هوليوود أولاً ثم المارينز:
تفاصيل الاحتلال الأمريكي لصنعاء عام 2000

لطالما رُددت عبارة (أمريكا عدوة الشعوب) كثيراً وبحماسة ملتهبة وبصدق من حناجر الرفض للاستعمار؛ لكن أيكفي ذلك وحده؟! أم توجب التحام هذه الشعارات بوعي عميق: لماذا هي (عدوة)؟ وكيف يكون العداء وأدواته التي تباشر تنفيذ دوافعه؟ كيف تستعبد أمريكا وباقي المنظومة الاستعمارية الشعوب وتركعها وتسرقها؟ كيف تُدخلها -بما في ذلك شعبها- في غيبوبة أبدية يستحيل معها رؤية مخالبها تذبح الأوطان وتسحق الجماجم وترصُّها جسوراً تعبر عليها بيادات المارينز إلى ضفاف مشاريعها المقيتة؟
هنا في هوليوود الآلة الفتاكة، حيث مصنع سحر العين والروح، وسرقة العقل والضمير البشري.. حيث الملايين مأسورين للشاشة، مجردين من الإنكار والمنطق..
الملائكة المارينز والوحوش اليمنية!
قبل 16 عاماً خلت، وتحديداً في 31 مارس 2000، أنتجت (هوليوود) فيلماً سمته (قواعد الاشتباك).
تدور أحداث الفيلم في اليمن بصنعاء القديمة، حيث السفارة الأمريكية كما يصور الفيلم، المكان الذي احتشدت حوله جموع شعبية يمنية غاضبة تردد (أمريكا الإرهاب.. أمريكا، أمريكا أخرجوا من البلاد)، وسريعاً - بحسب الفيلم - انقلب الوضع من مجرد هتاف وشعارات إلى رشق بالحجارة وزجاجات (الميلوتوف) الحارقة والرمي بالرصاص من مسلحين انتشروا في المنازل المحيطة، وعلى إثرها يأتي المارينز الأمريكي على متن الحوامات في عملية إنقاذ للسفير وزوجته وابنه الصغير وباقي الطاقم، لتتحول بعد ذلك إلى عملية إطلاق مباشر للرصاص على المتظاهرين أودت بحياة 83 مواطناً وعشرات الجرحى. انتهى المشهد.
بينما تباشر اليوم أمريكا عدواناً وحشياً على اليمن، يُلحُّ تساؤل: هل هناك من رابط بين (فيلم) الأمس وواقع اليوم؟ وبأن الفيلم هو تمهيد لهذا العدوان القائم الآن؟ أم لا يعدو الأمر كونه مصادفة محضة تستدعي السخرية والتعجب بخبايا التاريخ لا يجب فهمها كاستراتيجية مدروسة تنهجها (دوائر النفوذ العالمي)؟!
(قواعد الاشتباك)، فيلم أمريكي أنتجته هوليوود برعاية وإشراف وزارة الدفاع الأمريكية، في العام 2000م، وكتبه وزير البحرية السابق جيمس ويب، أواخر الثمانينيات. ويب كان عضواً في حكومة ريجان، وسيناتوراً في مجلس الشيوخ الأمريكي، وأحد صانعي القرار.
حقق الفيلم رواجاً سريعاً لدى الجمهور الأمريكي، وحصد بغضون 17 يوماً فقط من عرضه 43 مليون دولار في شباك التذاكر، على الرغم من تصنيفه بالرديء حد تقييم كتاب وناقدين ومؤسسات دولية (منهم الناقد والكاتب العالمي د. جاك شاهين)، واعتبر الفيلم هو الأكثر عنصرية في تاريخ هوليوود.
