منذ أكثر من شهر والعدو يشن هجومه الكبير على مشارف العاصمة، انطلاقاً من قواعده في نجران - مأرب - الجوف، هادفاً لاقتحام الأطراف الشرقية الشمالية للعاصمة، والسيطرة (في المرحلة الأولى) على الحلقة الأمنية العسكرية المحيطة بالمطار، وهي المنطقة المحادة لنهم وأرحب وبني حشيش وهمدان، وخلال شهر من الهجمات والقصف الهمجي الجوي المصاحب للهجمات البرية التي تواصلت على مساحة أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر مربع، تمتد من حوافي الجدعان- صرواح - الجوف باتجاه نهم أرحب بني حشيش، حيث يتكون شكل رباعي يربط أركان هذه النقاط، ويشكل هذا المستوى ساحة تحرك العدو وهجومه الكبير في طوره الأول.

حجم الهجوم وأبعاده
من خلال المعلومات التي يقدمها الإعلام، ومن خلال متابعة سير المواجهات والمعارك اليومية منذ ساعة الهدنة الأخيرة (الخدعة) في ديسمبر الماضي، يتضح أن حجم الهجوم كان واسعاً وكبيراً ولا ينتمي إلى نوع الهجمات الفرعية والتكتيكية أو الاستنزافية أو الدفاعية، ولكنه ينتمي إلى طراز من الهجمات الاستراتيجية الكبيرة المخطط لها كحلقة ضمن سلسلة حملة استراتيجية كبرى تشرف عليها القيادة المركزية العليا للعدوان بدءاً بأمريكا، وهو امتداد للمشروع الاستراتيجي الكبير الذي ما يزال متواصلاً حين بدأ باختراق عدن وفتح هجمات كبيرة من كل الجبهات المحيطة بالعاصمة، إذ إن كل هجمة سواءً في الجنوب أو تعز أو مأرب أو الساحل الغربي، كلها مرتبطة بإنجاح هذا الهجوم الذي يشكل الذروة للخلاصة الاستراتيجية لكافة الهجمات التي شنها العدو بعد أن تقهقر وانكسر استراتيجياً على جبهته الرئيسة في عمقه وخسر المبادرة في الدقيقة الثانية من بدء الهجوم الجوي على الوطن.
بلغ حجم الجزء البري من الهجوم ما بين 15 و20 ألفاً على مسرح التماس المباشر، بمعنى وجود قوات أخرى احتياطية تمثل نسقين ثانياً وثالثاً، يمكن أن يصل كل واحد منهما إلى 20 ألفاً، أي 40 ألفاً للنسقين جرى تجهيزها للدفع بها جواً وبراً عند إنجاز النسق الأول الكبير مهماته المباشرة المتمثلة بالوصول لاختراق الجزء الشرقي الشمالي وصولاً للمطار والمناطق المحيطة به.
سمي هذا الهجوم من قبل القادة الديكوريين (السيل الجرار)، وتتضمن هذه التسمية المضمون العملياتي للهجوم ومهماته الأولية وشكل العملية، حيث تخيلت القيادة العدوانية أن يكون شكل الهجوم شكل السيل الجرار، ويتضمن هذا شكل وقوة العمليات بأن تكون جارفة كاسحة وعنيفة وكثيفة ومستمرة على مسافة طويلة على الأرض، وأن يصحبه أمطار وعواصف من الجو تغذيه حتى لا ينقطع ليصل إلى غايته، ويستحق الاسم أن يطور إلى (السيل الجرار في اختطاف قاعدة المطار)، هكذا يعطي معنى أوضح للهدف.
ركز العدو عملياته على استغلال عوامل المفاجأة والمباغتة والاسترخاء والاختراق الأمني السياسي والأخلاقي للتجييش والتعبئة والتشتيت، ولا ننكر أنه حقق بعض النجاحات أول الأمر حتى وصل آنذاك إلى الفرضة واحتل معسكر اللواء 312 كأول حامية للعاصمة سقطت من الشرق.

تطورات الهجوم ومخاطره
امتدت تحركات العدوان شرق العاصمة مستغلاً تسللاته على السلاسل الجبلية التي تقع على جانبي المنطقة والخط الرابط بين المحافظات.
