ملاحم الكلاشينكوف والمناجل
- تم النشر بواسطة صحيفة لا / طلال سفيان

مقاومات شعبية مرَّغت أنوف أعتى جيوش الإمبريالية في الوحل من بورسعيد إلى سايجون إلى صنعاء إلى جبشيت
ملاحم الكلاشينكوف والمناجل
المقاومة المسلحة هي ظاهرة قديمة ومتجذرة في التاريخ الإنساني، وقد تعاظمت أهميتها في القرن العشرين وباتت تشكل كابوساً مزعجاً للقوى المعتدية لعدة أسباب منها سرعة التحرك والتخفي ودقة تتبع الأهداف العسكرية و الفعالية وتحقيق النتائج.. فمقاومة المحتل حق مشروع يقوم على مبدأ حق الدفاع عن النفس و المحافظة على سيادة الدولة عندما تنتهك، وهو المبدأ الاول في شرعية المقاومة وذلك من منطلق أن الشعوب مدعوة دائما للدفاع عن وجودها الوطني ومقوماتها من خلال مقاومتها للعدوان.. فالمقاومة نهج حياة يومي يؤذي الاحتلال ويكون هدفا قابلا للتطبيق من كافة فئات الشعب.
ملحمة السبعين يوماً
عندما يمتلك أي شعب لإرادته الحرة يستطيع التصدي لأقوى قوة في العصر مهما تكن قوتها.. وتجربة حصار صنعاء في السبعين يوما وتجارب الأمم والشعوب كلها تزكي هذه العظمة البالغة، وهو ما يحتاجه شعبنا وأمتنا في الوقت الراهن.
فحصار صنعاء يعد من المحطات المهمة في كفاح الشعب اليمني.. وتختزن الذاكرة الوطنية خبرة هائلة وذخيرة إنسانية حية لهذه المعركة العظيمة.
بدأ الحديث عن فكرة المقاومة الشعبية قبل انسحاب القوات المصرية من اليمن على اثر نكسة حزيران عام 1967م وذلك من خلال اللقاءات التي كانت تعقدها بعض تنظيمات وتيارات القوى الوطنية التي تدافع عن الثورة والنظام الجمهوري
عندما اشتد الحصار على العاصمة صنعاء شكل المجلس الجمهوري والحكومة في 5 نوفمبر 1967.
وبالرغم من اختلاف نظرة فرقاء 5 نوفمبر إلى الحل السياسي قبل الحصار إلا ان تسارع الأحداث ومحاصرة العاصمة صنعاء من الملكيين قد فرض موقفاً موحداً لكل القوى السياسية والعسكرية ووضعت استراتيجية موحدة للقيادة السياسية والعسكرية والمقاومة الشعبية, ركزت هذه الاستراتيجية على وضع تصورات تقود قوى الثورة نحو الصمود والدفاع عن الثورة ويضمن العمل على تحقيق وحدة القوى الوطنية والتقدمية والجمهورية، والاعتماد على الذات وتحقيق ذاتية الثورة اليمنية ومشاركة الجماهير في الدفاع عن الثورة، وتشكيل المقاومة الشعبية في صنعاء وفي مختلف المدن اليمنية، وتشكيل قوة ضاربة من القوات المسلحة والقوات الشعبية لفك الحصار عن العاصمة.
وبالرغم من الصعوبات التي واجهت المدافعين عن الثورة فقد حققت هذه الاستراتيجية الصمود والانتصار ودحر القوى المعادية للثورة.
كان دور المقاومة الشعبية التي تشكلت في العاصمة وبعض المناطق والمدن الأخرى من جموع المزارعين والعمال والطلاب والتجار والموظفين والمثقفين والمشايخ الوطنيين مرحلة ايجابية ومضيئة في بناء العلاقة بين المدنيين والعسكريين من ناحية توحيد القوى المؤمنة بالثورة والنظام الجمهوري وتكوين علاقة ايجابية بين السلطة والمواطنين من أجل الدفاع عن الثورة، وترسيخ النظام الجمهوري.
كان لأفراد المقاومة الشعبية وقياداتها في العاصمة دورهم في عملية التوعية وحراسة المؤسسات ووضع السواتر الترابية حول المرافق الحيوية مثل محطة الكهرباء والإذاعة وغيرها من المؤسسات وتوزيع المواد التموينية والمساهمة في منع أية ظواهر للتخريب في العاصمة وتقديم الخدمات الضرورية الأخرى للمواطنين، اضافة إلى دعم القوات المسلحة في بعض المعارك حول العاصمة.. تم دعم المقاومة الشعبية في العاصمة من قبل الثورة الوليدة في جنوب الوطن آنذاك (الدعم المالي والمعنوي) والتدريب، اضافة إلى التدريب الذي تلقاه أفراد المقاومة من عدد من الضباط العسكريين في مدينة صنعاء, وتم تشكيل القيادة العامة للمقاومة الشعبية وفروعها من مختلف الاتجاهات السياسية والاجتماعية وكان للمرأة أيضاً مشاركتها في تكوين المقاومة.