128 دقيقة عنصرية مقيتة هي مدة الفيلم، اختصرت وحققت واقعياً سنوات من العمل الشاق المخطط الموجه بدقة، ولم تلبث هذه الأفلام إلا عشية كي تجوب العالم تفعل ما تفعله، في (صالات العرض) وأمام الشاشات الخلابة التي تنسرق أمامها الأنظار ويعتقل الضمير ويتوقف العقل عن (الإنكار) و(الشك) إزاء جملة ما يشاهده، ويدخل في غيبوبة طويلة من التلقين العميق للعقل الباطن (اللاوعي أو الذهنية)، حيث الصورة والعاطفة هي التي تعمل لا المنطق.
الفيلم لم يكن عملية غزو لليمن، بل المسألة أعمق تسبق الغزو المباشر، تتمثل بصنع أسباب الحرب من خلال قصف إعلامي كثيف على الوعي في الداخل الأمريكي وفي الخارج، وقد ركز الفيلم هُنا مُتجنياً على اليمن بترسيخ مشهدين نقيضين للرأي العام الأمريكي، يكرسان كحقائق قائمة لا شك فيها، المشهد الأول هو تصوير اليمنيين كلهم بلا استثناء كمتوحشين إرهابيين قتلة ومصدر الإرهاب في العالم، والبؤرة الأشد خطراً فيه والأكثر ملاءمة لأية عملية إرهابية، وهو ما تروجه كذلك ألعاب (بلاي ستيشن)، جغرافيتها صنعاء القديمة، وبرامج كـ(خدمة التحقيقات الجنائية البحرية) (NCIS) مصدرها المخابرات الأمريكية، والمشهد الثاني هو تصوير الجيش الأمريكي وأمريكا نفسها بشعبها ووجودها كهدف دائم لأعداء (الحضارة)، الخطر الدائم على (الأمة الأمريكية)، وبالتالي، لأمريكا الحق بالدفاع عن وجود هذه (الأمة) بكل السبل، ومنها حصار العالم بالقواعد العسكرية الأمريكية، واستعمار البلدان وإبادة الشعوب، وشرعية هذا الحق تستمده من الخوف الذي تواصل زرعه في عقلية المواطن الأمريكي، ومن فزعه الدائم تجاه ما يحيق به من (شرور فتاكة) توجب محوها من أجل (سلام الأمة الأمريكية)، ومن الكراهية التي تحشوها في نفسياتهم!
في الفيلم يظهر طفل السفير ووالدته الملتصقان بجانب جدار السفارة، في مشهد هلع يعتري الأم الجاهدة تهدئة فزع طفلها الذي يعج باستفسارات متتالية حول الأمر، وهو يرى تدافع الموظفين ووالده السفير يجمع مقتنياته والأصوات المتعالية من خارج أسوار المكان، وأكثر ما أراد الفيلم إيصاله من ذاك المشهد هو براءة الطفولة المتجلية بأسئلة الطفل الناجمة عن تعابير والدته المذعورة: هل والدي هو السبب؟!
المشاهد هنا سيقول وقد أوشكت عيناه أن تدمعا: أوغاد...
لقد تمكن الفيلم من تحقيق المهمة الأولى: صناعة تعاطف مع المشهد، وسيردد: أوغاد.. وهو يعج بالحزن والكراهية. العاطفة الضرورية التي تقف حول حكمه الصادر بطريقة تلقائية عن العقل الباطن، متجاوزة تدقيق المنطق الذي يقول: هذا فيلم لا أكثر، وبالتالي لا عصبية أو تحيز لما سيخبرنا به الفيلم. أي لا ردود فعل عاطفية.
مشهد طفل السفير يخلفه مشهد تالٍ له مباشرة.. رجل وزوجته (المكسوة بالأسود) و(طفل بين يديها). يبدأ الوالد -من شرفة مطلة على مبنى السفارة البسيطة البناء المتواضعة كما يصور الفيلم وعلى عكس الواقع- بإطلاق النار من بندقية (الكلاشينكوف) على الجنود الأمريكان بالسفارة، فيما الأم تقف بجانبه دون أية صفة تعبيرية عدا عن كونها تشاهد بكل برود المعركة، وطفلها كذلك الذي لا يتأثر بالمشهد المرعب حوله، حيث تراشق النيران، ولا بصخب بندقية والده بجانبه.
