الوضع الاستراتيجي على جبهتي الصراع الداخلية والخارجية
بداية على صعيد الجبهة الخارجية في المواجهة مع العدو المباشر في الجبهات، فقد تواصلت المواجهات حتى مطلع الشهر الجاري على مختلف الجبهات الرئيسية، وأهمها مأرب - نهم - الجوف، وميدي، والساحل الغربي وجبهة ما وراء الحدود، وفي جميعها تكبد العدو خسائر فادحة وتراجعاً كبيراً لقواته.
في جبهة الساحل الغربي بتعز تشكل خلال 9 أشهر ماضية مركز ثقل الحرب للعدو، رامياً بأغلب قواته البرية والبحرية والجوية لإحداث ثغرة من الساحل باتجاه قلب مدينة تعز، استناداً إلى الجيب العدواني الداخلي في منطقة العفيرة والضباب وجبل حبشي. لكن كل هذه الهجمات الشرسة المتوالية التي استخدم فيها العدو أكثر من 30 ألف مرتزق محلي وأجنبي بقيادة هيثم قاسم، تكسرت أمام صمود الأشاوس أبناء الجيش واللجان الشعبية، مع التركز الدفاعي لقواتنا الوطنية في مرتفعات الهاملي وموزع المطلة على معسكر خالد ونقاط التماس المحيطة، والذي تحقق بتكتيكات الالتفاف والقناصة والصواريخ الكثيفة، فيما غرقت المدرعات الثقيلة للعدو في شعاب الهاملي، واجدة نفسها تحت التطويق في مستنقعات يصعب النفاذ منها، خاصة في موسم الأمطار الذي لم يحالف العدو، بل حاربت بشراسة مع أبنائها اليمنيين.. وتشير التقديرات الأولية إلى خسائر في صفوف العدو بين 6 آلاف قتيل وجريح ومئات المعدات المدمرة، علاوة على خروج مجموعة ألوية عن الجاهزية أن تفككت أو فرت.
وكانت النتيجة أن هذا الانتكاسات المتوالية للعدو ألقت بظلالها على بقية الجبهات، وصار العدو عاجزاً عن معاودة شن الهجمات الكبيرة، منتقلاً إلى حالة الدفاع الاستراتيجي حول شرق المخا وغرب معسكر خالد ويختل، مما أفسح المجال أمام قوات الجيش واللجان هنا للتحول إلى حالة الهجوم الدائم على شكل الضربات الخاطفة في هجمات موجعة على خلفياته وخطوط إمداده الكبرى بين المخا وذوباب المندب، حيث تشكل هذه المناطق نقاطاً لخواصر ضعيفة ومواضع لاستنزافه، والمتوقع أن تتكثف ضربات الجيش واللجان لقطع هذه الخطوط بشكل دائم، وهو ما يضع العدو في مناطق المخا ويختل في حالة الحصار من جميع الجهات.

محاولات فاشلة.. وتكتيكات الالتفاف الوطني
حاول العدوان القيام بإنزالات تعزيزية لقواته في المخا وموزع، لكن صواريخ الجيش والقوات البحرية كانت متصدية بقوة ودمرت ما اقترب منها، فخلال الهجوم الأخير تم تدمير وإحراق عدد من البوارج حاملة القوات ومنعها من الاقتراب والإنزال، مما عطل على العدو فرص تطوير مشروعاته في الساحل، ليعاود التموضع مجدداً في نقاط البداية التي انطلق منها في الهجمات الأخيرة ما بعد المخا.
في الوقت ذاته، فقد وسعت قوات الجيش واللجان من مجال الصراع في مسرح المنطقة الرابعة، وتحديداً شرق المنطقة العسكرية الرابعة في الضالع وجبال مريس والعَود. وقد تمت هناك عمليات إعادة تنظيم لقيادة المناطق والمحاور وإحداث تغييرات استراتيجية ميدانية وتعبئة المنطقة في التصدي والهجوم وتشييد الهجمات الثورية الشعبية باستمرار باتجاه معسكرات المرتزقة في مريس والعَود وقعطبة ونقيل الخشبة، وقد تحققت هناك ضربات ناجحة جداً كشف فيها العدو عن ضعف كبير مكن قوات الجيش واللجان من الوصول إلى نقيل الخشبة المطل على مناطق الضالع والتي تشكل نحو 80% من تركيبة الهجوم في الساحل الغربي البشرية والإدارية واللوجستية، وهو ما أدى إلى ضعضعة تركيز هجمات العدو في الساحل الغربي، وسحب أجزاء منها لسد الثغرات الاستراتيجية التي فتحتها قوات الجيش واللجان بشكل مفاجئ، وعطلت في آن من تركيز العدو لقواته في جبهات الساحل الغربي. كما تم إطلاق أسرى مر عليهم أكثر من عامين، في عمليات خاصة نوعية ظافرة.