في 29 نوفمبر 1967 بدأ الحصار بقطع طريق الحديدة - صنعاء في الحيمة الداخلية، وفيما بعد طريق صنعاء - تعز في الفترة نفسها.
مثل الحصار ذروة أحداث وتحولات شملت اليمن كلها؛ فقد شهد الثلاثون من نوفمبر رحيل آخر جندي بريطاني من عدن، أُعلن الاستقلال في جنوب الوطن، وبدأ الحصار في صنعاء في آن واحد.
لم يكن الجيش اليمني قد استكمل بناءه؛ فالوحدات حديثة تضم بضعة آلاف قادها ملازمون أوائل بعد أن رُقي بعضهم إلى رتبة نقيب.
يقدم الجاوي في كتابه (حصار صنعاء) وصفا دقيقا لوضع (صنعاء) في ذلك الوقت من عام 1967.. كان عدد السكان في العاصمة أكثر من مئة ألف نفس تتمتع بالعيش الطيب مع الكهرباء ووسائل الترف، مجموعة بسيطة لا تشكل أكثر من مئة أسرة ممن يستعملون الكهرباء والماء النقي وغاز الطهي، ويمتلكون مخزونا جيدا من الغذاء لأوقات الشدة, لقد انقسمت المدينة أمام أعيننا عمليا إلى فريقين أساسيين بالنسبة للمحروقات على الأقل.. الثلث يستعمل الجازولين ( الكيروسين) للطبخ والإضاءة والباقي يعتمد أساسا على الحطب.
لقد بدأ الحصار في موسم البرد وبلفتة بسيطة وجدنا أن الجاز والحطب من خارج صنعاء المحاصرة.. كان أمل المقاومة والجيش والأمن في التجار عظيما ولكن حكمة السيد المسيح عليه السلام أصبحت ذات مدلول واقعي: (لن يرتفع التاجر إلى ملكوت السماء حتى ولو دخل الجمل في سم الخياط).
عبر تاريخ طويل ظلت صنعاء نهبا للمغيرين والناهبين وبالأخص في العصور الوسطى من القبائل كلها وبالأخص المحيطة.. وتختزن ذاكرة السكان كما هائلا من الذكريات الأليمة لاجتياح القبائل المتفيدين.. ولم تصمد صنعاء في وجه القبائل المغيرة إلا مرتين، مرة في العام 1862 حين اعتصم السكان بأسوار المدينة ودافعوا عنها ضد القبائل المغيرة.. أما المرة الثانية والأهم ففي حصار السبعين يوماً أصبحت صنعاء عاصمة لكل أبناء اليمن، وتوحدت إرادة كل أبنائها للدفاع عنها.. إذا ما أخذنا البعد الاجتماعي بعين الاعتبار فإن القوى التقليدية وتحديدا البقية من حزب الأحرار وكبار المشايخ والضباط والوجاهات السياسية الكبيرة كانت منقسمة، وبعضها التزم الحياد متوقعا سقوط صنعاء، وغادر أغلبهم المدينة، ولم يكن يتوقع أن يصمد طلاب المدارس والعمال والفلاحون وأصحاب المهن والحرف وصغار ضباط الجيش والأمن وطلائع الحركتين القومية واليسارية من التصدي لجحافل القبائل المدعومة من السعودية وإيران وأمريكا وأوروبا الغربية.
شمل الحصار صنعاء وحجة، وصمد أبناء حجة كما صمد سكان صنعاء أمام الحصار الذي استمر سبعين يوما، كل أبناء اليمن دافعوا عن المدينة صنعاء، ودفعت كل مدينة وقرية وفئة وشريحة اجتماعية ضريبتها في كسر الحصار.
كانت السعودية وأوروبا وأمريكا وإيران إلى جانب الملكيين، وكان في الجبهة الملكية خبراء ومرتزقة وفرنسيين وبلجيكيين وأمريكان من أهمهم: بوب دينار، وديفيد سمايلي صاحب كتاب (مهمة في جنوب الجزيرة) وجيم جونسون زعيم المرتزقة الاوروبيين والجنرال كوندي.