سيقول المشاهد: وحوش، حتى الأطفال والنساء!
في هذا المشهد تركز الكاميرا على أشياء دقيقة: الأول الرداء الأسود الذي يغطي الأم، والثاني البندقية الكلاشينكوف، والثالث المشهد العام حيث الطفل الصامت والأم والوالد.
الأول، طابع رافق -بحسب ما يروجه إعلامهم- على مدى سنوات نساء المجتمعات العربية الوحشية المتخلفة، وخصوصاً لدى جماعات (القاعدة) التي لا تختلف صفاتها وأفعالها عن بقية العرب والمسلمين.
الثاني، (الكلاشينكوف)، سلاح (الشيوعية) والإرهابيين وأعداء أمريكا بالجملة. أما الثالث، النساء متوحشات لا مشاعر أمومة لديهن، والأطفال تنعدم فيهم مشاعر الطفولة والبراءة، كما يرتسم بالمقابل على وجه زوجة وطفل السفير. وأخيراً، الطفل بجانبه أبويه قتيلين غارقين بدمائهما، فيما الطفل لا يبكي! ولا يبدي اهتماماً، ويواصل صمته، فهو هنا ليس طفلاً في الحقيقة، بل آلة قتل وإرهاب وحشية مستقبلاً! هكذا يقول الفيلم ببساطة.
التركيز على هذه المشاهد فعلياً، هو عملية استدعاء في ذهنية المشاهد الأمريكي والمشاهد الآخر من ذات النسق، واستدعاؤها هنا بغرض حشدها مع جملة أفكار تؤكد ما تم حشوه سابقاً في هذه الذهنية، إذ لا يجب أن تعرض صوراً وأفكاراً جديدة فقط، بل مشاهد تؤكد وتعزز الذهنية السابقة، إذ إن من استراتيجية (الحرب الإعلامية) وفقاً لكتاب (المتلاعبون بالقول) الذي يحاكي الاستراتيجية الاستعمارية، هو إقناع المشاهد بفكرة ما باستمرار تكرارها دائماً بشكلها البسيط وبظهور متنوع لها، وكل مشهد يجب أن يؤكد بمحتواه الأفكار السابقة، وهكذا في سلسلة متتابعة يخضع لها المشاهد.

محاكاة عاطفية
هل تذكرون الأفلام الوثائقية التي كانت تعرض لنا عن جرائم البوسنة والهرسك في التسعينيات؟ تلك الأفلام بالرغم من كونها حقيقية، إلا أنها روجت لنا بكونها عذابات يتعرض لها المسلمون من قبل (غير المسلمين)، وليس ما تعرض له (مسلمون) في صربيا من قبل حكم فاشي كما هو واقع الحال، وعمداً أشيعت بهستيرية تلك المناظر البشعة التي لا زالت تستوطن ذاكرتي حتى اللحظة بكل تفاصيلها، والعمدية هُنا تهدف أن نعيش تفاصيلها كأننا نطحن في خضمها بالضرورة كي تأخذ حقنة الكراهية والحقد والغضب وجملة رد الفعل العاطفي فاعليتها كما هو مطلوب ضد كل (غير المسلمين) وبالمطلق.. هكذا يتعزز ما تروجه عنا دوائر المخابرات العالمية التابعة للمنظومة الاستعمارية لدى شعوبها سواءً عبر الإعلام أو عبر مجموعاتها المخابراتية وخناجرها المزروعة في ضلوعنا.
فلنجرب نوعاً من المحاكاة باستذكار ما كان يخالجنا من مشاعر ونحن نشاهد تلك المناظر الوحشية (أطفال ونساء مصلوبين، إعدامات جماعية...) وردود فعلنا تجاهها، والغرض أن نفهم كيف تعمل استراتيجية الاستعمار ضدنا، وهنا هي استراتيجية الفيلم كذلك.

