الطريق الى الكينونة الوطنية 
(قراءة مقارنة في تواريخ مفصلية من عمر اليمن) ( 4-4 )


لم يكن الخيار الثوري - بطبيعة الحال- خياراً محبَّذاً بالنسبة لقيادة أحزاب ((المشترك))، التي ترى، تماماً كالمؤتمر الشعبي؛ أن الذهاب بلعبة المد والجزر بين معارضة وحكم، الى أبعد من حدود ((سجالات ساخنة من أجل تسويات مثلى في كنف رعاية دولية))، سيفضي إلى انهيار ((معادلة الاحتكار الحصري التقليدية للُّعبة))، لجهة بروز لاعبين آخرين يعكرون انسياب مصالح ((الراعي الدولي)) أو يسلبون أطراف اللعبة العريقين امتيازات الحظوة لديه.. وتبعاً لذلك اتسم لجوء ((ائتلاف المشترك المعارض)) الاضطراري إلى توظيف الاحتقانات الشعبية على مصاف السجال التقليدي بالحذر الشديد، وكبَّـل قواعده وأنصاره الذين احتشدوا في بضعة احتجاجات متقطعة دعا إليها بين 2007 و2010م، بسلسلة من التعليمات الصارمة والهتافات المقننة والخجولة، فبزَّ ببراعته في لجم جماهير المحتشدين، كل هراوات فرق الشغب في مخازن معسكرات الداخلية والأمن مجتمعة. وقد اقتصرت احتجاجات ((المشترك))، إبانها، على تنفيذ ((وقفات اعتصامية لا تتعدى الساعتين)) أو ((حفلات خطابية في استادات رياضية مغلقة))، يعقبها تحذيرات عبر مكبرات صوت تهيب بالجماهير ((تنكيس اللافتات والانصراف راشدين في جماعات تسلك أكثر من طريق)).
كان الشارع الشعبي، إذن، محض ((فزَّاعة)) يلوِّح بها ((ائتلاف المشترك المعارض)) في وجه ((الحاكم))، لكسب تموضع مريح وآمن في توازنات المشهد السياسي التقليدي.. لذا فقد كان حريصاً - كل الحرص - على أن يقتصر دور هذه الفزَّاعة، في حدود أن ((تخيف))، لا أن تنبض وتتحرك وتمتلك روحاً وإرادة وقراراً..
أراد - فحسب - أصنام تمرٍ يؤلهها ثم يلتهمها إذ يجوع، متعظاً من أسطورة ((تمثال بجماليون الحسناء)) التي تمرَّدت على نحاتها الدميم ما إن تحققت دعواته بأن تدب فيها الحياة ليتخذ منها عشيقة حصرية، فتحولت الى غصة قاتلة أجهزت عليه..
إن تداعيات الأحداث منذ اندلاع انتفاضة فبراير 2011م في الشمال وصولاً إلى مآلاتها، هي على وفرة من البراهين التي تكشف كنه علاقة ((المشترك)) المتوجسة والمرتابة تلك بالشارع الشعبي..
إن فبراير 2011م ليس - بطبيعة الحال - موعداً سعيداً تأهَّب له ((ائتلاف المشترك)) بنشوة عروس على تماس زفافها لمن تحب.
الحقيقة أن كِلا كفَّتَي المعادلة التقليدية قد ارتجفت تحت ثقل مقادير متكافئة من الذعر إزاء الانتفاضة لحظة اندلاعها، وكما تسلح الحاكم في وجهها بوسائط القمع المباشر المختلفة، فقد ضفرت المعارضة من أربطة عنق قياداتها مشانق ناعمة لها، وطعنتها بذريعة الحماية في الظهر، وحزت رأسها لتضعها على منبر الوصاية الإقليمية الدولية، وتعود محملة بفرمان استحقاقها حصة حاكمة في وليمة تسوية مغلقة على حلقة الأيدي التقليدية ذاتها، دون جديد لجهة الشارع ومكوناته المقصية..
انتفض المغلوبون على أمرهم ليحرروا أقواتهم ومصائرهم من طائلة الوصاية والاستئثار باسم الشرعية الديمقراطية، فوقعوا تحت طائلة ((الفصل السابع)) باسم ((المبادرة الخليجية والإشراف الأممي على تنفيذها))..