سحبت الدول كلها بعثاتها الدبلوماسية، وأبقت الصين الشعبية على بعثتها، وزودت الجيش والأمن والمقاومة بالمواد البترولية، بينما أرسلت الجزائر مبلغ خمسة ملايين دولار لدعم المقاومة، وتوسط الزعيم العربي جمال عبدالناصر لدى الروس باستمرار دعم السلاح ولدى سوريا بإرسال طيارين، ولعب الطيارون السوريون دورا في ضرب المواقع الملكية وصد الهجمات وتزويد صنعاء بالمواد الغذائية والمقاتلين بالعتاد العسكري, زار وفد من اليمن الزعيم العربي جمال عبدالناصر إبان الحصار فقال لهم: إن صمودكم في صنعاء وانتصاركم في عدن انتصار للأمة العربية كلها.
الدرس الرائع الذي نستخلصه من انتصار صنعاء في السبعين يوما هو أهمية توحد الجبهة الداخلية، وتغليب المصالح الوطنية على المصالح الفئوية الأنانية والحزبية الضيقة، والرهان الصادق على الإرادة العامة للشعب.. كما أن مشاركة القوى الشابة والمستقلة والفئات الاجتماعية المختلفة شرط أساسي ومهم في تحقيق الانتصار..ولا يمكن التقليل من أهمية ظفر الجنوب بالاستقلال عشية الحصار؛ فاستقلال الجنوب عزز قدرات المدافعين عن الثورة والجمهورية والمقاومين للحصار.
أسطورة القناة
رمز المقاومة والصمود والقوة لطالما كانت تلك الصفات ضمن ملامح الشخصية المصرية التي تظهر وتتجلى بشكل واضح في كتب التاريخ وتتردد على الألسنة، فقد استطاع المصري على مر العصور صد هجوم المعتدين ووقف أحقاد الحاقدين.
مدن القناة تحكي قصص الصمود تحت خط النار.. (المقاومة الشعبية) عيد قومي للسويس بعد حرب شوارع مع العدو.. والإسماعيلية قاهرة شارون وخططه.. وبورسعيد مقبرة الطيران الإسرائيلي.. لازالت ذكريات حرب أكتوبر 1956م تزخر بتلك الوقائع التي سطرت بالتاريخ كأعظم دليل على قوة وبراعة الجيش والشعب المصري، مسلطة اضواءها على مدن كانت تحت خط القصف وواجهت الأعداء بكل بسالة واقتدار.
في ليلة 15 من أكتوبر تسللت القوات الإسرائيلية إلى غرب قناة السويس مستغلة منطقة الدفرسوار للاختباء، وكان عدد القوات الإسرائيلية 30 دبابة برمائية ونحو 300 جندي مظلي من فرقة شارون المدرعة، ونجح التوغل الإسرائيلي بسبب انعدام التواجد المصري بفعل الثغرة غرب القناة ما أمن الطريق أمام القوات المعادية للوصول إلى مدينة الإسماعيلية.. بعد ذلك انطلقت الفرقة الإسرائيلية شمالا تجاه مدينة الإسماعيلية، بينما اتجهت فرقتان أخريان جنوباً تجاه مدينة السويس.
وكان شارون قد عقد عزمه على عبور الضفة الغربية عبر الوصول إلى الضفة الغربية لكي يقطع طرق الإمدادات الرئيسية القادمة من القاهرة وشرق الدلتا إلى قوات الجيش الثاني شرق القناة.
وتعتبر معركة الإسماعيلية نقطة تحول حاسمة في مسار حرب أكتوبر حيث ردعت قوات شارون ومنعت قواته من تهديد خطوط إمداد الجيش الثاني الميداني وحصاره، وأطلق الإسرائيليون على مدينة الإسماعيلية (فيتنام مصر).
ومرت مدينة السويس الصامدة بنفس الأحداث بعدما رفضت إسرائيل الالتزام بقرار وقف إطلاق النار، واجتمع لذلك مجلس الأمن بنيويورك، فعلى الرغم من جلاء معظم أهالي السويس مع بداية اشتعال حرب الاستنزاف في ذلك الوقت، إلا أن المدينة ظلت بها أعداد من موظفي الجهاز الحكومي ورجال الشرطة والدفاع المدني وعمال شركات البترول والسماد ومتطوعي المقاومة الشعبية.
وكان ذلك اليوم رمزًا لبطولة أبناء السويس حيث قاد المسجد المقاومة ضد القوات الإسرائيلية التي انتشرت في شوارع السويس (بمسجد الشهداء) الذي كان مقر المقاومة، بقيادة الشيخ حافظ سلامة، الذي ارتفع صوته من مكبرات صوت المسجد لأهل السويس قائلا: (إن اليهود قد أنذروا المدينة بالاستسلام، وإن المدينة قد رفضت هذا الإنذار بإذن الله، وقررت مواصلة القتال إلى آخر قطرة من دمائنا، وعلى كل فرد من أفراد المقاومة أن يدافع عن موقعه إلى أن يقضى الله أمرًا كان مفعولًا، وما النصر إلا من عند الله).