حصان طروادة.. ممنوع دخول المنطق، العاطفة فقط
نعود، سيناريو الفيلم (قواعد الاشتباك) لا يسير بخط مستقيم مباشرة باتجاه الغرض أو بنغم واحد، ولابد من تعرجات والتفافات ونشاز؛ فتحقيق نتيجة باهرة يتطلب وجود تكنيك ما يسميه الأدباء وخاصة كتاب القصص (الحبكة)، وهذا التكنيك هُنا هو فعلياً (الخدعة) التي بواسطتها يتم إحكام السيطرة على ردة الفعل وجملة ما سيصل إليه المشاهد من قناعة سبق وزرعت جذورها في الغالب وبالطريقة نفسها: الإعلام، إنها مربط الفرس والنقلة الرابحة، أو قل (حصان طروادة). وبطريقة أكثر علمية: عرض قناعة أولاً بديهية، ثم تفكيكها، وهكذا حتى تتم السيطرة على العاطفة. فالفيلم واقعياً يقوم بالسؤال، ثم يقوم بالإجابة عليه.
بعد قدوم المارينز إلى السفارة، وفيما يظهر الفيلم أن إطلاق النار يتم من المنازل المجاورة، يشتبك المارينز مع الطرف الآخر، حتى اللحظة التي يقول فيها قائد العملية تشاندر (الممثل الأمريكي صامويل جاكسون): (اقتلوا هؤلاء الأوغاد)، بعد مدة من العراك الكلامي مع ضابط أصغر يرفض بادئ الأمر إعطاء الأوامر للجنود الخائفين بإطلاق النار على المتظاهرين العُزَّل أمام مبنى السفارة، ليستسلم في نهاية الأمر ويعطي الأوامر بفتح النار وارتكاب قتل جماعي بحق المدنيين! وينتهي المشهد بتحديق الضابطين والجند إلى أسفل منهم، الجثث المترامية المضرجة بالدماء، يرتسم الذهول وملامح عدم الرضا والتأنيب إزاء ما حدث.
هنا، ستبدأ علامات التعجب بالتزايد لدى المشاهد الذي يستنكر ما حدث حينذاك.

قتلوا مدنيين، عزل!
كسروا قواعد الاشتباك!
الضابط الأصغر والجنود رفضوا ثم كانوا مجبرين على التنفيذ، كانوا يقتلون، لكن ما ذنب العزل؟!
المشاهد عقب هذا المشهد ستنتابه الصدمة والحزن، فقد كسرت لديه الصورة النمطية لجنود بلاده وحكومته. وهو هنا مجرد من (الإنكار) وتدقيق المنطق والوعي أمام الشاشة، منقاد بعاطفته مع وجهة الريح حيثما اتجهت.
لذا كان لا بد من تدخل (العدالة الأمريكية) في الأمر، (العدالة) التي يؤمن بها كقيمة مجتمعية راسخة لا يشك بها، القيمة التي يجسدها (الحلم الأمريكي) المزعوم.
المشهد التالي يجب أن تنقلب فيه الحالة العاطفية حتماً، فالجنود والضابط (تشاندر) يقومون بعمليات بطولية ويجازفون بأرواحهم لإنقاذ طاقم السفارة -بمقدمتهم السفير والطفل الرنان صوته على عكس الطفل اليمني- في خضم معركة يمطر فيها (اليمنيون المتوحشون) الرصاص عليهم، ويجاهدون إرداء الطاقم المدني الأعزل.
يعود المارينز بعد نجاح المهمة إلى بلاده، ويعرف القادة بتفاصيل العملية. (العدالة الأمريكية) تتدخل ولم تتغاض عما حدث للمدنيين، فيتهم الضابط قائد العملية بارتكابه جريمة ضد المدنيين، ويودع الحجز، ثم يذهب بعدها للتحقيق في ملابسات العملية باليمن ضابط آخر (لورانس)، ويقوم بدوره الممثل الأمريكي تومي لي جونس.

