في الـ14 من الشهر الجاري، أعلنت وزارة الصحة العامة والسكان حالة الطوارئ بعد ازدياد حالات الوفاة بسبب مرض الكوليرا وارتفاع أعداد الحالات التي يشتبه إصابتها بالمرض، حيث تظهر البيانات أن العاصمة صنعاء شهدت أكبر عدد من حالات الإصابة، تلتها المحافظة التي تقع فيها. كما ظهرت حالات في مدن كبرى أخرى هي الحديدة وحجة وإب وتعز وعدن.. وشملت المناطق التي سجلت فيها إصابات ووفيات ناتجة عن الإصابة بالكوليرا، أكبر المناطق من حيث عدد السكان في الجمهورية، وهي أمانة العاصمة ومحافظتا إب وتعز، وتقول منظمة الصحة العالمية إن قرابة 7.5 مليون شخص يعيشون في مناطق يرتفع فيها خطر انتقال المرض.

أول ظهور للمرض
بدأت الكوليرا بالظهور في صنعاء بداية شهر أكتوبر 2016، مع اكتشاف أول حالة إصابة، حيث أعلنت بعدها في نفس الشهر وزارة الصحة العامة والسكان وجود 8 إصابات مؤكدة في إحدى مناطق العاصمة، وتلى ذلك ظهور عدد من الإصابات في مدينة عدن في أقصى جنوب البلاد، حيث سجلت عدد من مستشفياتها حالات إصابة بين المرضى الذين قصدوها للعلاج.
في الفترة نفسها أنشئت غرفة عمليات مشتركة بين الوزارة ومنظمة الصحة العالمية واليونيسف واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وانبثق عنها فريق عمل مختص يضم عدة جهات صحية حكومية وأهلية، وتمكنت تلك الجهود من محاصرة المرض، وحالت مؤقتاً دون تحوله إلى وباء، أواخر عام 2016.

عودة المرض للظهور بشكل وبائي
مطلع شهر مايو الحالي، ظهرت الكوليرا مجدداً، ولكن هذه المرة ليس بشكل محدود وبإصابات معدودة، وإنما بشكل وبائي في عدد من المحافظات، وهو ما دفع وزارة الصحة العامة والسكان الى إعطاء مؤشر آخر للموجة الجديدة للمرض بشكله الوبائي، من خلال إعلان حالة الطوارئ وتأكيد وفاة 115 شخصاً جراء الإصابة بمرض الكوليرا، وبعدها بيوم قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن الوفيات المسجلة لديها وصلت الى 180 حالة وفاة خلال الفترة من 27 أبريل حتى 15 مايو، وأن هناك 11 ألف حالة يشتبه بإصابتها بالمرض خلال نفس الفترة.
ازداد المؤشر صعوداً خلال أيام، فقد أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، الخميس 11 مايو الجاري، أن وباء الكوليرا الذي يجتاح اليمن تسبب بوفاة 209 أشخاص خلال الأسابيع الأخيرة، بينما ارتفع عدد من يشتبه بإصابتهم الى 17 ألف شخص من كافة مناطق اليمن، ليصل معدل ارتفاع الإصابات الى 3 آلاف حالة يومياً.