بدأ الأمر بعدما أرادت إسرائيل دخول السويس مستغلة ثغرة الدفرسوار، وتم دخول قوات العدو في نقطة غير مغطاة بقوات مصرية بين مواقع الجيشين الثاني والثالث في منطقة الدفرسوار، وكانت الثغرة مقدمة لمحاولة العدو الصهيوني احتلال مدينة السويس.
وعلى الناحية المصرية ، تم إعداد الكمائن من قبل المقاومة الشعبية ومنظمة دفاع سيناء بمداخل المدينة، وقام الشيخ حافظ سلامة بتحفيز أهالي السويس على القتال من مسجد الشهداء، وبدأت الطائرات الإسرائيلية الهجوم بضراوة. كما قصفت المدفعية والدبابات الإسرائيلية المدينة بشكل عشوائي وامتدت النيران لكل أنحاء المدينة، وذلك للتمهيد لبدء عملية الاقتحام.
ثم بدأت كتيبة زاكين التي قسمت إلى 3 مجموعات كل منها يحتوي 8 دبابات وكل دبابة يتبعها عربة مدرعة، تتحرك على طول امتداد طريق القاهرة- السويس.
وفور الاقتحام الإسرائيلي دارت المعركة في الـ24 من أكتوبر في شوارع وأحياء السويس، وعلى الرغم من اقتصار التسليح على الأسلحة الخفيفة والبنادق الهجومية، إضافة إلى التسلح بعدد صغير من قاذفات (آر بي جي 7) وصواريخ (آر بي جي 43) إلا أن الإسرائيليين وجدوا مقاومة شعبية من أبناء السويس ورجال الشرطة والسلطة المدنية مع الفرقة 19 مشاة من الجيش المصري، ما أجبر القوات الإسرائيلية على الانسحاب، وكانت حصيلة خسائر العدو الإسرائيلي 80 قتيلا و120 جريحًا، كما فقد العدو عشرات الدبابات والمصفحات، ومنذ ذلك الوقت وأصبح يوم 24 أكتوبر عيداً وطنياً لمدينة السويس.
وعلى مقربة من مدينة السويس, وثق الإسرائيليون بقدرتهم على الانتصار في معركة بورسعيد لانعزالها عن شبكة الصواريخ المصرية بسبب وجود بحيرة المنزلة، معتقدين أنها ثغرة سيدخلون منها لمهاجمة القوات المصرية من جميع الاتجاهات، وبدأ الجيش الإسرائيلي بقصف المدينة الباسلة بهدف تدمير كتائب الصواريخ المصرية، كما دخل سلاح الجو الاسرائيلى منطقة بورسعيد معتقدين أنه لا توجد قواعد صواريخ إلا أنهم فوجئوا بانطلاق الصواريخ المصرية التي أسقطت ثلاث طائرات إسرائيلية.
وحاولت القوات المصرية تضليل صواريخ العدو الحرارية باستخدام قنابل الدخان وإشعال الحرائق بعيدًا عن أماكن تمركزها، كما استخدمت وسائل للتشويش الراداري والصاروخي لتشتيت الطائرات والصواريخ التي تستخدم الرادار لتحديد أهدافها، كان هناك أكثر من أربعين هدفاً وبدأ الكر والفر إلا أن القوات المصرية نجحت في إغلاق المجال الجوي لمدينة بورسعيد في وجه سلاح الجو الإسرائيلي فجر يوم 17 من أكتوبر.
وقامت القوات الإسرائيلية بشن هجمات متفرقة، وألقت 214 طائرة إسرائيلية قرابة 1.500 طن من المتفجرات على مدينة بورسعيد والقاعدة الجوية، وسببت تلك الغارات الرعب لسكان المدينة الذين رفضوا مغادرتها وتطوعوا ضمن فرق المقاومة الشعبية وقاموا مع الجيش المصري بالفاع عن مدينتهم ووطنهم, وشهدت بورسعيد ملحمة بطولية للجيش المصري, تشكيل الطوق الحديدي بواسطة أعداد هائلة من الدبابات والمصفحات وناقلات الجنود والقوات الخاصة (الصاعقة) والمدفعية, ونصب كمين للطائرات الإسرائيلية فوق الثغرة لإجبار الإسرائيليين من الاستحواذ على الجو في حالة تجدد القتال, وترتب على تلك المعركة أن بورسعيد كانت مقبرة سلاح الجو الإسرائيلي.. لقد لعبت المقاومة دورا هاما في خلق التوازن الاستراتيجي مع العدو، وهذه الظاهرة جسدتها المقاومة المصرية ما بين اعوام 67-70م.