تساؤل عرضي؟
تساؤل، لماذا لم يأخذ الفيلم اسماً آخر غير (قواعد الاشتباك)؟ كسقوط السفارة الأمريكية على شاكلة (سقوط البيت الأبيض)، أو مهمة إنقاذ عاجلة أو موعد مع الجحيم حتى.
(قواعد الاشتباك) تعني في الموسوعة العسكرية قواعد الحرب التي تلتزم بها الجيوش في الحروب، وتمنع قتل المدنيين العُزَّل... إلخ.
ببساطة، لأن المسألة تكمن هُنا.
تهمة قائد العملية (تشاندر) هي كسر هذه القواعد، وهي ما استدعت الذهاب لليمن للتحقيق به.
الضابط الآخر (لورانس) الذي كُلف بالذهاب للتحقيق في موقع الاشتباك، يبدو أول الأمر متعاطفاً، وبعد جولة تحقيق ميدانية يرى إحدى الضحايا وهي طفلة مبتورة الساق وقفت أمامه ثم غادرت، يلحق بها ويصل إلى مكان فيه بقية الضحايا الأحياء منتشرين على الأسرة، وهو يتنقل بينها ومرتسماً على وجهه الحزن يجد شريطاً مسجلاً بجانب أحد الضحايا أثار تعجبه.
يعود، وفي المحكمة مرة أخرى، في حضرة (العدالة الأمريكية) التي ينتظرها المشاهد، تبدأ المرافعات و(الحبكة) وتستمر حتى اللحظة الفصل، اللحظة التي يتم فيها تشغيل الشريط المسجل الذي كان بجانب أحد الضحايا، المفاجأة، والأخرى التي تقلب مزاج المشاهد وعاطفته وتغير منحى الفيلم.
الشريط يحوي تسجيلاً لأحد رجالات الدين كما يقول الفيلم، وهو يحرض على كل أمريكي وذبحه...، التسجيل بالعربية وتتم ترجمته في القاعة. بينما الحضور متفاجئ ومذهول مما يسمعه.
والأمر الآخر، هو عرض ما كان يخفى، إذ يظهر الفيلم لقطات أخرى، فالمدنيون لم يكونوا كذلك، بل مسلحون قاموا بإطلاق النار من وسط الحشود على الجنود المارينز، والطفلة التي كانت محوراً هاماً ترتكز عليه عاطفة المشاهد التي تدين الجريمة وما تعرضت له وباقي الضحايا، تظهر أنها كانت تحمل مسدساً توجهه على المارينز، وهي تعج بالكراهية التي ترتسم على وجهها كما يصور الفيلم.. هُنا فعلياً نُسفت جملة ما تبناه المشاهد سابقاً. لقد تمت تبرئة الضابط، وبالتالي الجيش الأمريكي والحكومة، وبالمقابل أُدين الشعب اليمني كمجرم ومتوحش وقاتل، وخطر فتاك.
منذ اللحظة الأولى للفيلم ومنذ خروجه من مخدعه، كان إدانة لا تحتمل الشك ضد الإنسان اليمني، وجلياً يظهر الفيلم أنه حذر كثيراً من ذكر (جماعة إرهابية) هاجمت السفارة أو بعض المتطرفين، إنما (يمنيون) بلا استثناء هم من هاجموا السفارة وحاولوا قتل من فيها لولا رحمة المارينز الأمريكي، وبالتالي فاليمنيون جلهم إرهابيون.
اختيار التسمية لم يكن بريئاً، فهي عملية نفسية تهدف صناعة رأي عام أمريكي لا يرفض ما تقوم به بلاده من جرائم حرب ضد الشعوب كما هو الآن في الغالب، فكسر القواعد ضرورة تحتمها وحشية العدو الذي تصنعه الأجهزة في ذهنية المواطن، والتركيز على مشهد الطفل وأبويه، يقول بأن الطفل يكبر حاقداً، وهذا هو الحال مع بقية الأطفال اليمنيين، في مجتمع لا يزال يعيش قبل 1400 سنة حين كان العرب يخرجون معهم ذويهم وممتلكاتهم في بعض الحروب، تأكيداً على الثبات وإرادة النصر في المعركة، وكحافز قوي على عدم التراجع الذي سينتهي بهلاك الأسرة وسبي النساء وفقدان كل مِلك، وهذه هي الرسالة الحرفية لذلك المشهد البغيض الذي يقول بأن اليمن بلد يعيش في زمن غابر مخيف، أو بلد خارج التاريخ وآخر العالم وخارجه كما تشيع أفلام ومسلسلات أخرى كـ(فرند).