تواصل الهجوم طوال 50 يوماً محاولاً اختراق الخط الذي كان وصل إليه في أعلى زخمه قبل ثلاثة أسابيع تقريباً، إذ شكلت فرضة نهم ومفرق أرحب وجبل بن غيلان المواجه للفرضة آخر نقطة وصل إليها وظل فيها يعترك مع القوات اليمنية من الجيش والأنصار والدفاعات الشعبية منطلقةً من جبل نقيل بن غيلان الذي ظل قلعةً صخرية لصد مناورات العدوان وحرمانه من الالتفافات الجانبية باتجاه أرحب وبني حشيش، وحدد مربع تواجد العدو واحتواءه من الغرب والشمال، إذ شنت القوات اليمنية المشتركة هجمات مضادة راحت تتطور وتتسع بمرونة من كافة السلاسل الجبلية والشعاب والمرتفعات المحيطة بميدان المعركة والعدو، لتستمر المعركة بين كر وفر خلال أسابيع.
حاول العدو الانتقال للطور الثاني من الهجوم بعد سيطرته على معسكر 312 في ظل الإسناد الجوي، إلا أن صمود القوات اليمنية التي اتضحت لها من وقت مبكر نوايا العدوان، أفضى إلى وقفه وكسره.
أهداف عمليات الطور الثاني من العدوان
كان الطور التمهيدي أنجز في جزئه الرئيسي بالوصول إلى الفرضة، إلا أنه اختنق في مواقعه أولاً، ثم تعرض للتقهقر والانكسار، ولم يستطع الانتقال إلى الطور الثاني (الاستراتيجي)، وأدى هذا موضوعياً إلى دخول العدوان في مصيره الكارثي، منتجاً اختلال التوازنات الميدانية وخسارة العدو أمام تدفق القوات اليمنية وإحباط العديد من محاولات الإنزال الجوي التي كانت ضمن المخطط، الأمر الذي شل ميكانيزم الوصول بالعدوان إلى أهدافه الكبيرة، وعرضه لضربات مضادة هائلة، وعزلت القوة المخترقة تدريجياً عن قواتها الاحتياطية والاستراتيجية التي كانت تتربص وتتجمع في مناطق قريبة (مأرب- الجوف- نجران) ومخططاً لها أن تتدخل بشكل خاطف ما إن تتم السيطرة على المطار الذي أعد لاستخدامه كمهبط لاستقبال وتأمين نزول القوات الكبيرة، لتحويل السيطرة على المطار والحوامي التي حوله إلى سيطرة تدريجية من الجو على محيط المطار التي ستتسع خلال ساعات بالتوالي بإنزال القوات الأجنبية الثقيلة التي سيرافقها بالتأكيد غارات سجادية تشنها القاصفات العملاقة على المواقع المحيطة والمقاومة التي لم تسقط وشامل العاصمة بهدف إرعاب المواطنين ودفعهم للمغادرة، وسيرافقها كذلك إنزال بالمروحيات لسرايا وكتائب هي لا محالة قوات خاصة وحشية خاطفة تتعامل بسرعة مع الأنساق الدفاعية، كما يتم إنزال قوات أمنية مهمتها تنظيف وتمشيط منطقة المطار المحيطة والقيام بحمامات دم للكوادر الوطنية ومراكز القيادة والتفكير الاستراتيجي لشل إرادة الرد للقوات اليمنية وتوظيف الوقت الذي سيحسب بالثواني والدقائق فقط لإنزال بقية (السيل الجرار) الذي سيتحول جراراً حقيقياً من الجو والبر، واستناداً إلى هذه العملية التي قدر لها العدو 72 ساعة، يكون قد أسقط الخطين الأول والثاني للدوائر الحمائية الجغراستراتيجية والوصول إلى قلب المدينة أو أطرافها على الأقل، محققاً شللا عاماً، نتيجة للمباغتة وسرعة وكثافة العمليات ووحشيتها التي ستكون أمامها قنابل عطان ونقم مجرد أعمال متواضعة لا ترقى إلى الذكر. فالعدو بالتأكيد لأنه يريد هذه المعركة أن تكون الأخيرة الحاسمة سيخرج فيها ما بقي بجعبته ليخرج إما بنصر وإما بتسوية خانعة تضمن الركون لهذا الوطن أبدياً.. هكذا أراد العدو ولا يزال. وهذا ما يقف خلف تأجير جزيرة سقطرى التي تتمركز فيها قواعد طيران أمريكية عملاقة كـ(B52) منذ العام 2012، ويراد استخدامها الآن كقواعد لاحتشاد المرتزقة ونقلها إلى قلب المعركة بكميات كبيرة، كما وغياب هادي الآن لا يخرج عن هذه المخططات أياً كانت الدعاية المطلقة من إعلام العدوان.