ومن تداعيات هذه المناورات الاستراتيجية اليمنية الناجحة، أن أدت إلى تفجر صراعات جديدة داخل معسكر الخصم بين المرتزقة الإماراتيين والسعوديين، حيث يلقي كل منهم باللوم على الآخر. لقد كان من آثار هذا الفشل على الساحل تحميل السعودية والإمارات لتبعات الفشل على محور الحراك الجنوبي الضالعي بقيادة الزبيدي وشلال وجواس وهيثم، الأمر الذي انعكس بدوره على وضعية وقيمة ما يسمى (المجلس الانتقالي الجنوبي) الذي كان بالأصل ثمناً مقدماً أُعطي للحراك مقابل التعهد بإسقاط شامل لساحل تعز والسيطرة على المدينة ومرتفعاتها الغربية.
أيضاً، فقد وجد المحتل نفسه في المناطق الجنوبية بعد هذا الفشل أمام مهددات تحول الجيش واللجان في كهبوب إلى الهجوم، حيث لا يفصل بينه وبين قواعد العدو في المندب وميون سوى 30 كيلومتراً فقط، وهو ما يمكن قطعه بساعات، كما لا يفصله عن قواعد العدوان الكبرى في الجنوب المتمركزة في المضاربة ورأس العارة ورأس عمران وشِعب الجن عدة كيلومترات، ما يجعل خطوط العدوان الاستراتيجية جنوب الجبهة الغربية تحت التهديد المباشر لصواريخ الوطن وصليات الكاتيوشا.

الوضع الراهن في ميدي
نتيجة لانكسار الهجوم على الساحل الغربي، اتجه العدوان سريعاً لفتح جبهة كبيرة باتجاه الشمال انطلاقاً من الموسم والطوال باتجاه ميدي حرض. لقد أراد العدو التعويض عن خسائره في الساحل بحشد أكبر قوة ممكنة عرفتها ميدي منذ بداية العدو، فنحو 20 ألف مرتزق محلي وأجانب، معظمهم سودانيون، مدججين بالسلاح والعتاد، ومسنودين بالغطاء الجوي الكثيف وغطاء المدفعية والصواريخ، هم قوة ما شن من هجمات أخيرة على ميدي حرض، ولا جدوى.
كان الهدف الالتفاف على قوات الجيش واللجان المتقدمة في جيزان وقطع إمداداتها القادمة من حجة والساحل، وخنق هجوم الوطن في عمقهم. وتمت تغطية هذا الهجوم البري الكبير بأساطيل بحرية وجوية كبيرة، فالخطة كانت أن تدور المعركة في المنطقة المفتوحة الساحلية، وهو ما يسهل عمل الطيران وصواريخ البحر الممهدة لتقدم المرتزقة على الأرض. كما أريد من هذا الهجوم التمدد باتجاه الحديدة في حالة نجاحه، وهو ما يعمل أيضاً -وفق رؤية العدو- على لجم الهجوم اليمني في الساحل الغربي وتخفيف الضربات المدمرة على قواتهم الارتزاقية هناك.
في اللحظات الأولى لهذا الهجوم الكثيف والمتشابك، تراجعت قوات الجيش واللجان للخلف قليلاً لإعادة تنظيم صفوفها وتكتيكاتها، بينما اندفع العدو مغروراً متوهماً بأن يحقق السيطرة على الأرض وبعض المواقع الهامة كقلعة ميدي التاريخية.
غير أنه ما إن استقر العدو في المواقع الجديدة حتى أصبح تحت رحمة النيران اليمنية والقوات الثورية الخاصة التي اندفعت لتحطيم القوات المتقدمة للعدو وسحقها، وكانت النتيجة كما عرضت الشاشات الحتف والمصير الذي لاقته قوات العدوان بخسائر تجاوزت في يوم واحد أكثر من 500 قتيل وجريح وفقاً لاعترافات العدو نفسه، والخسائر الحقيقية هي على الأقل ضعف هذا الرقم.
بالمقابل، فقد أطاحت قوات الجيش واللجان ضمن عمليات توسع الهجوم ما وراء الحدود، بأكثر من 13 موقعاً عسكرياً مهماً في جيزان وحدها، إضافة إلى عديد مواقع تهاوت أمام الضربات اليمنية في نجران وعسير.

