(الحلقة الأولى)
يعتبر هذا المقال شهادة نتعرف من خلالها على بعض ملامح الحركة الصهيونية في بواكير نشاطها، ونحيط بجملة من المنطلقات التي استمدها الصهاينة من غيبيات وخرافات الشريعة اليهودية، ليشيدوا عليها أحكاماً ودعاوى النظرية الصهيونية، ويبرروا (حق اليهود التاريخي) في أرض فلسطين.
والمقال شهادة تستحق الدرس والتأمل، لا لأنه يقدم تحليلاً عميقاً لنفسية التاجر والمرابي الجشعة في (ولوغ عرق ودماء الآخرين) فحسب، بل لأن مؤلفه هو الكاتب الإنساني فيودور دوستويفسكي الذي خبر دقائق النفس البشرية، واستشف ما تمور به من تناقضات وعواطف متصارعة، واعتمد في كتاباته على فهم العذابات والآلام الإنسانية، ومأساة الفرد المهان والمسحوق.
ومما له دلالته أن هذا المقال ورد ضمن (يوميات) الكاتب التي سجلها عام 1877م، أي قبل أربع سنوات من بدء المذابح والاعتداءات على اليهود في روسيا صيف عام 1881م - العام الذي توفي دوستويفسكي في مستهله- والتي كانت من تدابير السلطة القيصرية إثر حادث اغتيال القيصر ألكسندر الثاني (شاركت فيه فتاة يهودية). كما كان لرواد الحركة الصهيونية ضلع في هذه الاعتداءات، كي يتسنى لهم استغلالها بعد حين لترويج الهجرة إلى فلسطين، كونها حركات سياسية لها أهدافها ووسائلها، واستخدمت الدين بمهارة فائقة، ودأب متصل، بهدف التخفي برداء ديني، وصبغ دعوتها بصبغة دينية، تضمن توحيد صفوف اليهود وحملهم على الهجرة إلى فلسطين، وذلك على أن يكون هدفها إحياء مملكة إسرائيل القديمة أو التمهيد لظهورها في المستقبل.. وهذا ما يؤكد عليه (هرتزل) من بداية دعوته لإقامة دولة يهودية، فهو لم يتجاهل عنصر الدين وأهمية دعم الحاخامات ورجال الدين لدعوته، حيث اعتبر الدين أداة من أدوات توحيد صفوف اليهود خلف فكرته.. ورأى في الحاخامات ورجال الدين ضباط اتصال بين حركته وجموع اليهود في كل مكان. والدلالة المهمة الأخرى أنه جاء قبل 20 عاماً من نشوء المنظمة الصهيونية العالمية بصفتها الرسمية، في مؤتمر بازل عام 1897م.
وأخيراً، فإن أهمية هذا المقال تتأتى أيضاً مما شهدته الأزمنة الأخيرة من بوادر تشي بمحاولات شطب هذا المقال من الإصدارات الجديدة لآثار الكاتب الكاملة، لاعتبارات سوف يستشعرها القارئ من خلال مطالعة هذا المقال.
المسألة اليهودية
لا تظنوا يا سادتي أنني أزمع التورط حقا في إثارة (المسألة اليهودية). فإثارة مسألة على مثل هذه الجسامة كوضع الفرد اليهودي في روسيا، وأوضاع روسيا التي تضم بين ظهرانيها ثلاثة ملايين يهودي، لا طاقة لي بها ولا حول.. تلك مهمة تفوق قواي. لكن لي فيها بعض الأحكام، ويبدو أن أحكامي هذه أخذت تحظى فجأة باهتمام لفيف من اليهود. فمنذ فترة وأنا أتلقى منهم رسائل ينحون فيها علي بلائمة شديدة المرارة لتهجمي عليهم، ولكوني (أبغض الجييد) (1)، أبغضه لا لعيوبه لأنه يمارس الاستغلال، بل كطائفة - أي من قبيل أن يهوذا قد باع المسيح- هذه الرسائل يبعثها يهود (متعلمون)، وقد لحظت هذا، لكني أحجم عن تعميم ملاحظتي هذه على الجميع. يبدو أنهم يبتغون الإيحاء للآخرين بأنهم - كمتعلمين- لا يشاطرون ملتهم معتقداتها الخرافية، ولا يؤدون شعائرها الدينية، شأن سائر بسطاء اليهود. معتبرين ذلك دون مستواهم الثقافي، حتى ليزعمون بأنهم لا يؤمنون بالله. هنا ـ بالمناسبة ـ أود الإشارة، عرضاً، إلى أن من فداحة الإثم أن ينسى كل هؤلاء السادة من وجهاء اليهود ربهم يهوذا، وأن ينبذوه عن 40 قرناً من الزمن، هذا الإثم ينبع لا من مجرد الشعور القومي المحض، إنما من دوافع أكثر شأناً وخطورة. ومن الغرابة أن يكون ثمة يهود بلا رب، بل يتعذر تصور يهودي كهذا. ولكن دعونا نركن هذا الموضوع جانبا، فهو موضوع كثير الشعاب، ولعل من أشد ما أثار دهشتي هو كيف ومن أين دلفت أنا حظيرة الكارهين لليهود؟ أعود وأتساءل: متى وبأي صيغة تجلى مقتي لليهود كقوم؟ ولأنني ما أضمرت يوماً مثل هذا المقت - ويعرف ذلك كل من كان له صلة أو معرفة بي من اليهود-  أسارع، بادئ ذي بدء، لأرد عن نفسي هذه التهمة مرة وإلى الأبد، كي لا نعود إليها ثانية. يكمن سبب اتهامي بالبغض في كوني أنعت اليهودي أحياناً بـ(الجييد). غير أني ما كنت أظن أولاً أنها صفة مزعجة إلى هذا الحد، ثانياً  إنني اعتدت استخدام كلمة (جييد)- إن لم تخني الذاكرة - للتعبير عن فكرة بعينها: (الجييد) الجييدية، المملكة الجييدية، الخ.. والمقصود منها هو مفهوم محدد، واتجاه، ومعلم من معالم القيصرية. بالإمكان هنا مناقشة هذه الفكرة ورفضها، ولكن لا يجوز الانزعاج من الكلمة. أورد مقتطفاً من رسالة بعث بها يهودي واسع الثقافة، وهي رسالة مطولة ورائعة في كثير من مواضعها، أعرتها جل اهتمامي، إنها أوضح اتهام لي بكره اليهود كقوم! سوف أقدم لكم مقاطع من الرسالة:
(إنني أنوي الحديث عن موضوع واحد فقط، موضوع لا أستطيع تفسيره بحال من الأحوال..! إنه كراهيتكم العجيبة (الجييد التي تظهر في كل عدد جديد من يومياتكم)، ليتني أعرف لماذا تتصدى للجييد ولا تنبري للفرد ممارس الاستغلال بوجه عام؟ إنني- شأنك - لا أطيق المعتقدات البالية لأمتي - فقد عانيت منها ما عانيت - لكني لا أتفق وإياك إطلاقاً في أن الاستغلال السافل يجري في دماء هذه الأمة. هل يعقل أنك تعجز عن الارتقاء إلى القانون الأساس لكل حياة اجتماعية، وهو أن كل رعايا الدولة الواحدة، دون استثناء، إذا كانوا يتحملون كل الواجبات والفرائض اللازمة لوجود الدولة، يجب أن يتمتعوا بكل الحقوق والفوائد النـاجمة عن وجودها، وأن كل الخارجين على القانون، وكل العناصر الضارة في المجتمع يجب أن تنال نفس القدر من العقوبات المتكافئة بالنسبة للجميع؟ بم يمتاز استغلال الأجانب (واليهود من رعايا روسيا على أية حال) على الاستغلال الجييدي؟ استغلال الألمان والإنجليز واليونان، هؤلاء المستغلون المنتشرون انتشاراً واسعاً في روسيا كلها؟ بماذا هم أفضل من المستغلين الشايلوكيين؟ وبماذا الإقطاعي الروسي مصاص دماء الشعب والمنتشر في روسيا كلها، أفضل من المستغل الشايلوكي الذي يعمل ضمن مناطق محدودة؟»(2).
يقول المرسل المحترم:
(كلا للأسف أنت لا تعرف الشعب اليهودي، ولا حياته، ولا روحيته، كما لا تعرف -أخيراً- قرون تاريخه الأربعين. أقول: للأسف لأنك كإنسان صادق حقاً ونزيه كل النزاهة، على أنك تلحق - دون وعي أو قصد- ضرراً بجماهير غفيرة من شعب مبتلى بالتعاسة، أما (الشايلوكيون) الأقوياء الذين يستقبلون دهاقنة العالم في صالوناتهم، فلا يخشون الصحافة - بالطبع- ولا حتى السخط العاجز بضحايا الاستغلال، ولكن كفانا حديثاً، فلن أفلح في إقناعك برأيي، لكني أتوق جداً أن تقوم أنت بإقناعي).