أسباب الوباء
ترجع أسباب تفشي الكوليرا في المحافظات اليمنية الى الشلل الذي أصاب الخدمات العامة كالصحة والمياه والصرف الصحي والنظافة، نتيجة تعرض هذه القطاعات للدمار أو انعدام المواد والموارد المالية اللازمة لتشغيلها.
التدهور والتراجع الكبير الذي أصاب قطاع الخدمات الصحية يتربع على رأس قائمة الأسباب، لأن هذا القطاع في حال استمراره وانتظام خدماته يمثل صمام أمان يمكنه تلافي الآثار والأضرار الصحية الناجمة عن ضعف قطاعات أخرى كالمياه والصرف الصحي والنظافة؛ غير أن انعدام الأدوية والمستلزمات الطبية وأزمة المالية العامة المتأتية عن العدوان والحصار، جعلت القطاع الصحي في أسوأ حالاته، لتصبح معظم المنشآت الصحية المنتشرة بطول وعرض الخارطة اليمنية، خارج الخدمة، أو عاجزة كلياً أو جزئياً عن تقديم خدماتها، وبالتالي غاب صمام الأمان الصحي. وبحسب بيان وزارة الصحة في 14 مايو، فإن هذا القطاع غير قادر على مواجهة الكوليرا بمفرده في الوضع الراهن، الواقع القائم أن مرافق الخدمات الصحية التي ما زالت تعمل، لا تصل حتى إلى نصف المنشآت الموجودة، وحتى المراكز والمرافق العاملة حالياً معظمها تعمل بشكل جزئي، وتعاني نقصاً حاداً في الأدوية والمستلزمات.
من الأسباب أيضاً تداعي قطاع خدمات المياه والصرف الصحي، وهو أحد أكثر القطاعات تضرراً بسبب الحرب، إذ توقفت محطات ومضخات المياه الحكومية والأهلية في العديد من المحافظات إما لانعدام المحروقات أو عدم توفر الموارد المالية الكافية لتشغيلها وشراء مادة الوقود، وهذا ترك أثره على كمية المياه المتاحة للاستخدام الآدمي أو للشرب، وبحسب أرقام مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في اليمن، فإن أكثر من ثلثي اليمنيين لا يستطيعون الحصول على مياه شرب آمنة.
يرتبط الصرف الصحي هو الآخر بظهور المرض من زاوية أن بعض المدن كالعاصمة صنعاء شهدت زيادة كبيرة في عدد السكان نتيجة موجات النزوح إليها منذ بداية العدوان، وهو ما خلق ضغطاً كبيراً على شبكات الصرف الصحي ذات الطاقة المحدودة، وهذا بدوره أدى في كثير من الأحيان إلى انفجار شبكات الصرف وطفح مياه المجاري، وهو وضع شهدته مدن أخرى لم تتعرض لموجات نزوح مثل عدن، نظراً لتوقف أعمال الصيانة لشبكات تصريف المياه في عموم المدن اليمنية، حتى المدن الثانوية والصغيرة.
قطاع النظافة أيضاً طالته ذات الأزمة التي طالت بقية الخدمات العامة، وإن بشكل أقل، لذلك فإنه وإن لم يكن السبب المباشر لظهور الكوليرا، إلا أن أزمات النظافة التي تداولت المشهد في مدن مختلفة من عدن إلى تعز إلى صنعاء، يمكنها أن تحفز انتشار الأمراض كالكوليرا والضنك وغيرهما من الأمراض المعدية.

جهود الاحتواء والمجابهة
جهود احتواء ومجابهة الوباء لم تتوقف رغم تصاعد مؤشراته، حيث تشكلت حملة للتصدي للكوليرا تقودها وزارة الصحة، بالشراكة مع منظمة الصحة العالمية، ومعاونة جهات حكومية ومنظمات إغاثية أخرى، وتقوم الحملة بتنفيذ أنشطة ومهام متعددة القطاعات، خاصة في المحافظات التي ظهرت فيها وفيات أو إصابات بالمرض.
بالإضافة إلى تشكيل غرفة عمليات للترصد والتنسيق، تتنوع أنشطة الحملة ميدانياً من التوعية بالمرض وأعراضه وعلاجه ووسائل النظافة الشخصية، الى تخصيص مركز أو مرفق صحي في كل تجمع سكاني، يقدم خدمات علاجية مجانية للمصابين. كما تقوم الحملة من خلال المؤسسات المحلية للمياه بكلورة مصادر المياه، وأيضاً توزيع حقائب النظافة الشخصية للفئات الضعيفة، ودعم صناديق النظافة المحلية من أجل انتظام واستمرار رفع المخلفات.
تبقى تلك الجهود بحاجة لدرجة عالية من وعي الأفراد بمخاطر المرض، ولجهود مجتمعية تتكامل معها من خلال المتطوعين والمبادرات المجتمعية لتسريع خطوات مجابهة الوباء في المجتمعات المحلية والمناطق النائية، فموسم الأمطار والسيول قد يكون عاملاً معاكساً لاتجاه الحملة، ما لم توضع آليات تعتمد على المجتمعات المحلية وإدماجها في عملية التصدي للوباء على المديين القصير والمتوسط.