أما المقصيون من المشهد السياسي التقليدي المحتكر قبل 2011م، بحجة التمرد على الوحدة والنظام الجمهوري، فظلوا مقصيين بذريعة التخطيط ((لثورة مضادة مناهضة للمبادرة الخليجية ومعرقلة للوفاق)).. هكذا عثرت قوى السيطرة التقليدية المأزومة ومن ورائها مركز الهيمنة الدولي، في الانتفاضة التي أفزعتهم بداياتها، على فرصة ثمينة للتداوي من مخاوفهم إزاء انفجار الاحتقانات الشعبية، من خلال استفراغها في صورة متغيرات ثورية زائفة ومحض ديكورية، كما والخلاص من أزمة فقدان الشرعية عبر استدراج ((أنصار الله)) في الشمال وبعض مكونات ((الحراك الجنوبي)) إلى طاولة ((حوار وطني تحت هراوات الفصل السابع))، الأمر الذي أتاح لقوى السيطرة بالوكالة إضفاء شرعية على خارطة تقاسمات نفوذ فصَّـلتها المبادرة بتحوير طفيف على مقاس المعادلة العتيقة، ليكون مصير مخرجات الحوار المفتقرة لرافعة شراكة تنفيذية - لاحقاً - رهناً لمزاج القوى ذاتها تأويلاً وتنفيذاً، بوصفها رافعتها الوحيدة والحصرية.. وبالمحصلة فإن حبر مخرجات الحوار لم يبرح أوراقها..
لقد أخفقت تضحيات الشارع في أن تثمر بلورة جادة لعقد شراكة حقيقية تشمل طيف المكونات الاجتماعية والسياسية، وتمثل مصلحة الشعب على مختلف الصعد، وراهنت قوى السيطرة في حماية هذا الإخفاق المريح لها، على حالة الإرهاق والاستنزاف التي لحقت بالشارع بامتداد عام من الانتفاضة في الشمال وأربعة أعوام جنوباً، وتبعات ذلك الباهظة على شرائحه الاجتماعية المستنزفة أصلاً..
إلى ذلك، فقد اعتقدت هذه القوى بأنها وضعت للأبد خصومها من ((أنصار الله والحراك الجنوبي)) المناهضة لمآلات المبادرة والحوار، تحت الإقامة الجبرية المسيجة بفولاذ التهديد ((بعقوبات أممية ضمن الفصل السابع))، بحيث لن يصير بوسعهم إيقاظ فتنة ((الثورة)) النائمة، أو التفكير في تعبئة الشارع مجدداً باستثمار احتقاناته المتفاقمة، في مجابهةِ - ليس ((وكلاء محليين)) فحسب - بل مجتمع دولي بقواه العظمى المساندة لنشاز الوضع القائم، هذه المرة... الحقيقة أن هذه المعادلة الاحتكارية المؤصدة أمام شراكة ندية جادة، بحكم المبادرة الخليجية والنهاية الاعتسافية لمؤتمر الحوار، كانت - بالتوازي - مفتوحة - وفقط - لصفقات شراكة بالتبعية والانضواء تحت إمرة شرطة الوصاية الدولية، بالنقيض لإرادة الشعب..
يفصح تصريح القائمة بأعمال السفير الأمريكي في صنعاء عقب استئناف أعمال مؤتمر الحوار في يناير 2014م، عن هذا المسار الخلفي المشبوه للشراكة، حيث تقول: ((إذا انضم الحوثيون الى أي حكومة تتشكل مستقبلاً، فإن عليهم أن يتخلوا عن توجهاتهم العدائية، وإلا فإننا سنقاضيهم دولياً...)).. وهو تصريح تداولته وسائل إعلام محلية وعربية على نحو احتفائي.
