ربما كان الحزب الاشتراكي اليمني في اللحظة الراهنة هو أكبر الخاسرين، لكن خسارته تختلف في الذهنيات الاجتماعية وفي قراءة مضمون الخسارة بما هي كلمة مجردة. نحن لا نرى خسارة أخرى مني بها الحزب أكبر من خسارته للحراك الاجتماعي وفشل مشروع (اللقاء المشترك) كحامل سياسي للتغيير، وتغير موقع قياداته في إطار الصراع الطبقي، وضعف تمثيل (اللقاء المشترك) لمجمل التناقضات الطبقية والاجتماعية اليمنية.
الحراك الاجتماعي (حقيقة)
الحقيقة الموضوعية التي نقرأها في سطور الصراع، وميادين الحرب، وعلى مستوى كل الجبهات الداخلية والخارجية، هي حقيقة الحراك الاجتماعي اليمني للتخلص من الهيمنة واستعادة استقلال القرار السياسي الوطني.
هذا الحراك الاجتماعي على مدى ما يزيد على خمسة عقود، ظل في حالة تراكم للتناقضات الطبقية، محفوفة بكم غزير من التغيرات التي تمظهرت عبر أيديولوجيات شكلت الملامح الرئيسية لهيئة الصراع في وطننا اليمني، سواء على صعيد شماله أو جنوبه، وظلت تأخذ مناحي عدة برزت فيها إفرازات اجتماعية كثيرة كانت نتيجة منطقية لواقع البلد المعاش وعلى إنتاجه الاجتماعي الكلي وتوزيع ثروته.
هذا الحراك الاجتماعي وتراكم تناقضاته، وضعنا أمام مجموعة من القضايا تفرزنا في ضوئها بشكل أو بآخر، كما أنها ومن مرحلة باتجاه أخرى كانت تغير موقع قوانا السياسية في خارطة الصراع الاجتماعي، وكأنها عبث ممهنج يهدف لترحيل تناقضاتنا الأساسية والمهمة، وقضية تحررنا الوطني، على حساب تناقضات فرعية ومشاكل ضيقة لها لحظاتها التاريخية، لكنها ليست هذه اللحظة.

الحرب الكونية وركاكة ذهنية القيادات الحزبية 
الحرب التي تقودها المملكة ومن دار في فلكها، هي ضريبة التحرر الوطني، ومحاولة انتزاع استقلال القرار السياسي الوطني.. والعدوان في إطار حربه الشاملة يوظف التناقضات الطبقية، مستغلة الواقع الرث وتغير مواقع قيادات الأحزاب السياسية من خارطة الصراع الطبقي، كعبث أيديولوجي في نهاية المطاف يسم به غاراته وتكديس النزاعات الداخلية ومحاولاته خلق حالة حرب مزمنة لا تبقي ولا تذر.
هذا العبث ليس وليد اللحظة، هو حالة تراكم تاريخية منيت بها اليمن ومشاريع تحررها الوطني، ونتيجة لحالات الشقلبة التي طالت القوى السياسية في حيز تواجدها الطبقي من مرحلة نحو أخرى.
يتحدث قيادي اشتراكي عضو في لجنة حزبه المركزية، عن عملية ابتلاع ممنهجة لكوادر الحزب في مناطق الشمال عبر أيديولوجية (أنصار الله)، نظرية المؤامرة (فقط) هي كل ما يحيك عليها رفيقنا هذا التحليل السجادي، كونه مدرجاً في الحيز الاجتماعي العربي المليء بهذه المغالطات الأيديولوجية، وكنتيجة لقصر (البصر والبصيرة)، وغياب مفاهيم الاشتراكية العلمية عن ذهنيته.