(ماأخذ بالقوة..لايسترد إلا بالقوة) جسد جمال عبد الناصر مقولته هذه بفعل المقاومة، عندما اطلق عمليات المقاومة في حرب الاستنزاف، والتي كبدت العدو خسائر فادحة، وبفضلها استطاع عبد الناصر ان يعيد بناء ما دمرته حرب 67م على الصعيدين العسكري والنفسي لدى الجيش والشارع المصري والعربي.
جبشيت.. الطلقة الأولى
في ظل المناخ المقاوم، ولدت المقاومة الوطنية اللبنانية، وشكلت ظاهرة نضالية، حيث استطاعت المقاومة اللبنانية الباسلة أن تحقق أهدافها وتجبر المحتل الاسرائيلي على الانسحاب من الجنوب اللبناني مهزوما، وبدون أية مفاوضات او تقديم أية تنازلات.
ومن ظل الدور والأثر العظيم للمقاومة اللبنانية الباسلة في وجه الاحتلال تبرز قصة بلدة جبشيت الصغيرة\الكبيرة في ملحمة بطولة الجنوب.
تعتبر بلدة جبشيت (جنوب العاصمة اللبنانية بيروت) المنطلق الأول لحركة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982 وقدمت وما تزال الشهداء والأسرى حتى بلغ عدد شهدائها ما يقارب الـ75 شهيدا على رأسهم الشيخ راغب حرب وما تزال هذه البلدة رمزاً للمقاومة والجهاد لتحرير الأرض والإنسان.
مطلع شهر حزيران من العام 1982 بدأ الاجتياح الإسرائيلي للبنان مسبباً الدمار والمآسي. في تلك الأثناء كان الشيخ في إيران بدعوة من الجمهورية الإسلامية لحضور مؤتمر إسلامي فيها. وهناك تناهت إلى مسامعه، أنباء الفاجعة الكبرى، وأخبار المحتلين فأحدث ذلك هزّة عميقة في نفسه مما دفعه لاتخاذ قرار العودة فوراً. لم تمض أيام قلائل حتى وصل إلى بلدته جبشيت ورأى بأمّ عينه واقع الاحتلال الأليم.
بدأ الشيخ مقاومته للاحتلال وبرز كقائد شعبي يقود أبناء أمته نحو العزة والكرامة بالتجول في قرى جنوب لبنان مندداً بالاحتلال الغاشم ومقارعاً سياسة التطبيع والتهويد. حاول المحتلون أن يسكتوا الشيخ فجاؤه عصر أحد الأيام ومدّ أحد ضباط الاحتلال يده لمصافحته، ولكن الشيخ أبى ورفض، وقال كلمته الشهيرة (الموقف سلاح والمصافحة اعتراف).
وفي الثامن من آذار عام 1983، وقرابة الساعة الثانية بعد منتصف الليل، داهمت قوة إسرائيلية كبيرة المنزل الذي كان يبيت فيه الشيخ راغب، ثم اقتيد إلى مركز المخابرات في مدينة صور، حيث التف حوله كبار الضباط الصهاينة، ليتعرفوا على ذلك الرجل الذي أرهبهم، وأفسد عليهم الأمور.
اضطر الاحتلال الإسرائيلي تحت وطأة الرفض الشعبي المتصاعد أن يطلق سراح راغب حرب بعد اعتقال لما يقارب السبعة عشر يوماً عجزوا فيها عن تحقيق أيّة مكاسب.
المواجهة الأولى : في السادس والعشرين من شهر يوليو1984، وبينما كان الشيخ كعادته، في داره، وإذا به يسمع هتافاً قويّاً وصراخاً عالياً يرتفع بالتكبير والتهليل، توجّه الشيخ لاستكشاف طبيعة الأمر، فرأى الساحة العامة في البلدة تغصّ بالجموع المنددة بجماعة العميل (سعد حداد) الذين فروا بعد مشادة مع الأهالي لاستقدام قوّة إسرائيلية، وإذ بالقوة الإسرائيلية قادمة، فاصطدم معها الأهالي بقيادة الشيخ حرب، فعادت من حيث أتت، تجر أذيال الخيبة,حينئذٍ وقف الشيخ أمام الجموع معلناً رفض التعامل، وحرمة التعاون بأي شكل من الأشكال مع العدو الإسرائيلي، داعياً عناصر ما يسمى بــ(الحرس الوطني) إلى التوبة وإلقاء السلاح والعودة إلى أحضان أهلهم.