في السياق ذاته، أظهر قيادي إخواني رفيع معارضة شديدة لشراكة محتملة مع ((أنصار الله))، وقال بنبرة محتدة، خلال لقاء لتدارس ضمانات تنفيذ مؤتمر الحوار، حضره الدكتور أحمد شرف الدين عن ((الأنصار)): ((لن نقبل أن تجمعنا بالحوثيين حكومة واحدة)).. وفي غمرة هذه النقاشات ذاتها أفاق الشارع اليمني على نبأ اغتيال الدكتور شرف الدين، كخاتمة دموية لحوار تعمَّد في مرحلته الثانية بدم الدكتور عبدالكريم جدبان، وافتتح بمحاولة اغتيال عبدالواحد أبو رأس، التي راح ضحيتها شهيدان، وكلا العضوين (أبورأس وجدبان) ينتميان ((لقائمة ممثلي أنصار الله))، في حين شهد مطلع المرحلة الأخيرة من عمر مؤتمر الحوار إقصاءً فجّاً للمكون الوحيد بين مكونات الحراك الجنوبي، الذي قبل الانخراط ضمن فعالياته، وتم تفريخ بديل مرتجل ليحل محله عبر بذل ((المال السياسي والتعيين في مناصب حكومية متقدمة)).. إلى ذلك كله، فإن السلطة المحتكرة للقرار السياسي ماطلت في تنفيذ ما اتفق عليه كإجراءات وحلول مهيئة للشروع في الحوار، والتي عرفت بــ((النقاط الإحدى عشرة والعشرين)) المتعلقة بقضيتي ((صعدة والجنوب))، واستمرت في نكوصها عن الإيفاء بها خلال انعقاد الحوار وبعده...
وفيما كان يمكن لــ((فيدرالية من إقليمين جنوبي وشمالي بحدود ما قبل 1990م)) أن تمثِّل توجهاً جاداً ومطمئناً بالنسبة لشارع جنوبي محتقن ويعتقد بعدم جدوى الحوار بالإطلاق، فقد انتزعت رئاسة الجمهورية وحكومة الوفاق تخويلاً قسرياً من بعض مكونات الحوار، قررت على إثره تدشين مشروع ((فيدرالية من ستة أقاليم، إقليمين جنوباً وأربعة شمالاً))، علاوة على تمديد رئاسي جديد، خارج الاجتماع..
لقد توَّجت السلطة - بطبيعة الحال - سلسلة مقامراتها تلك وأدائها الارتجالي غير الآبه بحساسية الوضع العام للبلد وانصرام حبل التعويل الشعبي، بقرار إصلاحات سعرية على مصاف المشتقات النفطية، كان - بالإجماع - أكثر القرارات جوراً واجتراء على امتداد تاريخ إعادة الهيكلة والإصلاحات الاقتصادية التي شرعت ((اليمن)) في تنفيذها من 1990م..
كان ذلك كفيلاً بدفع الشارع، لاسيما في الشمال، مجدداً، إلى أتون الخيار الثوري، بوصفه - في أسوأ الأحوال- ((خيار شمشون))، أو مقاربة راديكالية باهظة لاجتراح أفق حياة أوفر آدمية، في أحسن الأحوال.. وكان لدى مكون ((أنصار الله)) الأهلية وذات القدر من الأسباب والحوافز التي تدعوه لريادة مشهد شعبي بات آيلاً تماماً للذهاب إلى انتفاضة أخرى إثر قرابة أربعة أعوام من تداعيات انتفاضة فبراير 2011م المخيبة للآمال.

خاتمة
أجل أخفقت انتفاضة فبراير 2011م في تحقيق المرجو منها، ووقعت في مستنقع المحاصصة بالاستئثار ومزاد الوصاية الدولية.. لكنها طرحت أمام ((أنصار الله)) لحظة تاريخية ناضجة لكسر أسيجة العزلة التي فرضتها عليه ملابسات ست حروب طاحنة وشديدة الجور، فبات قادراً على الاتصال المباشر بطيف المكونات الاجتماعية الشعبية والحزبية على نطاق واسع، ومعالجة الصورة النمطية المسوَّقة سلباً عنه؛ في الخطاب الإعلامي الرسمي المواكب للحرب...
برع ((أنصار الله)) - على نحو مذهل - في اغتنام نضوج اللحظة، وتمكنوا - في غضون بضعة أشهر على بدء الانتفاضة - من مدِّ وشائج حضور فارق بطول وعرض الخارطة، وكانوا بشهادة كثيرين - بمن فيهم بعض خصومهم ـ رقماً نوعياً في قلب الانتفاضة الشعبية على مصاف التنظيم والتأثير والتفاعل الإيجابي السلس مع شتى شرائحها ومكوناتها...
