طلال سفيان / لا ميديا -

في زمن التحرّر الاسمي من الاستعمار وهيمنة العنصرية والإرهاب، كان وما يزال الأفق يحمل لمعان نجوم ألهمت الملايين وباتت رموزاً خالدة للأمل والعزة والتحدي.

فلسفة التنين الأصفر
مر يوم السبت الماضي (20 يوليو) حاملاً معه ذكرى رحيل أسطورة الألعاب القتالية وفيلسوفها ومُرسي مداميكها الحديثة الذي مازال طيفه يشع على الأرض.
يُعد بروس لي، ومن دون منازع، أعظم مقاتل عصري في فن القتال الصيني "الكونغ فو". كان الرجل صاحب القبضة الذهبية معبود الجماهير ونجم الشاشة الذي سجل الرقم القياسي في عدد المعجبين بفنه العظيم. وكان بالنسبة للصينيين أكثر من إنسان، فقد رأوا فيه البطل المرسل إلى الأرض ليعلم الناس معاني العزة والكرامة. 
جاء بروس لي إلى الدنيا حاملا معه إعاقة كان من الممكن أن تُدمر حياته، ليترك كل ذلك أثره عليه، فكرس حياته من أجل تحويل جسمه الضئيل إلى سلاح قوي كبير، معتبراً نفسه مخلصاً ليس للصينيين فقط، بل لكل جماهير الشباب والمراهقين.
لم يولد بروس لي في الصين، بل ولد مريضاً في أحد مستشفيات سان فرنسيسكو في الـ27 من نوفمبر 1940، أثناء قيام والده المغني في أوبرا هونج كونج بجولة عمل هناك.
في أوائل الأربعينيات، عاد إلى هونغ كونغ، عندما كان في سن المراهقة. وهناك كان مضطهداً من قبل الطلاب البريطانيين (أبناء المحتلين للجزيرة) لخلفيته الصينية.
في الثامنة عشرة من عمره عام 1959، سافر إلى الولايات المتحدة، في حين كان الأمريكيون ينظرون إلى الصيني على أنه الخادم الخنوع في المنزل أو عامل السكك الحديدية البائس.
مع مطلع الستينيات برز التنين الصيني على الشاشة السينمائية، واستطاع بنجوميته أن يحول القتال إلى فلسفة مناهضة للظلم والاستعمار، وهو ما أثار حنق هوليوود والحكومة الأمريكية، ليعود نهاية العام 1972 إلى هونج كونج ويؤسس شركته الخاصة للإنتاج السينمائي، وأطلق أول فيلم من إنتاجه وهو "عودة التنين" (Return of the Dragon).
لم تنحصر حرب بروس لي ضمن الحلبة أو موقع التصوير فقط، بل امتدت لتقارع المؤسسة الأميركية من جهة، مُمثّلةً بهوليوود وتنميطاتها الجاهزة إزاء الشخصية الآسيوية، ثم المجتمع الصيني التقليدي المُحافظ من جهة ثانية؛ في الأرض الأم وفي هونغ كونغ وحتى في المهجر الأمريكي. نظر الشيوخ إلى الثائر اليافع على أنه أحد الخوارج على العادات التي توارثتها الأجيال أزمنة طويلة.
هذا الأمر حدا ببروس لي إلى الافتراق يائساً -وإن ظلّ عازماً- عن هوليوود، التي ما كانت بعد لتجعل من صينيٍّ بطلاً يطرح النجوم البيض أرضاً. في هونغ كونغ، ذات النهج الاقتصادي الليبرالي والمناخ المنفتح بحكم استقلالها عن الصين الماويّة آنذاك، وتبعيتها للتاج البريطاني والغرب، أنتج بروس لي أفلامه بسلطة فنيّة شبه مُطلقة جعلته في سنين قليلة، نجماً عالمياً وأسطورة.
عرف بروس لي بمناهضته للاستعمار والإمبريالية. وكان من المناهضين للحرب الأمريكية على فيتنام، كما كان من الداعين لتحرير هونج كونج ومكاو من الاستعمارين الإنجليزي والبرتغالي وعودتهما للصين.
كان عشاق "لي" حول العالم ينظرون إليه على أنه ثائر أكثر من كونه ممثلاً سينمائياً، لذا لم يكن أمراً غريباً من جانبهم أن قاموا بوضع الملصقات التي تحمل صوره إلى جانب صور الثائر العالمي أرنستو تشي جيفارا في حقبة الستينيات.
بنى "لي" نظاماً قتالياً متكاملاً للدفاع عن النفس، ويقوم على فلسفةٍ بسيطةٍ، يقول بشأنها: "يظن الناس أنّ الماء رمزٌ للضعف، لكن إن وضعت الماء في إناء فإنّه سيأخذ شكل الإناء، ولو وضعته في زجاجة فسيتخذ شكلها، إنّه بلا شكل، ولا يمكن تحطيمه. لذلك، عليك أن تتكيف، أن تكون منساباً كالماء".