واصل الشيخ نضاله، متجولاً في قرى الجنوب، مندداً بالاحتلال الغاشم، ومحطماً سياسة التطبيع والتهويد، داعياً الناس إلى التمرد والعصيان على واقع الاحتلال البغيض وكان صوته المدوي، يهزّ أسماعهم، ويرعب قلوبهم، ويكشف الزيف عن وجوههم.
في تلك المرحلة المحتدمة من مراحل الصراع، كانت عمليات المقاومة، تشتد وتتصاعد، لتهزّ الأرض تحت أقدام الغاصب المعتدي، وتلهب حصونه، وكانت الضربات المتلاحقة تقض مضجعه، وتلقنه درساً قاسياً، وتحولت بفعل ذلك، تلال الجنوب وأوديته إلى مصيدة لجنود الاحتلال ولقد كان الشيخ حينها قائد المقاومة، ورائدها، فأرادوا أن يتخلصوا منه وفي 16 شباط من عام 1984 قام الاحتلال الإسرائيلي عبر عملائه باغتيال الشيخ حرب الذي أصبح استشهاده من الأحداث الحاسمة في مسيرة المقاومة في لبنان وحفزت الشعب على رفض الاحتلال أكثر فأكثر, لتثبت الايام أن دماء الشهيد، لم تذهب هدراً، ولكنها تسامت وارتفعت، لتنبت في ربى الجنوب وعلى تلاله، مقاومين أشداء، جاهدوا العدو بسواعدهم الفتية وأرغموه على الفرار والهروب، مسجلين بذلك انتصاراً رائعاً، قلّ نظيره في التاريخ المعاصر.
معركة الكرامة .. مهمة وطنية
وها نحن أمام ظاهرة نضالية جديدة خرجت الى الوجود جراء العدوان الامريكي-الارهاب على العراق وسوريا, فقد ولدت المقاومة العراقية والسورية في ظل حالة من الانكسار العربي بعد احتلال امريكا وحلفاءها للعراق وهجومها بعد ذلك على سوريا.
ففي العراق اعلنت المقاومة الوطنية (الحشد الشعبي) عن نفسها كظاهرة وطنية في مقاومة قطعان الارهاب القادمة إلى أرض الرافدين من كل أجحار الأرض.
فرض الحشد الشعبي نفسه في المعادلة العراقية باعتبارها قضية ارض وشعب ووطن، وباتت المقاومة العراقية رقما يصعب تجاوزه في المعادلة العراقية.
كانت بداية الحشد الشعبي مع ثلاثة آلاف عنصر من مختلف الفصائل والحركات الشيعية المقاتلة، التي تشكل بعضها بعد دعوة المرجعية الدينية في النجف بضرورة مقاتلة تنظيم (داعش) والتصدي لتمدده في شمال وشرق وغرب العراق، إضافة الى اقترابه من محيط بغداد الأمني وتهديده لمناطق الوسط والجنوب (خصوصا مدينتي النجف وكربلاء المقدستين لدى مئات الملايين من المسلمين)، نتيجة للتداعيات الأمنية التي وقعت بعد التاسع من حزيران الماضي، وقد تحول مصطلح (الحشد الشعبي)، من مجرد إشارة الى افراد ومجاميع غير منظمين او تابعين لجهة بعينها يحاولون الدفاع عن بلادهم ومقدساتهم الدينية، الى مصطلح واسع المعاني له العديد من الدلالات والابعاد السياسية والدينية والأمنية المؤثرة على مستقبل العراق والمنطقة أيضا.
يقدر عدد قوات الحشد الشعبي بعشرات الآلاف، أما عدد المتطوعين فتخطى ثلاثة ملايين شخص,ومن أبرز فصائلها منظمة بدر وعصائب الحق وكتائب حزب الله وهنالك منظمات أخرى منضوية في الحشد الشعبي.
الحَشد الشعبيّ أو ما يعرف أيضاً بالحَشد الوَطنيّ هي قوات شبه عسكرية رديفة للجيش العراقي، وتعمل معه، تم تشكيلها بظرف طارئ في منتصف العام 2014، وهي تابعة للمؤسسة الأمنية العراقية، ويتكون الحشد الشعبي من شيعة العراق،ولاحقاً انضمت إليه عشائر من سنة العراق من محافظات صلاح الدين ونينوى والأنبار، وكذلك من التركمان والكرد، والمسيحيين العراقيين.