واقع جبهة نهم - مأرب - الجوف
كان لانكسارات العدو في ميدي وتعز وما وراء الحدود، أن انعكست إيجاباً على أوضاع قواتنا في محاور الجوف ونهم ومأرب، مستغلة الفراغ الذي حدث في صفوف العدو نتيجة الهزائم في الجبهات الأخرى، والاستنزاف الذي يعيشونه، والانهيار المعنوي، فقد شنت قوات الجيش واللجان هجمات كاسرة في عدة مواقع حيوية خاصة العقبة الحمراء وعمبرة وخب والشعف والحزم، والتقدم إلى مشارف مركز محافظة الجوف التي دك فيها المجمع أثناء اجتماع قيادة المرتزقة فيه وتكبدهم خسائر كبيرة.
وفي محاور نهم وصرواح كانت النتيجة أن نقل العدو ثقله الحربي باتجاه نهم - العاصمة، مؤملاً تحقيق إنجازات استراتيجية تعوض انهياراته في الجبهات الأخرى، غير أن النتائج كانت مخيبة لآماله.
لقد حشد العدو الآلاف من المرتزقة باتجاه فرضة نهم ونقيل بن غيلان لتحقيق اختراق حاسم ضمن مخطط عدواني كبير كان مراداً له أن يتم في أواخر أغسطس، ليترافق مع تحركات داخلية غادرة من الداخل فشلت وانعكست نتيجتها بموجة إحباط وتداعيات هائلة في صفوف العدو، فتحضيرات استمرت لأشهر وغرف عمليات تعمل على قدم وساق للتحضير تساقطت كأوراق الخريف اليمني الذي اجتاح ربيع البطر الخليجي ومرتزقته على حساب الملايين من البشر.
ولم يكن يتوقع العدو أن تبادر قوى الثورة بالانقضاض الخاطف إلى وكر العدو وعرائن قواته وتجمعاته التي تمثلت بانقضاضات خاطفة صاروخية ومشاة صاروخية وخاصة شملت سحقه في عدد من مواقع التمركز والتحشد الرئيسية ودحرته منها، وأبرزها مواقع المصلوب والمدفون والقتب ومرتفعات يام المطلة على مفرق الجوف وأرحب وكذا جبل (المنارة) الاستراتيجي. وبحجم الخسائر التي لقيها العدوان فقد اندثرت مخططات العدو قبل بدئها.
في صرواح أيضاً كانت الحصيلة أن تم تطهير أكثر من 25 موقعاً حيوياً كانت قد سقطت بيد العدو من قبل، مثل المخدرة وتبة المطار والزغن ووادي ربيعة...، لتؤمن صرواح ومناطقها الفاصلة بين مأرب بشكل أكبر بكثير من السابق.

التوازنات الاستراتيجية العسكرية التحررية الراهنة
خلاصة المعارك كلها تؤدي للنتائج الاستراتيجية الآتية التي يصعب تغييرها وتصب بصالح تقدم قواتنا الوطنية في جميع الجبهات:
1- من مراقبة مسار المعارك خلال الفترة الماضية إلى الآن، نصل لاستنتاج مفاده أن العدو نتيجة لهزائمه في مئات المعارك والزحوف وخسائر تقدر بأكثر من 120 ألف قتيل وجريح وآلاف المدرعات والآليات...، قد استنزف مخزونه الاستراتيجي الاحتياطي من حيث القوة البشرية والتجنيد، وأصبح الآن عاجزاً عن حشد عدد كافٍ من الاحتياطات -كما كان في السابق- للهجوم في أي محور وجبهة.
2- معنى ذلك، أن ميزان القوى يختل تدريجياً لصالح قواتنا في جميع المعارك البرية، حيث صرنا أسياد المعارك البرية بلا منافس في مسارح المنطقة برمتها.
3- سقوط نظرية العدو الاستراتيجية في إدارة الحرب بفشل رهاناته على اعتقادات -أوهام- خاطئة بأنه يمكن هزم قوات الجيش واللجان المدافعة عبر خنقه اللوجستي من خلال التأزيم التمويني على المستوى الشعبي، وإضعاف الاحتضان الجماهيري للجبهات، وقطع المرتبات والاستيلاء على مصادر الدخل والبنك والحصار الشامل، أيضاً فشل الرهان على الاستنزاف التمويني العسكري واللوجستي للمخزون الحربي واحتياطاته، حيث صارت استراتيجية العدو -موضوعياً- تهدف إلى الاستنزاف لقوات الجيش واللجان كهدف بذاته لدفعها في النهاية للقبول بمساومة، وهو هنا قد تخلى عن هدف الدحر.
4- إن أقصى ما صار يضعه العدو من أهداف استراتيجية (على المستوى الحربي) هو إقناع قوات الجيش واللجان بالتسوية التقاسمية تكرس حدوداً واقعية لما وصل إليه كل طرف.