كما حول التنين الصيني الكونع فو إلى فلسفة ونهج عسكري. ففي منهجه الجامع والعابر للطرق في آن واحد، أطلق بروس لي الـ"جيت كون دو"، بلغة أهل هونغ كونغ، وتعني طريقة القبضة المُعترضة. المقاتل هنا لا يتّبع مذهباً من المذاهب، وإنما يُتابع تحركات الخصم. لا يقرأ الكتب والمراجع، وإنما يستقرئ سلوك غريمه داخل الحلبة ويبقى في حال وحدة مع اللحظة. يرصد ضربة العدوّ المُقبلة ليعترضها آنيّاً، ليس بانكفاء المدافع، وإنما بمبادرة المهاجم.
مات فيلسوف الـ"جيت كون دو" ضحية قبضته الفولاذية الموجهة للإمبريالية. ففي الـ20 يوليو 1973 توفي بظروف غامضة في هونج كونج عندما كان في سن الثانية والثلاثين. النهاية المأساوية نفسها تعرض لها ابنه البالغ من العمر 28 عامًا الذي قتل في أمريكا عام 1993 أثناء تصوير مشاهد من فيلم "الغراب" بطلقات نارية من مسدس من المفترض أنه فارغ.

الهندي الأحمر.. عدو الإمبريالية الأول 
"دييجو، إذا سمحت، لا تتحدث عن الولايات المتحدة". هذه الكلمات وجهها القنصل الأمريكي في العاصمة الأرجنتينية بيونس إيرس لمارادونا وهو يختم على جوازه "ممنوع من دخول الولايات المتحدة الأمريكية".
رفضت السلطات الأمريكية في فبراير العام الماضي طلب أسطورة كرة القدم مارادونا الحصول على تأشيرة لدخول الولايات المتحدة من أجل حضور محاكمة زوجته السابقة، كلاوديا بييافانيي، التي نظرتها إحدى محاكم ميامي خلال مارس الماضي، وذلك بعد أن أذاعت قناة "تليسيور" المحلية مقابلة معه أهان فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
في صيف 1994 ألغت الحكومة الأمريكية تأشيرة مارادونا ومنعته من المشاركة في نهائيات كأس العالم مع منتخب الأرجنتين بحجة تعاطيه المنشطات.
منذ اعتزاله الملاعب عام 1997 خاض مارادونا مواجهات عديدة مع الولايات المتحدة، أبرزها خروجه في مظاهرة حاشدة مع الزعيم الكوبي فيدال كاسترو في ديسمبر 1999 في هافانا تنديداً باختطاف المخابرات الأمريكية الطفل اليان جونزاليس (6 سنوات)، ووصف مارادونا حكومة الولايات المتحدة بأنها أكبر نظام خاطف للأطفال والحرية.
كما ارتبط أسطورة كرة القدم دييغو أرماندو مارادونا بالكثير من الأخبار الملفقة عنه عبر الوسائل الإعلامية الغربية، منها: كراهيته للعرب وزيارته إلى "إسرائيل"، وإعلانه لشركة "كوكا كولا".
في العام 1960 ولد دييغو في بيونس إيرس لعائلة تنحدر من السكان الأصليين، الهنود الحمر. وبعد أن نال شهرته اعتنق الشيوعية، وبدأت صداقته مع كاسترو عندما زار كوبا لأول مرة عام 1987 وأهدى الزعيم الكوبي العديد من القمصان التذكارية النادرة، مثل القميص الذي خاض به أول مباراة مع فريقه نيولز أولد بويز وقميص الأرجنتين رقم 10.
رافق كاسترو مارادونا في رحلة علاجه من الإدمان في كوبا عام 2000. ورداً للجميل وشم مارادونا على جسمه صورة كاسترو، كما وشم صورة المناضل أرنستو تشي غيفارا، تعبيراً عن دعمه لثورة كوبا. ولم تنحصر علاقة الأسطورة بالزعيم الكوبي فقط، بل امتدت إلى رموز التحرر في القارة اللاتينية، ومن أبرزهم الرئيسان الفنزويليان هوغو تشافيز ومادورو.
حمل مارادونا قيم الجندي المدافع عن مبادئه، ففي تصريح شهير له قال: "أنا جندي للدفاع عن النظام اليساري المحاصر ورئيس فنزويلا، نيكولاس مادورو"، وذلك حين عاشت فنزويلا في اغسطس الماضي أزمة محتدمة ما بين مادورو والمعارضة التي يقودها رئيس البرلمان الفنزويلي المنحل وبدعم من نظام واشنطن ووصلت إلى حد الاشتباكات المسلحة في بعض المقاطعات.