وكانت أبرز الأسباب التي اوجدت (الحشد الشعبي) في العراق، يتمثل بغياب وجود (الجيش العراقي)، الذي يمكن ان يؤشر منذ عام 2003 وحتى وقت انهياره في الموصل، والتي اعتبرها البعض بأنها كانت تحصيل للحاصل، على الرغم من تبني القوات الامريكية مهمة تدريبه وتجهيزه للقتال، في فاتورة قدرها البنتاغون بـ(25) مليار دولار امريكي طوال عدة سنوات، وما يعاب على الجيش العراقي ليس شجاعة أبنائه المقاتلين، بل استشراء الفساد بين أركانه العسكرية وكبار الضباط، إضافة الى غياب (العقيدة العسكرية) الواضحة التي يؤمن بها الجيش، مع تفشي ظاهرة الطائفية والخلافات السياسية التي انعكست على أدائه في الظروف الحرجة التي يحتاج فيها البلد الى جيش قوي ومتمكن.
وبوقت قياسي تمكن الحشد الشعبي من تحرير عشرات المدن والمناطق من يد تنظيم داعش، معلنا نجاحه حتى في بعض المدن ذات الوضع (الجيوستراتيجي) في (امرلي) و(جرف الصخر) ومناطق (حزام بغداد) و(سامراء) و(بلد) و(الدجيل) ومحافظة (ديالى) و(جبال حمرين) تحرير جرف النصر والضلوعية والدور والعلم وتكريت وبيجي والرمادي واستمر بالتقدم نحو المناطق ذات الغالبية السنية.
وكجزء من الثمرة الكبيرة, يشكل الحشد الشعبي في العراق قوة شبه عسكرية تعزز حضورها في المشهد العراقي بعد سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على الموصل ومناطق أخرى في غرب العراق. ويدعم الحشد قوات الجيش العراقي في حربه ضد التنظيم المذكور.
ومن مقاومة الرافدين إلى مقاومة الشام, تدور سياق قصة البطولة في الدفاع عن الأرض وحق الحياة, فمع نهاية العام 2014 أعلن عدد من أبناء دير الزور عن تشكيل جبهة المقاومة الشعبية في المنطقة الشرقية لتكون رديفاً للجيش العربي السوري في القضاء على الجماعات الإرهابية وفي مقدمتهم تنظيم (داعش).
وبحسب بيان مصوّر لعدد من المقاتلين من أبناء المنطقة الشرقية «إيماناً منا بما رسخ فينا من قيم وأخلاق وطنية ومن غيرتنا ونخوتنا التي ورثنا من الآباء والأجداد وما بذلوه من غال ونفيس في دفاعهم عن ثرى سورية الحبيبة كي تظل طاهرة من رجس المعتدين والمستعمرين على مر الزمان، وبالنظر إلى ما تتعرض له سورية الغالية من هجمات مسعورة وبسبب ما تعرضت له محافظة دير الزور خاصة من مجازر وجرائم وسفك لدماء الأطفال والنساء والشيوخ على أيدي من لا ينتمون لهذا الوطن الذي تدس ترابه على أيدي قاطعي الطرق من الإرهابيين والمرتزقة, قررنا تشكيل جبهة المقاومة الشعبية في تلك المنطقة لتكون رديفاً لجيشنا العربي السوري في تصديه للغزاة والخونة والمارقين على القانون وممارسي الإرهاب ودعاة الفكر الضلالي».
وأوضح المقاتلون الذين ظهروا في مقاطع مصورة أن الهدف من تشكيل هذه الجبهة هو قتال وسحق كل الأجانب والمرتزقة الذين دنسوا أرض سورية الطاهرة موجهين كلامهم لإرهابيي داعش (أنتم هدف مشروع لعملياتنا ولن يغمض لنا جفن حتى تفروا كالجرذان تحت ضرباتنا).
ووعد البيان الشعب السوري (بالمقاومة الشرسة ضد الإرهاب)، وتعهد «بإعادة المحافظات بكافة ألقها إلى حضن الوطن.
القاعدة التي تحكم المقاومة الشعبية لأحرار سورية (وحدات الدفاع الشعبي والكردية, والجبهة الشعبية) في مواجهة العدوان والارهاب, تأتي وفقا لمبدأ (لا يفل الحديد إلا الحديد) فالتنظيمات الإرهابية تجيد حرب الشوارع والعصابات, وفي المقابل تحركت فرق المقاومة الشعبية وفق أسلوب المعارك المتحركة وتمكنت من وقف تقدم مقاتلي التنظيمات الإرهابية وحققت خلايا المقاومة انتصارات علي الأرض.
فقد دل الوضع الذي شهدته محافظة الحسكة وكذلك كوباني عين العرب وقريتي نبل والزهراء بأن فعل المقاومة الشعبية هو من سيسقط المشروع الأمريكي / الصهيوني / الخليجي الرجعي في سوريا.