التحولات الاستراتيجية
على الصعيد الوطني اليمني
رغم كل التحديات فقد فاجأت قيادة الثورة والتحرر بما أظهرته من حزم وإمكانيات وقدرات وما حققته من إنجازات على كل المستويات خاصة التقنية والحربية، فقد حدث الآتي:
1- نسف نظرية الاستنزاف اللوجستي بالنسبة لقوات الجيش واللجان، حيث إن انتصاراتنا الدائمة قد مكنتنا من الاستيلاء الدائم على مخازن العدو، وأمنت شبكات طرق واختراقات جديدة حتى لمجالات وشبكات العدو نفسه على المستوى العملياتي والسوقي والتعبوي والمخابراتي، وصار مستحيلاً الرهان على الاستنزاف لأنه رهان ميت بكون الجيش واللجان في حالة تقدم وتوسع.
2- المزيد من التحام الشعب (بكافة فئاته وعموده الفقري البنية القبيلة) والجيش، بل حدث أن تكون جيش شعبي ثوري جديدة بعقيدة وطنية ثورية جديدة ومهارات قتالية حديثة ومبتكرة تضاهي أقوى المحاربين في العالم، وذلك باعتراف كبير العسكريين والخبراء في العالم، منهم رئيس أركان الجيش الروسي.
3- توسع قاعدة الثورة الشعبية وانعكاساتها على ميدان المعركة وتنظيم القوات، علاوةً على تجذرها بشكل عمق ووسع قاعدة مهامها ووعيها.

تطوير وإنتاج البنية الاستراتيجية الحربية للوطن وجيشه المحارب
في ضوء خطاب السيد القائد
لقد تمثلت هذه الاتجاهات الاستراتيجية بالآتي:
أولاً: مواصلة تطوير الصناعات العسكرية خاصة الصناعات الصاروخية والقوات الجوية والدفاع الجوي، وبناء بنية حربية جديدة، لتصير المنطقة المعادية في الخليج تحت رحمة الصواريخ اليمنية الاستراتيجية والسواحل والقواعد البحرية، كما أنتج هذا انقلاب المعادلة في الصراع البحري، إذ أصبحت قواتنا البحرية وصواريخها تغطي البحر الأحمر حتى شمال قواعد العدو السعودي والقواعد المعادية الموجودة في البحر والجزر وخليج عدن وسقطرى... وهو ما أكده خطاب السيد القائد مساء الخميس.
ثانياً: هذا المتغير كسر إمكانيات شن هجوم بحري مباغت على الموانئ اليمنية والسيطرة على السواحل، إذ نشرت بحرية الجيش واللجان قواعد ونقاط إطلاق للصواريخ البحرية في امتداد الساحل ومرتفعاته من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، مما يجعل أحلام الهجوم على الحديدة أو اختراق تعز أضغاث أحلام لن يجني من ورائها غير المزيد من القتل والمقابر.
ثالثاً: التحول في مسرح الحرب الجوي البري:
- تمكن قواتنا من تطوير أسلحة الهجوم الجوي ممثلة بصناعة أنواع من الطائرات بدون طيار، حيث أصبحت تخترق عمق الأجواء المعادية لساعات دون أن تُكشف.
- تطوير الطيران من مراقب استطلاعي إلى قاذف هجومي.
- تحقيق مفاجأة استراتيجية تمثلت بتطوير وصناعة أسلحة الدفاع الجوي كالصواريخ المضادة للطيران بمستوياتها المتقدمة، وتمضي حالياً نحو تكسيرها وإخراجها من حسابات الحرب، وهو ما يوجه أخطر ضربة إلى عمق استراتيجية العدو بإصابة نقطة تفوقه الحاسمة بالشلل، وهو ما يفتح الباب أمام تغير استراتيجي شامل في مسار الحرب برمتها، ويثمر الوعود بالنصر.
يمكن القول إن العدو لم يتبق له غير خيارات انتحارية من نهايته، بين الاعتماد على التشبيك بين المحاولات على الأرض وبين عنصر المؤامرة من الداخل أو ما يمكن أن نطلق عليه (الظهير الخلفي للعدوان).. وكلمة السيد القائد الأخيرة رسخت هذا التقدير الاستراتيجي للموقف، ورسمت اتجاهاته المستقبلية والراهن بوضوح شديد، مما يعطي القراءة والتحليل جوهره العملي والمباشر، ويكثف واقعيته بالارتباط الوثيق بين مراكز التحليل العلمي والقيادة الاستراتيجية.
@ كاتب ومحلل استراتيجي وسياسي - رئيس تحضيرية الحزب الاشتراكي اليمني (ضد العدوان).