الطريق الى الكينونة الوطنية 
(قراءة مقارنة في تواريخ مفصلية من عمر اليمن)



( 3-4 )
بروز النقيض
تميَّـز الشهيد السيد حسين بدر الدين الحوثي والشبيبة الملتفة حوله بمقاربة جذرية لطبيعة الصراع الدولي، نابعة من صفاء ذهني وسلامة حدس لم تفسدهما المستجدات المتمثلة في انتصار المعسكر الرأسمالي بقيادة أمريكا عقب حقبة الحرب الباردة على المصاف العالمي، وانتصار أدواتها كنتيجة على المصاف القطري في 1994م..
ففي الوقت الذي نظرت جل القوى المحلية ـ اليسارية والقومية بالأخص ـ إلى تلك المستجدات بوصفها تبدُّلاً جوهرياً في طبيعة الصراع، سوَّغت بها لنكوصها عن المواجهة والالتحام بالواقع الموضوعي، نظر السيد حسين بدر الدين إلى ذات المستجدات بوصفها تبدُّلاً في النتائج والأدوات لا في مواقع الصراع وطبيعته..
وإذن، فإن المواجهة مستمرة وباتت أكثر الحاحاً اليوم، لاسيما وأن ((أمريكا)) التي كانت دائماً على سدة ريادة قوى الاستكبار العالمي باتت بانتصارها هذا أكثر استكباراً..
إلى ذلك، فإن حاجة الشعوب إلى العدالة الاجتماعية والخلاص من الهيمنة، والسيادة على ترابها ومواردها واستقلال قرارها السياسي، هي حاجة لا يسقطها التقادم بل تحقُّقها، ومادامت لم تتحقق فإن النضال من أجلها ينبغي أن يظل مستمراً..
وإذا كانت معظم القوى السياسية قد أصبحت ترى في ((أمريكا)) حليفاً لا غنى عنه في السعي لتحقيق حاجة شعوبهم إلى جملة المطالب الوجودية الملحة تلك، فإن المنطق والمعطيات المادية بامتداد عقود الصراع تقطع بأن ((ذئب الأمس)) يستحيل أن يصبح فجأة ((صديقاً للحملان))... 
لقد نبَّـه السيد حسين بدر الدين ، باكراً إلى أن ((القاعدة)) ليست إلا واحدة من أخطر الأدوات الجديدة التي لجأت إليها ((أمريكا)) في سعيها القديم للهيمنة والانحراف ببوصلة الصراع في العالمين العربي والإسلامي، وفتح بوابة واسعة للتمدد بذريعة محاربة ((صنيعتها الاستخباراتية))..
إن ضرب المجتمعات بعضها ببعض في كنف هذا الفكر التكفيري، يضع ((أمريكا)) على ((منصة التحكيم)) وفي صورة ((الحليف والملاذ)) عوضاً عن ((العدو والخصم))، وتلك غاية أمريكية تحققها ((القاعدة))..
غير أن مناهضة ((سياسات الهيمنة الأمريكية))، وإظهار العداء لها، بات في مناخ الإذعان الجمعي، ضرباً من ((الفوبيا)) يُعرِّض صاحبة للتقريع والاستهجان والاتهام بالجمود من قبل النخبة، على غرار ((فوبيا معاداة السامية)) في أوروبا..
وفي ((اليمن)) فإن حلبة التعددية السياسية لم تكن من التنوع بحيث تتسع لمكون سياسي يتبنى مناهضة ((أمريكا)) جدياً، وينحاز إلى صفوف الغالبية المفقرة ضد إملاءاتها الاقتصادية المقامرة بأقواتها لصالح استئثار القلة المسيطرة..