هذا القيادي لا يجيد قراءة المصالح الطبقية التي يعبر عنها حزبه كأحد مكونات الصراع السياسي، وابتلاع كوادر الحزب من قبل (الحوثيين على حد تعبيره)، هو انعكاس صريح لانفصال الحزب عن واقعه الموضوعي، وانسلاخه عن المصالح الطبقية التي يعبر عنها، وإلا فكيف سيفسر رفيقنا ابتلاع كوادر الحزب في الجنوب ــ على غرار ابتلاعه في الشمال ــ من قبل الحراك الجنوبي إن استخدمنا نفس الذهنية التي تنتج التحليل وتستخدم الاصطلاح؟ 
وبهكذا ذهنيات ركيكة يستثمر العدوان السعودي التناقضات الاجتماعية بحرب يبنيها على نوتات تعزف كسمفونية (مناطقية مذهبية)، ضارباً بها هياكل الأيديولوجيات المختلفة عبر أبواقه السياسية والصحفية.
ومواقف الاشتراكي والناصري المبطنة ــ على سبيل المثال وليس الحصر ــ تحدد الملامح الرئيسية لتغير مواقع القيادات من خارطة الصراع الطبقي، وتحدد كيفية نسف الأيديولوجيات (اليسارية والقومية) وإخراجها عن مضامينها المصاغة في سطور الكتب والخطابات، وهذا التوظيف للمتغيرات المتراكمة يجب الخوض في سياقه التاريخي، والبحث في جذوره.

قراءة أولية في تجربة اللقاء المشترك وموقعه التاريخي من الصراع 
إن مهندس اللقاء المشترك الشهيد (جار الله عمر) كما يبدو كان صاحب رؤية ثاقبة تجاه مجمل القضايا السياسية والمحلية، ملماً بالواقع الطبقي وطبيعة تناقضاته وعلاقات إنتاجه، وفي النهاية متنبئاً بمآلاته وخط سيره عبر مشروعه (اللقاء المشترك) الذي اغتيل أي (اللقاء المشترك) عبر اغتياله هو، نتاجاً لنضاله السلمي واستشعار خطر مشروعه، وكذلك بسبب العوائق التي صادفته.
العوائق التي صادفت الرجل في مجمل خط سيره باتجاه مشروعه، تشكلت بالتدرجات الأيديولوجية للقوى السياسية التي شكلت التكتل، معبرة عن تناقض ــ في أحيان ــ وتفاوت مواقع هذه القوى السياسية من مجمل القضايا الاجتماعية والتناقضات الطبقية في أحيان أخرى.
اللقاء المشترك كمشروع سياسي أتى في سياق تاريخي لتراكم مشاكل اجتماعية ابتدأت بتغير نتج عن هزيمة الحزب الاشتراكي في حرب صيف 1994م، والتي في ضوئها تمكنت القوى التقليدية الممثلة لسلطة صنعاء آنذاك، وبمجمل أجنحتها (العسكرية والقبلية والدينية والسياسية) من بسط نفوذها باتجاه بقية الجغرافيا اليمنية، معيثة في الأرض الفساد، ومنكلة بخصومها بكل مكان.
وفي تلك اللحظة التاريخية، كان حزب التجمع اليمني للإصلاح (فرع تنظيم الإخوان المسلمين في اليمن) شريك السلطة السياسية في صنعاء، وبحكم أن الشيخ (عبدالله بن حسين الأحمر) كان على رأسه آنذاك، فهذه تعني أن قيادة هذا التنظيم السياسي تتشارك الحيز الطبقي ذاته مع مكونات السلطة، وأن بعده الأيديولوجي معبر عن مصالحها الاقتصادية المبنية على أساس الإنتاج الاجتماعي المشوه وسياسة توزيع الثروات، وتحول هذا الحزب السياسي لقوى معارضة في مراحل متأخرة، ودخوله ضمن تكتل أحزاب (اللقاء المشترك)، لا يمكن أن يكون واقعاً ملموساً إلا عبر حقيقتين: الأولى تدور حول تغير موقع قيادة الحزب السياسية من الصراع الطبقي وضرب مصالحها الاجتماعية والطبقية، ما يعدل التوجه العام لأيديولوجية الحزب باتجاه تمثيل مصالح فئات اجتماعية مسحوقة وتنبي مشروع تغيير راديكالي لمنظومة الحكم وتوزيع الثروة، الثانية بفعل التنوع الأيديولوجي في منظومة المعبر عن تنوع مواقع اتخاذ القرار، ينتج صراع طبقي سياسي في داخل طبقة السلطة ذاتها، يهدف في النهاية لتعديل مركز الهيمنة داخل الطبقة نفسها، لكنه أيضاً يحاول الإبقاء على الإنتاج الاجتماعي كما هو.