وبعمومية أكثر إلحاحاً على إيصال الرسالة وتعزيزها، يذهب الفيلم للتطرق إلى مشهد يوضح فيه أن أحداث السفارة أتت في الوقت الذي تجتهد الإدارة الأمريكية في تحسين العلاقة مع العرب، وبتحديد أكثر الخليج العربي، إلا أن تلك المحاولات لم يكتب لها النجاح بسبب ما يقابلها من إجرام عربي، وبدقة أكثر يمني. 

أمريكا تستعد للحرب من بوابة هوليوود.. اليمن أنموذجاً
الاستراتيجية التي يعمل في إطارها الفيلم، هي استراتيجية تهيئة الجمهور لفعل مستقبلي: الحرب، التي تتطلب مسبقاً التحكم بردود فعل الجمهور تجاهها، والفيلم يصب في جهد انتزاع الموافقة السابقة لكل عمل عسكري أمريكي في مواجهة ما يهدد (الأمة الأمريكية) و(الحلم الأمريكي). وهذا ليس استنطاقاً لما بين السطور، بل ما تنضح به وتؤكده خطابات الإدارة الأمريكية وسياساتها المتلاحقة، ومنها إدارة بوش الابن، والتي تعد سياسة عمل (هوليوود) في تزاوج مع السياسة الأمريكية يصفه الصحفي أنيس منصور بـ(فن السفالة الأنيق).
يقول الكاتب والناقد الإعلامي العالمي الدكتور جاك شاهين: (إن كلاً من هوليوود وواشنطن يشتركان بنفس الجينات). فهوليوود هي المؤسسة الأضخم التي تضطلع بدور صناعة وتوجيه الرأي العام في شتى المجالات، لتتحول من سينما ترفيه وفن ووعي إلى آلة فتك جهنمية تتجول في ردهات العقول أنَّى شاءت.
البنتاجون الأمريكي ووكالة الأمن القومي وCIA ارتبطت بشبكة معقدة مع السينما الأمريكية التي تتزعمها هوليوود، في سبيل خدمة السياسة الأمريكية التي تتحول في الإعلام الأمريكي كالهواء الذي يتنفسه المشاهد، سيما وأن هذه الوكالات تضخ مليارات الدولارات لتوظيف الإعلام بمجمله لخدمة أغراض السياسة التي تنهجها لوبيهات السيطرة في الولايات المتحدة والعالم، وستذهل بأرقام تقول بأن في أمريكا على الأقل ٧٠٠ محطة تلفزيونية و١٥٠٠ صحيفة يومية وصناعة سينما تنتج كل عام 200 فيلم، تجسد في معظمها آلة حرب خفية فتاكة تتصدرها بامتياز هوليوود، هوليوود التي كانت دوماً بمقدمة الحروب الأمريكية.
وتؤكد (تريشيا جنكيز) صاحبة كتاب (دور سي آي أيه في هوليوود)، أن الوكالة تدخلت في صناعة الأفلام بهدف تمكين السياسة الأمريكية من اجتياح (العقول والقلوب) في الداخل والخارج، بدءاً من مواجهة الشيوعية، التي كانت ذروتها خلال الحرب الباردة.
وقد كان التحول الأبرز لدور المخابرات الأمريكية في العام 96م، مع نشوء معادلة القطب الواحد، حيث أنشأت مكتباً جديداً للتنسيق وإعداد الأفلام ورسالاتها داخل هوليوود، غرضه الأول هو صناعة مبررات الحروب القادمة التي ستشنها أمريكا على العالم انطلاقاً من المنطقة العربية.