على خلفية هذه الأسباب مجتمعة اندلعت الحروب الست بعد إخفاق ((المحاربين بالوكالة))، عبر الاعتقالات، في لجم اختلاج الموجات الأولى الناجمة عن حجر المقاربة الجذرية الفذة الذي ألقاه السيد حسين بدر الدين في سكون المشهد المميت وسياميَّته، ليتأكد لقوى الهيمنة بعده أن ثمة ((آخر نقيضاً))، لا مناص من القضاء عليه لاستتباب الهيمنة..
يؤكد الرئيس السابق ((علي عبد الله صالح)) في حواره مع قناة ((العربية)) 2013م، أن السلطة شنت الحرب بدءاً في (صعدة) ضد مسيرة ((بدر الدين)) على خلفية ((الصرخة)) .. وبذلك فإنه يدحض كل الذرائع التي رافقت بدء العدوان وروَّج لها الإعلام الرسمي ووسائط ((الميديا)) التابعة للسلطة.
فــ((حسين بدر الدين)) لم يـدَّع النبوءة، ولا ((أسقط العلم الجمهوري، ولا رفع علم إيران على أنقاضه، ولا دعا لمبايعته إماماً، ولا سعى لطلب حصة هاشمية في الحكم من قبيل الأحقية السلالية))، ولا سواها من ((فبركات)) بلا حصر بررَّ بها ((المحاربون بالوكالة)) لما سمَّــوه ((حروب الاجتثاث والأرض المحروقة))..
لقد كانت تلك الحروب مبررة ـ فقط ـ لأنها استهدفت مكوناً هو على النقيض من كل مبرراتها المعلنة التي يجسِّـدها ـ بطبيعة الحال ـ المتذرعون بها، ليستوفي الصراع طرفيه ـ عن غير وعي من مسعِّريها ـ وتغدو طريق الثورة ممهدة لاحقاً لانضواء الشعب المقصي من حسابات ((لعبة الديمقراطية العقيمة، بتعدديتها الزائفة))..
عكست إخفاقات المحاربين بالوكالة من جنرالات ورموز إقطاع عسكرقبلي ومرتزقة وقاعديين، في صعدة، نفسها على الوضع العام للبلد بالضد لما تشتهي سفينة سلطة الحرب. إذ نضـَّــجت ـ بوتيرة مثابرة ـ الظروف الموضوعية لاندلاع ثورة، كان مناخ الاحتقانات الشعبية في الجنوب أكثر مسارحها خصباً وقابلية لترجمتها على الواقع في صورة اصطفافات نوعية جريئة انتظمت شتات ((المسرَّحين قسرياً من عسكريين وأمنيين على خلفية حرب 1994م))، وسرعان ما شرعت قوى اجتماعية أخرى من ضحايا الحرب وتداعياتها الكارثية، في تأطير صفوفها ومطالبها والانخراط في سلسلة متصاعدة من الاحتجاجات.. وقد أصبح لهذه الأطر المطلبية النوعية مجلس جامع لاحقاً سمِّي ((مجلس التنسيق الأعلى لقوى الحراك الجنوبي))، أحد أبرز إنجازاته النوعية تحقيق مصالحة جنوبية جنوبية تمظهرت في صورتها العملياتية الأخيرة من خلال ((مؤتمر التسامح و التصالح)) الذي كان انطلاقه مطلع العام 2007م إيذاناً بانتقال الحراك المطلبي إلى طور ثورة شعبية ترمي لاستعادة الدولة الجنوبية عبر العمل السلمي..