بمقدورنا القول إن شهور الانتفاضة قد أنضجتهم سياسياً - على محك الممارسة العملية وجدل الاختلاف - بالقدر الذي أنضجتهم سنوات الحرب عقائدياً وعسكرياً... كانت هاتان التجربتان بمثابة جناحين تخلَّقا وتصالبا في غمار تجارب قاسية استحقت أثمانها الباهظة، كما أثبتت السنوات اللاحقة التي تموضع خلالها ((أنصار الله)) في قلب معادلة سياسية اجتهد خصومهم في إدامة محبوسيتهم - ليس على هامشها فحسب - وإنما على هامش الحياة بالمطلق؛ وكان هذا المخاض الذي شهد أبرز أطواره في انتفاضة أيلول 2014م، يعني تغيراً نوعياً في طبيعة معادلة الحكم التقليدي في ((اليمن))، لا متغيراً كمياً مضافاً إليها.. كما يعني تغيُّراً في خارطة علاقات الجوار الإقليمي والدولي ((باليمن)) سلباً وإيجاباً..
وفي هذا السياق - عقب توقيع اتفاقية السلم والشراكة التي لم تستثنِ أحداً على نقيض المبادرة الخليجية؛ وردود الفعل الخارجية السلبية منها - أكد السيد عبدالملك الحوثي أن الحركة ليس لديها أعداء حصريون ولا أصدقاء حصريون ((باستثناء قوى الهيمنة والكيان الصهيوني))، وأنها مفتوحة على ما يحقق مصلحة ((اليمن وشعبها)) في سيادة كاملة وعلاقات إيجابية لا تبعية فيها ولا وصاية لأحد. والحقيقة أن هذه المحددات التي أكدها السيد عبدالملك، هي ما يسعى ويناضل لتتحقق على مصاف الكينونة الوطنية المنشودة، كل الوطنيين بامتداد تاريخ اليمن الحديث، وليست محددات تعني ((أنصار الله)) حصراً..
لقد كان لخطاب الحركة في أذهان الناس خلال انتفاضة 21 أيلول، صدى شبيه الأثر وقريب الصلة، بزخم سنوات حكم الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، ما يعني اتصالاً مديداً بسيرورة الحلم الشعبي التي انقطعت تماماً في 7/7/1994م، وتنكرت لها المكونات السياسية عقب ذلك على مصاف الخطاب والسلوك، لوصفها محالات غير قابلة للتحقيق..
سددت انتفاضة أيلول 2014م ضربات قاصمة وجذرية لمنظومة لصوص الحلم الوطني على امتداد محطاته شمالاً وجنوباً.. الأمر الذي بَرهن على أن ريادة ((المشترك)) لانتفاضة فبراير 2011م، في ذروة معطياتها، لم تكن أكثر من مناورة، واربت ثلثي جبل جليد السلطة ومنظومتها خلف الانتفاضة، وساقتها باتجاه مجابهة عبثية مع واجهة السلطة الديكورية وغير المفصلية.. لتعيد إنتاج منظومة الظل بشرعية ثورية زائفة؛ في دلالة عملية على أن التغيير المنشود لا يمكن أن ينجم عن احتدام صراع غير تناحري بين متجانسين مرتهنين لذات المقاربات الخارجية على مختلف الأصعدة.. وعليه فإنه لكي تترقى أحداث 21 أيلول من انتفاضة إلى ثورة، يتعين أن يتشبث ((أنصار الله ـ الطليعة الثورية)) بمقاربات جذرية لقضايا من قبيل النظرة للعدالة الاجتماعية والشراكة، وطبيعة الدولة، والحريات العامة والشخصية، وقبل ذلك مقاربتهم للقضية الجنوبية التي ما كان بمقدور ((مكونات الحراك الجنوبي)) الحية والصادقة، أن تقف على عتبة حلول مفتوحة وفسيحة لها اليوم، لولا تهاوي رؤوس الإقطاع في الشمال وأمراء 7/7/1994م، بفضل انتفاضة 21 أيلول.. يتعيَّن - إذن - أن تكون هذه الانتفاضة جسراً تعبر من خلاله القضية الجنوبية إلى ضفة حلول ناجعة وناجزة، لا جسراً لتجاوزها كما أرادت قوى السيطرة التقليدية لانتفاضة فبراير 2011م أن تكون، حين راحت - عقب استتباب مصالحها - تلقم الشارع الجنوبي بالقوة أحجار ((إكليشات دوغمائية ميتة)) على غرار ((الوحدة قدرنا، نجوع ولا نفرط بالوحدة))، استمراراً ((لذهنية 7/7)) وإكليشتها الأشهر إبان ((حرب الفيد)): ((الوحدة أو الموت))..