والأقرب للحقيقة الموضوعية هنا، هي الحقيقة الثانية استدلالاً ببقاء مراكز الثقل السياسي والطبقي -  لآل الأحمر وعلي محسن الأحمر- حتى الإطاحة بهم في ثورة الـ21 من سبتمبر من العام 2014م.
لا يمكن أن نكتشف ما يدور في رأس الشهيد (جار الله عمر)، ولكن بالإمكان الوصول لمقاربة للواقع والحقيقة، فاللقاء المشترك في إطار التكوين والتمثيل السياسي والاجتماعي (كمشروع)، صورة تعبيرية ممتازة لمجمل التناقضات الطبقية والاجتماعية وبحكم تنوعه الأيديولوجي، كان معبراً عن مشروع متناغم للتعايش، ومرشحاً لقيادة حراك اجتماعي، وبتعبير آخر (ثورة)، آتية لا محالة عند التدقيق في مجمل التناقضات العميقة التي كان ينتجها نظام صالح الذي لم يُجد التعامل معها، تاركاً لها باب التراكم مفتوحاً نحو انفجار قادم لا محالة.
ندرك الآن أن أهم عائق كان يقف أمام رؤية الرجل الاستراتيجية، هو عدم تغير موقع مراكز قيادة الإصلاح في الصراع الطبقي، وأيضاً تنافي الأهداف النهائية لكل الأطراف من مجمل مخرجات الصراع، فالإصلاح وعلى رأسه مراكز ثقلة العسكرية والقبلية، كانت تخوض معركة هيمنة طبقية تحاول في خضمها الإبقاء على أدوات النظام وعلاقاته، بينما بقية المكونات تبحث عن حراك اجتماعي يسعى لإحداث تغيير راديكالي للبنية الاقتصادية والسياسية الكلية في البلد.

فصل الاشتراكي عن واقعه وتهجين اللقاء المشترك 
اغتيال (جار الله عمر) هو اغتيال مشروع إنتاج الحلول السياسية، فالمهندس ربما كان سيتحفنا بالحلول!
فالجريمة بما هي قتل متعمد للعيان، هي تشويه جيني وفصل للمكونات السياسية عن واقعها الموضوعي، وإجهاز على حامل مشروع التغيير بشكل تنظيمه السياسي، وفي النهاية صياغة وعي اجتماعي مغلوط.
يعتبر الحزب الاشتراكي اليمني الممثل الحقيقي للقضية الجنوبية، في إطار القضية الوطنية كاملة، لكن عامل انتصار السلطة عليه في الحرب، وأيضاً عامل امتصاص حزب الإصلاح للتكتل السياسي في جوهر القضية وتحويلها من قضية ثورة وتغيير إلى مشروع هيمنة سياسية وطبقية، هو (القشة التي قصمت ظهر البعير)، فهي حولت قيادات الحزب وكوادره لمجموعة من النخب التي يبدو أنها تسبح في فضاء منفصل عن واقعها الموضوعي، وأيضاً أدت في نهاية المطاف لشقلبة موقع الحزب من الصراع الطبقي، وضربه في الوعي الجمعي للناس، وفي ضوء الواقع الاجتماعي الرث وعوامل نسف الاشتراكي وأحزاب اللقاء المشترك، ظهرت حركة (أنصار الله) وتكون (الحراك الجنوبي) كانعكاس لضعف التمثيل الاجتماعي والانفصال عن الواقع الموضوعي في ظل استمرار تراكم الحراك الاجتماعي.