لقد أفضت المقاربات غير الجذرية للأزمات المحلية المعقدة والمعضلات الوطنية المزمنة والمرحَّـلة، على مصاف السجال بين ((المؤتمر الحاكم وائتلاف المشترك المعارض))، إلى تنامي اليأس الشعبي من جدوى ((ديمقراطية الاقتراع)) وانعدام ثقة الغالبية في أهلية المكونات الحزبية التقليدية للنهوض بدور الموصِّـلات الجيدة لهجس الشارع وأحلامه.. وبين محطة انتخابية وأخرى كان تعويل الجماهير على جدوى هذه اللعبة وحماسهم لها ينحسر بمثابرة.. بيد أن استجابة الشارع في الشمال لما تفرضه سلسلة خيـباته المتلاحقة تلك، من ضرورة انتهاج مسار مغاير بأدوات غير تقليدية، كانت استجابة أبطأ بكثير مما هي عليه لدى الشارع الجنوبي.. ويرجع السبب في ذلك ـ باعتقادي ـ لسطوة البناء الاجتماعي البطريركي الذي تتكئ فيه الأحزاب على ثقل الجهويات التقليدية المسيطرة، لتحقيق الحماية والحضور، فتتضاءل قدرة الفعاليات الشعبية المكبلة بالمحاذير؛ على المبادرة واتخاذ القرار، خارج نطاق سطوة هذه البطريركية.
خلافاً لما هي عليه الحال في الجنوب حيث أسهمت تجربتا الاستعمار البريطاني ودولة النظام والقانون التي أرسى الحزب الاشتراكي قواعدها، في تقليص سطوة البناء الفوقي الأبوي لعلاقات مجتمع ((ما قبل الدولة))، على الأفراد..
كان جلياً أن الأزمة لم تعد أزمة ((حزب حاكم)) مع ((أحزاب معارضة))، فمنذ محطة الانتخابات الرئاسية والمحلية في 2006م، كانت قد أصبحت أزمة بين ((طرفي المعادلة السياسية التقليدية الآنفين)) من جهة ، وبين الشعب جنوباً وشمالاً من جهة مقابلة. وإذ يمكن تقرير ذلك بيسر، فإن التكهن باندلاع حراك شعبي لم يكن يستلزم فرط إمعان في ملابسات المشهد المحتقن لتقرير أنه سيحدث حتماً..
((إن الحراك الاجتماعي هو ردة فعل ناجمة عن فشل المؤسسة الحزبية السياسية في تنظيم وتعبئة قوى المجتمع لإحداث تغيير يلبي حاجاتها بطرق ناعمة)) حد تعبير علماء الاجتماع..
في محطة 2006م كانت ((أحزاب المشترك المعارض)) قد قررت إنهاء حالة المقاطعة وخوض الانتخابات الرئاسية ـ المحلية، بعد حصولها على وعود من ((الاتحاد الأوروبي)) بالضغط على ((المؤتمر الحاكم)) لإجراء تعديلات دستورية تتيح الانتقال إلى نظام الانتخاب بـ((القائمة النسبية)) بدلاً عن نظام ((الدوائر))، بالإضافة إلى إعادة هيكلة ((اللجنة العليا للانتخابات)) لضمان نسب تمثيل ((عادلة)) في قوامها الإشرافي.. وهي مطالب ترفية بالقياس إلى درجة احتقان المشهد الشعبي وتآكل شرعية السلطة المتسارع بالنسبة لشارع جنوبي لم ترشح عن مكونات المشهد التقليدي الحاكم والمعارض، ردود فعل متفهمة إزاء مطالبه وخطورة العواقب المترتبة على إدارة الظهر لها..
أما الشمال فإن ترسانة القتل الجماعي الرسمية الناشطة في (صعدة) لم تكبح جماحها إلا على عتبة أقل من شهر على موعد الاستحقاق الانتخابي في أيلول 2006م، لتعاود مزاولة هوايتها المدمرة عقب هذا التاريخ بفترة وجيزة، لتكتمل فصول مسرحية الموت السداسية التي بدأت في 2004م بحرب هي الأخيرة، تالياً لآخر محطة من محطات ((لعبة الاقتراع))..
 سلب النضوج الشعبي الثوري المتنامي في الجنوب ونتائج الحروب الست في ((صعدة))، سلطة 1994م شرعية الاستمرار في إدارة الحكم بذات الذهنية والأدوات واللافتات الحزبية المحتكرة لضفتي المشهد السياسي، والتي ظلت تعيد ترميم وإنتاج شرعيتها عبر كواليس التسويات في الظل من صناديق الاقتراع وجماهير الناخبين، طيلة الفترة من 1997م حتى 2006م...