لا ينبغي أن يصبح 21 أيلول مسوغاً لمطالبة الشارع الجنوبي المنتفض بأنْ ((اصمتوا إلى الأبد، فلا حاجة للصراخ بعد الآن))، لمجرد أن أبرز ((قوى الفيد)) قد تهاوت.. لقد أفسح هذا التاريخ الفذ سبيلاً مذللةً لحلول جذرية، لكنه لم يطرح حلولاً بعد.. قوَّض منظومة، لكنه لم يطرح رؤيته بسطوع لبديل نقيض، يترقبُ غالبية الشعب أن ترتفع قواعده على أطلال البائد، شمالاً وجنوباً.. بيد أن من المهم - هنا - تأكيد أن ما جرى تقويضه بالشعب ومع الشعب، يستحيل بناء نقيضه إلا بالشعب ومع الشعب ولمصلحته، وعدا ذلك فإنه لا قوة ولا شرعية لأي بديل ينبني خارج هذا الخضم ولا يعكس تطلعاته!
إن كل معادلة يسقط منها الشعب عمداً أو سهواً وطرفاً أو نتيجة، هي محض صفقة مشبوهة سيسقطها الشعب كما أسقط سالفتها.. ولا استثناء على أرضية هذه الحتمية لجنوب أو شمال بدعوى الخصوصية، إذ إنه لا إمكانية ((لوحدة أو لفك ارتباط)) دون شراكة تثمن المصلحة الشعبية في مقاربتها للحلول.
إن المقاربة الأمريكية البريطانية التي تفرز البنى الاجتماعية بمنظور تفكيكي - الى بضعة هويات انعزالية متخيلة مناطقياً ومذهبياً وعرقياً - هي مقاربة تستهدف الشعب بوصفه المشكلة، وبالنتيجة فإن ((استئصاله)) يغدو الحل الأمثل من وجهة نظرها.. تتلخص هذه المقاربة في صورة مشروع ((الأقاليم الستة))، الذي حالت متغيرات 21 أيلول دون المضي فيه، مفسحة المجال لمقاربات أخرى وطنية، لم تتخلق حتى اللحظة، بفعل حالة المراوحة في مناخ هجين ناجم عن استمرار معظم الأطراف المنضوية في ((اتفاقية السلم والشراكة))، في تعويلها - بالقصور الذاتي - على مظلة الوصاية الخارجية ومدد ((الفصل السابع)).
في الأثناء، فإن نتائج قرابة نصف قرن من التبعية الاقتصادية المكرسة وهشاشة مؤسسات الدولة لاسيما العسكرية والأمنية منها، تبدو أوراقاً رابحة توظفها معظم دول الجوار النفطي وقوى الهيمنة الدولية بصورة غير مسبوقة في حربها الباردة على ((اليمن ما بعد 21 أيلول))، بهدف كبح الانهيار المتسارع لمنظومة نفوذها التقليدي، والسعي لاستعادة ما انحسر من نفوذ، عبر تجييش الشارع الشعبي والزج به في مواجهة مع قواه الثورية، تحت وطأة يأسه المتفاقم من تحسُّن الأوضاع الاقتصادية وجحيم الانفلات الأمني.. ((احتياطي اليمن من العملة الصعبة على تماس النفاد، وتيرة محاربة الفساد بطيئة، والعائدات أقل بكثير من الحاجة؛ السعودية تعلق مساعداتها الاقتصادية، والقاعدة تضرب في كل مكان من أنابيب النفط في مأرب إلى سكن السفير الإيراني في صنعاء...))..
إن حاجة ((أنصار الله)) السياسية للانخراط في تسويات ثنائية على نحو ((تسويته مع الإصلاح مؤخراً))، في مقابل عدم إنجاز تحالفات تضم مكونات ثورية جديدة غير تقليدية الى جواره، هي متلازمة تفصح عن جَزْر ثوري تضطر معه الحركة للانكفاء إلى مسار تسووي تقليدي.