حتى اليوم مازال مارادونا ماضياً إلى جانب قضية فنزويلا في وجه المؤامرة والحرب عليها، مطلقاً عبارته القوية: "عندما نتلقى الأوامر من مادورو، فأنا مستعد لارتداء الزي العسكري والدفاع عن حرية فنزويلا، لمحاربة الإمبريالية. وأولئك الذين يريدون أن تنكس أعلامنا، لا يدركون أن النضال هو أكثر الأمور قداسة بالنسبة لنا".
ومضى قائلاً في تصريحات نشرها باللغات الإنجليزية والإسبانية والإيطالية: "تحيا الثورة! ويحيا الفنزويليون الحقيقيون، لا أولئك المتورطون في المؤامرة الأمريكية على بلدهم".
هذا الموقف الثابت للأسطورة الكروية انجلى في الفيلم الشهير "أمير كوستاريكا" عن حياة مارادونا. ففي مشهد مثير يستقبل شافيز مارادونا في تجمّع جماهيري ضمّ عشرات الألوف من الفنزويليين، وبعد خطاب رائع لشافيز ضد بوش والإمبريالية الأمريكية، أعطى فرصة الكلام لمارادونا الذي جاء إلى المنصة ولم يقل سوى جملة واحدة صرخ بها وأشعل الجمهور وهي: "يسقط بوش"، وهذا الذي يترجم مقدار كره شعوب أمريكا اللاتينية للولايات المتحدة.

ضربة قاضية على خاصرة العنصرية
مِن أشهر الوجوه العالمية على الإطلاق. لم يكن شخصاً عادياً، ولم يكن رياضياً فقط. يرى فيه الكثيرون أحد أعمدة الثقافة المضادة وبطل قضية السود الذين ناضلوا من أجل المساواة في الحقوق. إنه أسطورة الملاكمة محمد علي كلاي. ولد في 17 يناير 1942 باسم "كاسيوس مارسيلوس كلاي جونيور" لعائلة أميركية سوداء من الطبقة المتوسطة في مدينة لويزفيل بولاية كنتاكي، وتوفي في 3 يونيو 2016 بعد صراع طويل مع مرض شلل الرعاش (باركنسون).
عاش كلاي شبابه في فترة أوج العنصرية، فبعد عودته من دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في روما عام 1960، إلى مسقط رأسه، دخل كلاي مطعماً وعلى عنقه الميدالية الذهبية التي أحرزها في تلك الدورة لوزن خفيف الثقيل. قال له صاحب المطعم: "عفواً! نحن لا نقدم خدمات للسود"، ليلقي كلاي بميداليته الذهبية في نهر أوهايو رافضاً أن يرتديها في بلد يحرز له ميدالية ذهبية فيعامل فيه بهذا الشكل العنصرى.
عام 1964، اعتنق الإسلام، وكان وراء اعتناقه للإسلام داعية حقوق الإنسان مالكوم إكس، الذي كان صديقاً مقرباً وحميماً لمحمد علي. 
مع مطلع الستينيات اختار "محمد علي" الانتماء إلى جماعة "أمة الإسلام". لم يستمر انضمامها طويلاً؛ حيث كان يختلف مع الكثير من أفكارها العنصرية والمتطرفة، كما أدرك أن هذه الجماعة ترتبط بالمخابرات الأمريكية والسعودية، بالإضافة إلى قيامها بقتل مالكوم إكس، ليتجه بعد ذلك إلى الأعمال الخيرية والدعوية محاولاً تصحيح الصورة الخاطئة التي رسخت في أذهان الغرب عن الإسلام والمسلمين.
ناهض كلاي الحروب والعنصرية في آن، ورفض الانضمام للجيش الأمريكي في العام 1966، وذلك اعتراضاً منه على حرب فيتنام قائلاً: "لن أحاربهم، فهم لم يلقبوني بالزنجي".
وعلى خلفية مجاهرته بمعارضة العنصريّة البيضاء بكلمات لم تألفها الحكومة ولا المجتمع الأمريكي ورفضه المبدئي للمشاركة في حرب فيتنام، سجن "علي" وجُرِّد من الألقاب التي حصل عليها ومنع من ممارسة الملاكمة لثلاث سنوات ونصف، بعدما أغضب النظام الأمريكي. لم يهادن محمد علي، بل جال أنحاء الولايات ليخطب ويُعبِّر عن آرائه المعارضة للحروب والعنصرية الأميركية.
مازال النزال جارياً. ففي يونيو العام الماضي أعلن الرئيس الأمريكي ترامب رغبته في العفو عن أسطورة الملاكمة محمد علي الذي رفض الخدمة في الجيش الأمريكي إبان حرب فيتنام. لكن هناك مشكلة قانونية في إصدار هذا العفو وضحتها عائلة الملاكم الراحل قائلة بتهكم: "نقدر مشاعرك الفياضة. ولكن إصدار عفو أمر غير ضروري. المحكمة الأمريكية العليا ألغت إدانة علي بقرار صدر بالإجماع عام 1971. لا توجد إدانة تتطلب إصدار عفو".