إثر ذلك بدت السنوات التالية من 2006م حتى 2011م، فترة من المراوحة، لجأت خلالها أحزاب الاقتراع إلى مواربة عجزها عن الذهاب إلى استحقاق 2008م البرلماني معاً أو فرادى، تلافياً لفقدان كامل الشرعية رسمياً على محك مشهد الحراك الجنوبي المشتعل، وبالتالي سقوط وحدة 7/7.. وفي الأثناء أدار طرفا المشهد السياسي الرسمي، الحاكم والمعارض، لعبة هي خليط من التهديد بمقاطعة الاستحقاق الانتخابي من قبل ((المشترك))، والتهديد المضاد من قبل المؤتمر بالذهاب إلى الاستحقاق بصورة فردية أو بالتنافس مع أحزاب أخرى غير ((المشترك))، ... وفي نهاية المطاف فقد كللت هذه اللعبة ، التي استهدف طرفاها تبديد وقت الشارع للبحث عن فرص محتملة للخلاص من أزمتهما، بالتمديد التوافقي.
حاول الطرفان ـ بالتوازي للعبة شد الحبل الآنفة ـ الاستثمار في خضم الحراك الجنوبي بالانضواء التكتيكي تحت مطالبه السياسية على أمل امتطاء صهوة قيادته وتجييره لصالح سجالاتهما.. 
وقد وظَّفَا ـ في هذا السياق ـ أوراقاً ووسائل شتى من بينها تغذية التناقضات المناطقية والجهوية في الصف الجنوبي - الجنوبي، شراء وتفريخ موالين في سدة قيادة الحراك، تعبئة وتجنيد ((أجنحة القاعدة المتعددة وأمرائها)).. في غضون ذلك كانت أذرع النفوذ البريطاني الأمريكي والسعودي كامتداد، حاضرة في قلب المشهد بأدواتها الجهوية التقليدية قديمة ومستحدثة ـ كما وبالوعود بتوفير أو عدم توفير غطاء لمطلب ((فك الارتباط)) وفقاً لما تقتضيه مصالحها.
لقد عزز موات المشهد الشعبي في الشمال ، من قدرة الوكلاء المحليين المسيطرين وقوى الهيمنة الإقليمية والدولية، على إحداث خروقات بليغة في طيف فعاليات الحراك الجنوبي، لا تزال قائمة إلى اليوم، ويجري توظيفها في اللحظة الراهنة لإعاقة انتفاع القوى الحية فيه من متغيرات ثورة أيلول 2014م.. وهيأ التعاطي السلبي والمواقف العدمية لقيادة الحزب الاشتراكي منذ 2005م تحديداً حيال تطورات الأحداث في الجنوب ، مناخاً ملائماً لنفاذ تلك الخروقات إلى مواقع حساسة في البناء الحراكي الوليد، وترجيح كفة قوى انتهازية قديمة وحديثة نهضت بأدوار رئيسة في خراب المشهد الجنوبي، على حساب طلائعه الثورية من يسار ووطنيين عركوا سيرورة الحراك الشعبي، في أحرج وأشد لحظات مخاضه خطورة وكلفة..
ولا ريب أن أحد أبرز المواقف العدمية لقيادة الاشتراكي على سبيل المثال الضغط على كوادره من ذوي المواقع القيادية في الأطر الحراكية لإنهاء ما وصفه الأمين العام للحزب بــ((حالة الازدواجية)) التي يتعين معها ـ وفقاً لمنظوره  ـ أن يختار الكادر أحد وضعين ويتخلى عن الآخر ، ليكون إما قيادياً في الحزب أو قيادياً في الحراك، لا الاثنين معاً.