72 ساعة لإنجاز المبادرة العدوانية 
استمرت تصريحات قادة العدوان وأبواقهم طيلة فترة المعارك الماضية أن أمامهم 72 ساعة فقط للسيطرة على العاصمة وينتهي كل شيء، وهذا كان محتوى الخطة الزمنية وليس مجرد هدر إعلامي، وهي الخطة الزمنية لطوري الهجوم الكبيرين الجوي البري على العاصمة بعد الوصول إلى المطار. فقد قدرت العمليات المخططة بهذا الزمن وتحسب منذ السيطرة على المطار.
وفي الوقت نفسه كان المحور الغربي (الجبهة الغربية) له برنامجه الرئيسي في هذا الهجوم، ويتواصل منذ البداية بالتزامن مع هجمة (جنيف 2) للسيطرة على السهل الساحلي غرباً والخرق الذي أحدثوه تلك الآونة شرقاً في الجوف.
كان المحور الغربي بمحوريه الشمالي والجنوبي يعمل منذ أكثر من شهرين على تحويل الهجوم باتجاه الاستيلاء على السهل الساحلي الغربي للنفاذ (من الجنوب غرباً) باتجاه المندب - ذباب - المخا باتجاه باجل وتطويق الحديدة بشن هجمات بحرية كبيرة عليها وإسقاطها ثم التوجه نحو خط باجل - بوعان بني مطر، إذ سيتزامن هذا مع ذروة هجوم المطار من الشرق، وسيصاحبه اختراقات من الساحل في المحويت وعمران وصنعاء، وستصبح عمران حلقة مركزية للتوغلات الجانبية من الجوف ومن تهامة، وكان يمكن للأسطول الجوي الكبير الرابض في البحر (المجوقلات والمروحيات) أن يستعد للقيام بنقل قوات بأعداد كبيرة لإكمال طوق العاصمة من الغرب بالسيطرة على المرتفعات الحاكمة في ظل رعاية قصف جوي شديد وتقدم المرتزقة على البر من الخارج ومن الداخل كذلك، الداخل الذي سيفعل من الطابور الخامس والخلايا النائمة.
بهذا تكون معركة صنعاء حسمت وفقاً لحساباتهم وخطتهم الزمنية.
هذا النصر لن يكتمل بدون عمران وذمار في حسبان العدو، والأولوية لعمران التي ستتجه الهجمات من الشرق والغرب إليها بهدف السيطرة على الخط الواصل بين صنعاء وصعدة وقطع خطوط الإمداد بالكامل، ووضع الجيش كله بعد تقسيمه إلى مسرحين أو أكثر من ذلك في مربعات فتك سريعة بالطيران وبغيرها.
هذا كله تم إيقافه الآن بالصمود والبطولات التي شهدتها الميادين القتالية الشرسة من نهم إلى ومأرب والجوف، ومع التقدمات التي حققتها عكسياً القوات اليمنية على محاور انطلاق العدو وكسر أجنحته الرئيسية التي أعاقت تحركه وأحالته إلى مطارد معزول في القفار.

معادلة الجبال والرجال
سيكتب في تاريخ صمود العاصمة وحامياتها البطلة وجماهيرها الذين يمثلون ضمير الأمة اليمنية والعربية والإنسانية في مواجهة هذا العدوان الامبريالي الدولي الذي يمتد أكثر من عام، سيكتب أن أهم عوامل الصمود هو مدى الالتحام بين الرجال والجبال في لوحة تراجيدية بطولية ستمثل أسطورة تاريخ المقاومات الشعبية الحديثة في حروب التحرر الوطني الاجتماعي خلال القرن الأخير.
ما إن انهارت مقاومة العدوان على جبال نهم وأرحب حتى خارت قواه بعد أن تكبد خسائر فادحة في البشر والعتاد على يد القوات اليمنية، ويمكن أن تقدر خسارته بنسبة 30% من قواته المهاجمة، وهو ما يمثل انهياراً استراتيجياً لأية قوة ما زالت لم تنجز بعد ولو 30 % من برنامجها، فكم ستفقد لو بقيت على هذا الحال شهراً آخر؟ بتقديرنا كانت إبادة مضمونة.