رغم التشوه في البنية التكوينية لتكتل (اللقاء المشترك)، تمكن وكما كان مخططاً له من قبل مهندسه الشهيد (جار الله عمر)، من قيادة الحراك الاجتماعي (الثورة) الذي كان يستهدف بنية النظام وعلاقات التبعية لنظام آل سعود في الجوار، وهذا الحراك بحكم الإنتاج الاجتماعي المشوه والتبعية استهدف سلطة المملكة بصورة واضحة، منعكساً في خطاب حامل الثورة السياسي بوعي أو دونه، ودون الخوض في مجمل النوايا والتطلعات.
الحراك الاجتماعي (الثورة) التصق باللقاء المشترك كحامل سياسي لمشروع التغيير، لكن الأخير معدل جينياً وشفرته الوراثية تناقض موقعه من الصراع الطبقي، وهو كحلف طبقي تاريخي كان يفترض أن يعبر عن مشروع تغيير جذري لبنية النظام، لكنه فُصل عن واقعه الاجتماعي، فجاءت المبادرة الخليجية في نفس السياق كتمظهر لعمق الانحراف بين الحراك الاجتماعي وحامله السياسي، وهي أيضاً فصلت قيادات المشترك عن تمثيل المصالح الطبقية الاجتماعية، وعلى رأسها قيادات (الحزب الاشتراكي) كطامة كبرى، محولة إياها لجزء من منظومة الحكم وعلاقات التبعية للنظام السعودي، ناسفة اليسار في الوعي العام، وفاصلة إياه عن واقعه الموضوعي.
والثورة التي تلت الأحداث في الـ21 من سبتمبر كانت امتداداً طبيعياً لتسلسل الأحداث وامتداداً للتراكم التاريخي للتناقضات.
الاشتراكي يُبتلع من منظومة التبعية 
كانت خطورة المبادرة الخليجية في مضمونها، هي ابتلاع القوى السياسية الوطنية، وعلى رأسها الحزب الاشتراكي، الذي بتغير موقعه من الصراع السياسي، تغير خطابه المعبر عن مصالح فئة واسعة من أبناء المجتمع اليمني، إلى خطاب معبر عن مصالح قياداته التي استنهضت استياءً واسعاً، خصوصاً من قاعدته الجماهيرية، والمبادرة لم تفصل القيادة عن جماهيرها فقط، بل فصلت الحزب أيضاً عن معاناة الناس ومصالحهم الطبقية.
والوأد في مهد الثورة كان توزيع التناقضات ونقل الصراع السياسي من حيزه الاجتماعي إلى عمق جهاز الدولة، محولةً الحراك الاجتماعي ذا النزعة الثورية الراديكالية، إلى حالة استياء عامة، وفي النهاية حرف الصراع عن خط سيره ليصبح صراع هيمنة سياسية تخوضه نخبة السلطة السابقة، ولكن هذه المرة مع دمج قيادات الحلف الطبقي التاريخي (اللقاء المشترك) في نفس المنظومة وعلاقات التبعية لسلطان الخليج والنفط السعودي.
إن القوانين الاجتماعية والتاريخية كلها تتناقض مع ما جرى، وهي في النهاية تثبت عملياً أن التغييرات الاجتماعية ضرورة ملحة، وأن لا شيء يقف في وجهها، وأن الحاضن السياسي لأية ثورة وحراك اجتماعي مهما تم ضربه أو حرف مسارهِ، لا يعني انتهاء الحراك الاجتماعي، فالحراك الاجتماعي بطبيعة حاله وتكوينه لابد من أن يستعيد نفسهُ وينتج الحاضن السياسي بطريقة ما، حتى ولو كان هذا يعني استنهاض كل التاريخ أو خلق التاريخ من جديد إن لزم الأمر.
ربما كانت صدمتنا بقيادات القوى السياسية الوطنية مؤلمة فعلاً، لكنها في النهاية علمتنا درساً مهماً هو (ليس هناك شيء يقف أمام الحراك الاجتماعي).