن هذه النصوص تعطينا فكرة عما قصده الأمريكان بفرض النيوليبرالية (إحياء الليبرالية) بالمنطقة, أي إبادة شعوبها التي لا "تصلح للبقاء" في هذا العصر. وهي السياسة التي عايناها بشكل جلي وممنهج بتجويع شعب العراق ثم غزوه ثم تمزيقه ديموغرافيا (التقسيم الديموغرافي للبشر ركن أساسي لكل منظري العنصرية)، ثم تسليح وتسليط الفاشية الدينية عليه (الإخوان المسلمين ومشتقاتها كداعش والقاعدة) لإبادة وتهجير شعب العراق، ومحاولة تدمير سوريا (دولة وشعبا وجغرافيا)، عن طريق أقذر أنواع حروب التاريخ إرهابا. أما ما يروجه النشطاء الشبان المتمولون من سفارات أمريكا والاتحاد الأوروبي عن الوجه الملائكي الزائف لليبرالية فلا يعدو كونه تخديرا لوعي المجتمعات العربية تمهيداً لبتر أطرافها وتمزيق أحشائها، ولا يقل خطورة عما يفعله توأمهم التراثي المسمى بالإسلام السياسي. ولهذا لا غرابة أن تجدهما في نفس الخندق الإمبريالي الأمريكي بزعامة الحاخامين عزمي بشارة ويوسف القرضاوي.
عزيزي النيو ليبرالي أو العربي الجديد، يؤسفني أن محاولتك لتبرئة الليبرالية من العنصرية والهمجية باءت بالفشل، فهي ثابتة بالنصوص والوقائع، ولا أعتقد بأنك تستدل بالنصوص في الصراع الأيديولوجي مع الغير وترفض أن يستخدم هذا حين يتعلق الأمر بنقد الليبرالية ومفرزاتها من عنصرية وهمجية يشهد عليها تاريخ الكولونيالية قديمة وجديدة.
ملحوظة أخيرة: حين يروج الإعلام الغربي/العربي لفكرة عنصرية ترامب فهذا تشويه للحقيقة. الدولة الأمريكية هي العنصرية بأيديولوجيتها ونصوصها المؤسسة لسياساتها وتاريخ ممارستها السارية المفعول إلى الآن، وما دونالد ترامب وبوش والداعشية هيلاري كلينتون إلا مواطنون أمريكيون "صالحون" يمارسون ما تربوا عليه من ذبح للأغيار في حب أمريكا.
في ظل الأنجلوساكسونة ومفرزاتها الصهيونية المتربصتين بالمنطقة العربية، أمام شعوبنا ثلاثة خيارات: الخضوع، أو الإبادة، أو المقاومة والتحرر الوطني. ولنا في الثورة الجزائرية والفيتنامية كل العبر لمن أراد البقاء على قيد الحياة وداخل التاريخ لا خارجه.
ولهذا فالتقدير كل التقدير لشعوب المشرق العربي المرتبطة بأرضها، والامتنان كل الامتنان لقادة حركة التحرر الوطني العربية، والمجد كل المجد لشهدائها الأبرار الذين تصدوا للهمجيات بشقيها الليبرالي والتكفيري.

* نشرنا: بمعنى ذبحناه باستخدام المنشار.
* كاتب مغربي.