تاريخ (مرض الفقراء)
ارتبطت الكوليرا التي تسمى أحياناً الكوليرا الآسيوية، في الأذهان، بظهوره كوباء أنهى حياة الكثير من البشر في مراحل مختلفة من التاريخ المعاصر، وسجلتها الذاكرة الإنسانية كعنوان للوجع في أعمال أدبية ولوحات فنية أكثرها شهرة رواية الكاتب الكولومبي ماركيز (الحب في زمن الكوليرا).
انتشرت الكوليرا خلال القرن الـ19 في جميع أنحاء العالم، انطلاقاً من مستودعها الأصلي في دلتا نهر الغانج بالهند، واندلعت بعد ذلك 6 جوائح من المرض حصدت أرواح الملايين من البشر عبر القارات كلها، وبدأت الجائحة (انتشار الوباء) الحالية وهي الـ7، بجنوب آسيا عام 1961، ووصلت إلى أفريقيا في 1971، ومن ثم إلى الأمريكيتين عام 1991.
وتتوطن الكوليرا الآن العديد من البلدان، وتزداد خطورة الكوليرا في البيئات والمجتمعات الفقيرة التي تعاني من شح الإمكانات أو تتعرض لأزمات كبيرة كالحروب أو كوارث طبيعية كالفيضانات، ولذلك تسمى (مرض الفقراء)، وأكثر المناطق تعرضاً لخطره هي الأحياء والتجمعات السكانية الفقيرة، حيث تنعدم البنية التحتية، وفي مخيمات المشردين والنازحين داخلياً أو اللاجئين التي لا تستوفي أدنى المتطلبات في ما يتعلق بتوفير إمدادات المياه النظيفة ومرافق الصرف الصحي.
تعتبر الكوليرا من الأمراض المعوية المُعدية التي تُسببها سلالات جرثوم ضمة الكوليرا المنتجة للذيفان المعوي، وتنتقل الجرثومة إلى البشر عن طريق تناول طعام أو شرب مياه ملوثة ببكتيريا ضمة الكوليرا من مرضى كوليرا آخرين. ولقد كان يُفترض لفترة طويلة أن الإنسان هو المستودع الرئيسي للكوليرا، ولكن تواجدت أدلة كثيرة على أن البيئات المائية يمكن أن تعمل كمستودعات للبكتيريا.
في العقود الأخيرة تشير تقديرات الباحثين إلى وقوع عدد يتراوح بين 1.3 و4.0 مليون حالة إصابة بالكوليرا سنوياً، وتتسبب الكوليرا في وفيات يتراوح عددها بين 21.000 و143.000 وفاة بأنحاء العالم أجمع.

الإصابة والعدوى
الكوليرا عدوى حادة قادرة على أن تودي بحياة المُصاب بها في غضون ساعات إن تُرِكت من دون علاج، وتنجم الكوليرا عادة عن تناول الأطعمة أو المياه الملوّثة ببكتيريا الكوليرا، وتستغرق بين 12 ساعة و5 أيام لكي تظهر أعراضها على الشخص عقب تناوله أطعمة ملوثة أو شربه مياهاً ملوثة.
أحياناً لا تظهر أعراض الإصابة بعدوى بكتيريا الكوليرا على معظم المصابين بها، رغم وجود البكتيريا في برازهم لمدة تتراوح بين يوم واحد و10 أيام عقب الإصابة بعدواها، وبهذا تُطلق عائدة إلى البيئة، ويمكن أن تصيب بعدواها أشخاصاً آخرين.

علاج سهل
رغم ظهور الكوليرا كجائحة انتشرت في مناطق واسعة، وأصابت أعداداً كبيرة من السكان خلال القرن الـ20، إلا أن علاجها في الوقت الحالي صار سهلاً، ويمكن أن يتكلّل علاج معظم المصابين به بالنجاح من خلال الإسراع في إعطائهم محاليل الإرواء الفموي، ويُذاب محتوى الكيس القياسي من محلول الإرواء الفموي المتوفر في الصيدليات والمستشفيات، في لتر واحد من المياه النظيفة، وقد يحتاج المريض البالغ إلى كمية تصل إلى 6 لترات من هذا المحلول لعلاج الجفاف المعتدل في اليوم الأول من إصابته بالمرض.
أما المرضى الذين يتعرضون لجفاف شديد بسبب نقص السوائل الناجم عن الإسهال وعدم تعويض السوائل المفقودة بسرعة فور ظهور أعراض المرض كالإسهال الحاد والقيء، هؤلاء المرضى معرضون للإصابة بالصدمة، ويلزم الإسراع بحقنهم بالسوائل عن طريق الوريد.