وثمة متلازمة أخرى تعمل بالتوازي مع الآنفة، وتتمثل في حاجة ((أنصار الله ـ كطليعة ثورية)) الى الانتشار العسكري (اللجان الشعبية) على مساحة شاسعة من الجغرافيا لتأمين مصدات حمائية متقدمة تستهدف ضرب البؤر الرئيسية ((لتنظيم القاعدة))، وشلّ قدرتها على نقل المواجهة الى قلب العاصمة ((صنعاء))، كما وتوفير غطاء أمني لنشاط قواعدها والفعاليات الثورية الأخرى الحليفة لها في محافظات الأطراف، بالنظر الى الغياب شبه الكامل لدور الأجهزة الأمنية والعسكرية الرسمية على هذا المصاف، لأسباب هي خليط من عجز بنيوي وعقدي، علاوة على تواطؤ وقصدية..
بالنتيجة فإن الحركة تضطر إلى استضافة قوة كمية على حساب النوع، في قوامها العملياتي الميداني، لتغطية حاجتها إلى الانتشار الواسع تلك..
وتُظهر ((اللجان الشعبية المسلحة)) فدائيةً وجلَداً شديدين يوجبان الإشادة بدورها، فعلاوةً على التضحيات اليومية الجسيمة التي تقدمها في معاركها الضارية مع عصابات إجرامية دولية محترفة من شذاذ الآفاق، تقف هذه اللجان مكابرة بظهر تثخنه ((ماكنة بروبجندا معادية رهيبة ولا أخلاقية)) بطعنات الشائعات المسمومة والقصص المفبركة التي تنال من شرف أفرادها على مدار الساعة..
إن حركة ((أنصار الله)) تنوء وحيدة بعبء التبعات الباهظة لحقائق هذا الخناق الجيوسياسي المطبق على عنق البلد والمتوثب لكسرها كلما حاولت أن تشرئب مستشرفة أفق خلاصها، لكن جلاوزة هذا الخناق من قوى داخلية وخارجية، يدركون جيداً أن ((اليمن)) قد شبَّت على الطوق، وأن خناق الوصاية على وشك الانحسار تدريجياً...
إن ندرة القيادات التاريخية اليمنية التي اقتحمت خطوط المحاذير الحمراء لهذا الخناق غير هـيَّابة، وناءت بتبعات الشروع في مجابهة مفتوحة معه، هو ما يجعل الحركة تبدو وحيدةً اليوم؛ إنها تقف حيث وقف ((عبدالرقيب عبدالوهاب، وعبود الشرعبي، ومدرم وسالمين والحمدي، وعبدالفتاح إسماعيل..)) وكل رموز ذلك الرتل الطويل ممن وقفوا حيث لا يجرؤ أحد على الوقوف، وحرثوا خنادق نضالهم ((تلايم)) لبذرة الحلم الوطني، فاستشهدوا مضمخين بطين ((علَّان)) وعرق سواعد الغالبية الكادحة والمستضعفة من ((حوف إلى مران)) ومن ((سحول ابن ناجي إلى وادي مأرب)).. هكذا هم ((أنصار الله)) اليوم في عيون غالبية تنظر إليهم بوصفهم استمراراً لما انقطع من تواريخ وطنية مشرقة وحافلة بوعود الخلاص، واتصالاً حميماً بضمائر لم يستوحش أصحابها طريق الحق لقلة سالكيها.
إن المستغرقين في تفاصيل مجهرية يومية عابرة، ليس بوسعهم أن يفطنوا للحقائق التاريخية الكبرى في طور تخلُّقها الأول، لأنهم لا يستشرفون أفق الصراع الرحب، وتماس المجابهة المديد، فيمعنون في العُلِّيق، ولا يرون السنديانة، ويرون الشجرة ولا يرون الغابة..
أما الخصوم ممن لا يلتزمون قواعد اشتباك وطنية في خصومتهم، فإنهم لا يرون إلا هزيمتهم في انتصار الشعب، ويستحيلون أصفاراً عندما تصبح ((اليمن)) رقماً فارقاً في ميزان القيمة على مصاف صراع الكينونة..