إن صمود الأهالي بوجه التنظيمات الارهابية المدعومة من أمريكا واسرائيل وتركيا والسعودية وقطر, أثبت أن الانتماء الأوحد هو للعلم والوطنية السورية.
تتطلب المرحلة الحالية موقفاً وطنياً جامعا لمواجهة الإرهاب وخصوصا تنظيم داعش، فالإرهاب التكفيري هو المشكلة الكبرى التي تواجه سوريا خصوصاً، والمنطقة عموماً ولابد من إيجاد قاعدة شعبية واسعة لمحاربة الإرهاب، ولتكن الحسكة والسويداء وكوباني الدليل على أن وحدة الشعب هي من تسقط المشاريع التكفيرية.
ان العدوان على الشعوب لسلب خيراتها ونهب ثرواتها وخلق حقائق جيو سياسية بحجة محاربة الارهاب باتت ظاهرة معروفة واكذوبة مفضوحة لا تنطلي على احد في عالم اليوم.
ما يميز المقاومة هي استمراريتها وتناميها وتصاعدها، ومعرفتها لحقائق الواقع والتعاطي معه والعمل على تغييره، والتأثير فيه لمصلحة الهدف الذي تقاوم وتناضل من اجله، ويضاف لذلك ميزة اخرى تتمثل في قبول الجماهير لها والترحيب بها والعمل على توسيع رقعتها كماً ونوعاً واستخلاص الدروس والعبر منها، وللتدليل على ذلك لا بد من سياق عدد من الامثلة للمقاومة كظاهرة في مقاومة الاحتلال، وهنا نأتي على دور المقاومة السوفيتية، في مواجهة الاحتلال الالماني، للعديد من المدن والأراضي السوفيتية حيث نتعرف على مدينة( ستالين غراد ولينن غراد) وغيرها من المدن والتي شكلت أمثلة حية للمدن المقاومة، كما يمكن الإشارة الى المقاومة الهندية، في مواجهة الاستعمار البريطاني، وكذلك المقاومة الفيتنامية في مواجهة الاستعمار الفرنسي والامريكي، والتي شكلت مثلاً حياً للشعوب التي تقع تحت الاحتلال في كيفية مقاومة المحتل والتغلب على التفوق العسكري وبشكل واضح، وهنا نستحضر المثال القريب والآتي من جنوب القارة السوداء انه المثل الجنوب افريقي والتي قوضت نظام التمييز العنصري بعد عشرات السنيين من الاحتلال والطمس والتمييز بأسوأ وأحط صورة وهنا يبرز اسم المناضل العالمي والأممي الزعيم - نيلسون مانديلا - والذي قاد المقاومة ضد نظام الابارتيد من خلف القضبان وعند الحديث عن المقاومة فينبغي علينا ان نأتي على المقاومة الجزائرية في تصديها للاحتلال الفرنسي الى أن حققت استقلالها الوطني.
إن المقاومة بالإضافة الى كونها حق للشعوب فهي في ذات الوقت واجب وطني تفتضيه المصلحة الوطنية للدفاع عن الاوطان، ومقاومة المحتلين واسترداد الحقوق.
وارتباطا بهذا الحق التاريخي والأزلي والمشروع، ولدت المقاومة الوطنية الفلسطينية كظاهرة نضالية وطنية مستمدة مقوماتها من عدالة القضية الفلسطينية ومن جذورها التاريخية، والتي بدأت مع بداية هذا القرن، ولقد استطاعت المقاومة الفلسطينية بما مثلته من تجسيد حي لإرادة الأمة العربية في استعادة حقوقها التاريخية، وتحرير اراضيها من الاحتلال من أن تشق طريقها النضالي بالرغم من كل الصعوبات ورغم الهزيمة القاسية التي حلت بالأمة العربية في حزيران العام 1967م.
إن المقاومة الفلسطينية استطاعت ومن خلال فعلها النضالي، وعدالة قضيتها، من أن تفرض نفسها على كل الصعد العربية والدولية، واستطاعت أن تدخل الى كل المحافل الدولية بقوة الحق وبعدالة القضية التي جسدتها، ولأن صدى المقاومة، وفعلها البطولي وصل الى كل اصقاع الارض، ونقل القضية الفلسطينية نقلة نوعية غير مسبوقة، ولما مثلته المقاومة من نموذج يحتذى به في إحقاق الحق والدفاع عن المقدسات ولكنس الاحتلال لهذا السبب جاءت مقولة الزعيم الخالد عبدالناصر (إن المقاومة الفلسطينية هي انبل ظاهرة في التاريخ المعاصر).
المصدر صحيفة لا / طلال سفيان