هذا هو المقتطف قبل الإجابة:
ولأني أشجب هذا الاتهام المضني، ألفت الأنظار إلى ضراوة الهجوم ومدى الحساسية، الحقيقة لم يكن لدي طوال عام نشر (يومياتي) مقال بهذا الحجم ضد (الجييد) من شأنه أن يثير هجوماً عنيفاً كهذا. ثانياً لا يجوز إغفال أن المرسل المحترم حين تطرق خلال هذه الأسطر إلى أبناء قومه وإلى الشعب الروسي، لم يحتمل ولم يتمالك نفسه من معاملة الشعب الروسي المسكين باستعلاء متطرف بعض الشيء. صحيح أن في روسيا (لم يبق شيء غير مبصوق عليه) على حد تعبير شيدرين(3)، لذا فاليهودي (أكثر أهلاً لأن يعذر)، إلا أن هذه الضراوة على أية حال تدل دلالة واضحة على نظرة اليهود إلى الروس. هذه الأسطر كتبها شخص متعلم وموهوب فعلاً، رغم أنني لا أعتقد أنه براء من الترسبات الموروثة، فأي مشاعر تجاه الفرد الروسي يمكن انتظارها إذن من اليهود غير المتعلمين وهم بهذه الكثرة؟ قولي هذا ليس اتهاماً، فتلك مسألة طبيعية، أود القول فقط إن المسؤول عن دوافع حالة العزلة والفراق مع اليهود قد لا يكون هو الشعب الروسي وحده، بل إن هذه الدوافع تراكمت بالقطع من الطرفين، كما لا يعلم أحد أي طرف أكثر ذنباً. إثر هذا القول أود الإدلاء ببعض التصورات لأثبت براءتي، وطرح وجهة نظري في هذه القضية إجمالاً، وأكرر أني وإن كانت هذه المسألة فوق طاقتي، لقادر رغم ذلك على الرد.


هامش
1- (الجييد) كلمة قديمة في اللغة الروسية، تعني العبري اليهودي، وفيها ظل من الاحتقار واللمز.
2- يقصد حدود الإقامة، وهي مناطق في روسيا القيصرية يقيم فيها اليهود بمعزل عن عامة الروس، التزاماً بتعاليمهم الدينية اليهودية. وفي اليمن كان اليهود كسائر يهود العالم يسكنون مناطق خاصة بهم (قاع اليهود في صنعاء) و(حافة اليهود في عدن). تلك تعاليم الديانة اليهودية التي تدعو إلى عدم الاختلاط والتأقلم مع الوسط الاجتماعي، وهي من مقومات وقوانين الشريعة اليهودية، ويدعي اليهود بأنها صالحة للدين والدنيا، وأنها نظام حياة غير قابل لأي تغيير أو تبديل، وتنص على استحالة التعايش مع غير اليهود، وليس كما هو شائع بأنه فرض على اليهود الانعزال وتحديد مناطق خاصة بهم. وتتضمن الرسالة اتهام دوستويفسكي بمساندة الإقطاعيين الروس وكره اليهود ووصفهم بالاستغلال والترفع، بينما هناك من الإقطاعيين الروس من لا يختلفون عنهم في شيء من ناحية الاستغلال وامتصاص دماء الروس. دوستويفسكي لا يمتدح الإقطاعيين الروس ولا يقدمهم كقدوة جديرة بأن تقتدى، بل بالعكس يتفق كل الاتفاق على أن هؤلاء وأولئك أناس رديئون. ولا أعتقد بأن هناك من يجهل دوستويفسكي وقامته الإنسانية الشامخة، وتحيزه للإنسان بغض النظر عن ديانته وطائفته وتوجهاته، وتلك القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية التي آمن بها وعكسها في إنتاجه الأدبي وحياته العملية، وتحمل الكثير من التعنت والظلم بسببها، وقُدم للمحاكمة وحُكم عليه بالإعدام لمواقفه ضد الحكم القيصري، وفي آخر لحظة أفرج عنه.
3- شيدرين: كاتب روسي (1826- 1889) تمكن من الإحاطة بحياة الجماهير الروسية وشقائها، وصورها بمرارة، وبرع في التعبير المجازي.