هكذا أمسكت القيادة بالمبادرة وقلبت موازين القوة والهجوم بتكتيكاتها السليمة القائمة على الصبر الاستراتيجي وسعة الحيلة والاستنارة وذكاء المناورة والتكتيكات، إذ انطلقت في مناورات تكتيكية أرعبت العدو تمثلت باختراق خطوطه ومؤخراته والتحرك عليها بالتفاف عاصف وسريع ومن حيث لا يتوقع أي قائد عسكري لأنها تتجاوز منطق العادة التقليدية، أو المنطق التقليدي العسكري، فالقوات اليمنية التفت بقوات كبيرة ونوعية ومستبسلة من نجران باتجاه الصحراء في ظل انكشاف كامل على وحوش الجو التي لم تلبث إلا أن تتحول إلى جرذان معنوياً أمام هول الموقف أمامها الذي لم تلحظه إلا بعد وقوع الهجوم على مؤخرات العدو في الأرض.

أهمية المعركة
تنبع أهمية هذه المعركة في اختلافها عن كافة المعارك الأخرى التي دارت منذ بداية العدوان، بكونها:
معركة تدور على الأبواب لا تحتمل أنصاف الحلول ولا الأخطاء أو مظاهر الضعف البشري أو سوء التقدير أو الاستهانة بالعدو أو المبالغة بالثقة بالذات أو النظرة لواقع المعركة والخطر على غير ما هي عليه في جوهرها.
خسارة هذه المعركة واجتياح العاصمة، سيترتب عليه في الأدنى انهيار عسكري كامل في المنطقة المحيطة يجعل القوى الوطنية العسكرية تنهار منظومتها الدفاعية وتموضعها نتيجة للاختلال في المنظومة المركزية التي تحدد بالضرورة وضع بقية المنظومات وتماسكها.
هذه المعركة هي أكبر معركة من حيث العدد والقوى والأهمية والمساحات التي دارت عليها والنتائج، وبهذا اختزلت مسرح الحرب الوطنية ككل، إذ أراد العدو وخطط من سنوات لجعل هذه المنطقة هي بؤرة الحرب العدوانية كلها ومركزها الرئيسي ومفتاح ثقل الأقاليم الشرقية والجنوبية والوسطى. وخسارة العدو فيها هي أكبر خسائر للمعركة حتى الآن منذ بدايتها، وتتركز في هذا المحور ما لا يقل عن 50 % من قوى العدوان الهجومية، ومخطط لها في لحظة الذروة بالاشتباك أن ينقل كل القوى الفائضة الاحتياطية في المناطق الأخرى لضمان تحقيق تفوق ساحق للعدو في ميدان الهجوم الرئيسي للعدوان، أي مركز ثقل الحرب كلها.

ليهزم شعبنا العدوان كله 
لا يكفي كسر العدوان على أبواب صنعاء مأرب الجوف، فإن هزيمة أي جيش مهما كانت إذا لم تتحول إلى مطاردة في قواعد انطلاقه وقياداته، فإنه يستطيع في ظل قيادة كفؤة إعادة ترتيب صفوفه مرة أخرى والتعلم ومعاودة الهجوم، مما يحدث تجاوزاً للانكسار السابق.
كيف نسحق العدوان بعد كسره؟
لا يكفي ما حققته القوات اليمنية من كسر للعدوان في مساحة معينة، بل يجب استخلاص تقدير سليم للموقف الاستراتيجي الذي ترتب على نتائج المعركة الحالية لكون عدم التقدير السليم سواءً بالمبالغة أو الاستهانة يحرمنا من معرفة وإدراك الواقع الجديد المتشكل بالسرعة المطلوبة لتوازن القوة الجديد المختل لصالح قوانا الوطنية استراتيجياً وتكتيكياً الآن، وهي حالة لن تدوم إذا لم يتم استثمار المعاني الحقيقية للانتصار وإعطاؤها أبعادها كاملة، إذ قد يتمكن العدو في حال منحه فرصة من استعادة تنظيم قواه وتجزئة نصرنا وتشويهه، ولذلك يجب:
إدراك أن العدو في هذه اللحظة وصل لأسوأ حالاته المادية والمعنوية والتكتيكية والأخلاقية نتيجة لحجم الضربات ومفاجأتها (راهن العدو أن الجيش قد استنزف طاقته بعد 400 يوم من العدوان، ليفاجأ بطاقات متجددة هائلة، وهذه بذاتها تحبط الكثير من المفاجآت التي فكر ويفكر بها، وتحطم جزءاً كبيراً من بنائه النفسي والعقلي حتى تكاد قيادته تصاب بالجنون)، وفي المقابل يعيش الشعب المقاوم وجيشه ولجانه في أعلى مستوى من منسوب القوى الأخلاقية والمعنوية والميدانية والحربية.