(قواعد الاشتباك) هو واحد من بين مئات الأفلام التي رُصد منها 850 فيلماً بدءاً من عشرينيات القرن الماضي، تهاجم العرب والمسلمين، وترسمهم بصور مغايرة لواقع الحال وبأبشع الأوصاف، ويقول عنها الدكتور جاك إنها استبقت كلها أحداث 11 سبتمبر وإعلان الحرب على الإرهاب التي كانت حجة الحرب الأمريكية في المنطقة، وهذه الأفلام عبارة عن إعداد مسبق لما قامت به الولايات المتحدة من حروب في المنطقة.
في 31 مارس 2000م عُرض الفيلم محدثاً جلبة كبيرة، منها طلب اليمن اعتذارا عن الفيلم، وبمرور أشهر قليلة من نفس العام وقع أولاً تدمير البارجة الأمريكية (كول) في ميناء عدن في 12 أكتوبر، وفي اليوم التالي 13 أكتوبر وقع تفجير السفارة البريطانية بصنعاء، وهذا الأخير تعددت الروايات حوله بين هجمة إرهابية وبين خلل كهربائي تسبب بوقوع الانفجار بحسب الرواية الرسمية.
بعد سنوات لاحقة من أحداث المدمرة (كول) كشفت وثائق سربتها شخصيات عملت في المخابرات الأمريكية، أن الإدارة الأمريكية تقف خلف العملية، والغرض كان احتلال عدن بحسب ما صرح به الرئيس السابق صالح عام 2005م، وانتهت بجهود دبلوماسية. علماً أن مروحيات عسكرية أمريكية عقب تدمير المدمرة حاولت النزول في ميناء عدن، ومنعها الجيش اليمني بعد تهديده بإسقاطها.

استراتيجية الحروب الاستباقية
وهذه الأفلام وغيرها هي في واقع الحال موجهة للرأي العام الأمريكي أولاً، كعملية تهيئة طويلة احتدمت بعد انتهاء الحرب الباردة في التسعينيات، وسبقت الحملات العسكرية الأمريكية في المنطقة، كما حدث مثلاً في لبنان بالأداة الإسرائيلية، أو في أفغانستان أو العراق، وقد سبق وأخرجت أفلام حول الحروب في هذه البلدان كـ(أكاذيب حقيقية 1994م، وقرار تنفيذي 1996م،  وأرنست في الجيش 1997م، وضربة الحرية 1998م)، وهي ضمن سلسلة طويلة من الأفلام التي أُنجزت لنفس الغرض منذ عقود، كـ(فيلم الشيخ 1921م، والمومياء 1932م، والقاهرة 1942م، والسيدة الحديدية 1953م، وسفر الخروج 1960م، والحصان الأسود 1979م،  وبروتوكول 1984م، والقوة دلتا 1986م).
ومن ضمن هذه العملية الاستباقية -أو ما يسمى (استراتيجية الحروب الاستباقية المعتمدة على الإعلام) التي نهجتها جماعة المحافظين الجدد في واشنطن، مسلسل الكرتون (سيمسون) الذي تناول مشاهد فيها طائرات تصطدم ببرجي مركز التجارة العالمي، وذلك قبل 11 سبتمبر بأعوام قليلة، كما هو الحال مع اليمن قبيل أية هجمات (إرهابية) حدثت على السفارة الأمريكية سواءً في فيلم (قواعد الاشتباك) أو مسلسل (نيكيتا Nikita) الذي لحق الأول بعد حوالي 7 أشهر من عرضه، والمسلسل تُقتل فيه عائلة البطل الضابط (مايكل) (قام بالدور الممثل شين ويست)، إذ تزرع عبوة ناسفة داخل سيارته في موقف سيارات السفارة الأمريكية بصنعاء.
إجمالاً، فإن المصلحة الوحيدة التي تجتهد هذه الحرب بتحقيقها، هي صنع مبررات للحرب على اليمن هي قائمة اليوم، وذلك من خلال ربط اسم (اليمن) في ذهنية المواطن الأمريكي بالإرهاب والوحشية، وفي استطلاع للرأي في أمريكا أجرته مؤخراً الصحفية سما الهمداني، تمحور حول سؤال: (ما الذي تعرفونه عن اليمن؟)، كانت أغلب الإجابات لا تخرج عن كونها بؤرة إرهابية (موقع تفجير المدمرة كول - مسقط رأس أسامة بن لادن - دولة مجاورة للسعودية يقترن ذكرها بتنظيم القاعدة...).
وفي نفس السياق، تكرس هذه الأفلام كذلك لـ(مظلومية إسرائيلية) أمام العرب، ولم يعد بالإمكان تناول الشخصية اليهودية في الأفلام الأمريكية خارج هذه الصورة كما كان قبل الثمانينيات، إلا ما ندر، فالآن تصورهم الأفلام كأبطال بمواجهة (الشر العربي) لا العكس، ويقول سام كين في رسالة له عام 1986م وجهها الى جمعية رسامي الكاريكاتور الأميركيين: (يمكنك أن تضرب وتصيب العرب إلى ما شاء الله وبحرية تامة وبلا مقابل، إنهم هنا كأعداء وكأشرار مجاناً، في حين أنه لم يعد بإمكانك أن تفعل نفس الشيء مع يهودي أو أميركي أسود).
وحشية منظومة السيطرة الدولية وتسليع الآلام
يلخص الأستاذ المساعد في فلسفة العلوم ومناهج البحث والمنطق- قسم الفلسفة الدكتور سامي عطا، حول حرب هوليوود ضدنا، بأن الرأسمالية في طور توحشها العولمي باتت توظف وسائل عديدة لتبرير أفعالها الوحشية، والسينما إحداها، ونحن كما عبر المفكر الفرنسي في مجتمع الفرجة السعيد، حيث باتت كل الأشياء في هذا العالم عرضة للتسليع، بما فيها الآلام البشرية ومعاناتها، ويتم تسويقها على أنها نتاج صراع الخير والشر الرأسمالي أو الفرد في المجتمع الرأسمالي الخير صاحب القيم الإنسانية العليا وحافظها من الحرية والديمقراطية...، والشر متمثل بإنسان المجتمعات الأخرى ما دون الرأسمالية أو (المتخلفة).
أخيراً، إن كان هناك من وحشية لا مثيل لها، فهي الوحشية التي تتكدس في الوسط الأمريكي الذي يشوه كل ما دونه ويصورهم كأعداء، وليست الأفلام السينمائية فقط ضد العرب والمسلمين، فقد سبق وأُطلقت عواصف تحريض وتشويه ضد الروس والفيتناميين والصينيين والإيرانيين ومعظم آسيا، وهو الأمر ذاته مع أفريقيا ودول أمريكيا اللاتينية الخارجة عن القبضة الأمريكية.
ومثالاً بارزاً على ذلك هي شهادة لـ(فريدكن) مدير إنتاج فيلم (قواعد الاشتباك)، تباهى فيها أن الآلاف من الجمهور الأمريكي وهو يشاهد الفيلم في السينما (دور العرض) وقفوا وصفقوا للمشاهد الأخيرة في الفيلم التي يعرض فيها عملية القتل الجماعي لليمنيين، بحسب ما نقلته على لسانه صحيفة (الإندبندنت) البريطانية.
جاك شاهين يضع مقاربة أخرى حول تأثير هوليوود على المواطن الأمريكي، فخلال ساعات من إعلان حادثة تفجير المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما سيتي، جاءت ردود الفعل الأمريكية مباشرة ضد العرب في أمريكا، فقد حدث أكثر من 300 عملية اعتداء ضدهم بدافع الكراهية العنصرية التي صنعتها الصور النمطية عنهم.
هكذا بدأت الحرب على اليمن.