وهي قوة تمكننا من التحول إلى الهجوم الاستراتيجي العام قبل أن يفيق العدو بمراكزه الدولية من الصدمة الراهنة، وقبل أن يستوعب أبعادها لا بد من مواصلة الهجوم الاستراتيجي والتكتيكي وحشد الهجمات الساحقة وتركيزها على المفاصل الرئيسية المتبقية وخاصة الشرق (كعب أخيل) نقطة ضعف جغراسياسية في جسد الوطن تسهل للعدو دوماً امتطاءها كلما كنا في وضع الانكفاء والدفاع، وكل من يقاتل في وضع دفاعي ثابت يخسر في نهاية المطاف، وهذه الفرصة للخروج وكسر هذه الدائرة التي ألجئنا إليها نتيجة لاختراق الاحتلال للجنوب.
لضمان تدفق هجومنا الكبير وضمان استمراره وإكمال اتساع نطاقاته ليشمل الوطن كله وبالأخص الشرق المحتل، يجب أن يرمى بالثقل المليوني للشعب المسلح من خلال تنظيم المليشيات والجبهات الشعبية التحررية المسلحة في كل مكان، ودفع الشعب (الثوري المنظم) كله للنزول إلى المعركة وإغراق المحاور بعشرات الألوف من الرجال المتطوعين لتخفيف الجهد على الجيش والأنصار والحفاظ على النخبة المحترفة التي يحتاجها الوطن في المراحل التالية بالضرورة، ولذا لا بد من دفع ثقل الشعب المسلح الثوري والمنظم على العدو، فيحدث صدمة استراتيجية هائلة ترتد في كل نواحي حياة العدوان وقيادته ومراكزه، فتعاظم زلزلته وخسارته، وتجعل من سحقه حتمياً ومضموناً وقليل الكلفة بالتوزع بين كل الشعب الذي اعتاد على المعاناة والخسائر وهو يتشوق الآن متحمساً لمواجهة عدوه وإضرام نار الانتقام في قلبه جراء عقود من القهر والمعاناة اليومية الشديدة من هؤلاء الأعداء، وهذه فرصته الآن ليشفي قلبه ويفجر طاقته المكبوته طيلة سنين في المجرى الصحيح وليس العكسي التدميري، كما ويستعيد التحامه بوعيه الوطني وكرامته المهدرة جراء المعاناة، ويدمر بهديره بؤر الخيانة والارتزاق.
يوفر هذا لحظة تاريخية محتدمة قادرة على صهر كافة النخب الوطنية الشعبية العفوية بمختلف انتماءاتها الجغرافية والعقائدية ونشوء كتلة الشعور الوطني والقومي والإنساني، وهو ما يضمن مستقبلاً تماسك الوطن ووحدته بوجود هذه الكتلة التاريخية، التي تصبح فيها وحدة الوطن وتحرره وكرامته وتماسكه قضيتها وقضية كل فرد في المجتمع نتيجة المشاركة المباشرة الحارة في نيران الوحدة والكرامة، ولا تبقى المسألة مجرد تمنيات وأحلام مثقفين أو شعراء، وإنما واقع له دم ولحم جسده في أروع ملاحمه شهيد بسيط من عامة الشعب وصل لهذا المستوى من الإبداع والتجسيد للوعي والشعور والانتماء، وجسده مادياً في أرض المعركة، لحن بدمائه خطوط معزوفته الأسطورية الأخيرة في الميدان الحي، لطف القحوم، هو هذا النموذج المطلوب بامتياز.
هكذا يقول منطق حربنا الوطنية الحالية، وهكذا يقول مصيرنا المحتوم بالتحرر والانعتاق من نير الاستعمار وجحيم التبعية والاستغلال والعمالة.