الذكاء الاصطناعي والأدب
- نزار بريك هنيدي الأحد , 19 أكـتـوبـر , 2025 الساعة 1:08:33 AM
- 0 تعليقات
نزار بريك هنيدي / لا ميديا -
لا يمكن لنا أن ننظر إلى مسألة الذكاء الاصطناعي، وما يقدمه اليوم من إمكانيات ومزايا غير مسبوقة، إلا كما ننظر إلى أي إنجاز علمي أو اختراع مبتكر، تفتّقت عنه العبقرية البشرية عبر العصور جميعها. ذلك أن الحكم على أهمية أي إنجاز أو مخترع، لا يتعلّقُ بخصائصه وأوصافه وقدراته، بقدر ما يتعلق بطريقة استخدامه، وبالأهداف والغايات التي يعمل المستخدم على توظيفه في سبيلها. فاكتشاف عظيم استطاع أن يغيّر مسيرة التاريخ البشري برمّته، مثل اكتشاف النار، كان يمكن لأي امرئ أن لا يرى فيه أكثر من مجرد اكتشافٍ ضارٍ ومؤذٍ، إذا انطلق في حكمه من ملاحظة أن النار قد تستخدمُ لحرق الأشجار وإيذاء المخلوقات والإضرار بالطبيعة. ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الطاقة الذريّةِ، فهي ليست شرّاً بحدّ ذاتها، فقد استطاعت أن تقدّمَ الكثيرَ من الخدمات الجليلة للإنسان المعاصر في مختلف المجالات، إلا أنها تصبح شريرة عندما يستعملها الأشرار في صنع القنابل المدمرة.
وبناء على ذلك، علينا أن ننظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه إنجازاً حضارياً عبقرياً، يستطيع أن يقدّم الكثير إلى جميع العاملين في المجالات العلمية والتقنية والطبية والهندسية، بالإضافة إلى العاملين في مجالات العلوم الإنسانية، كالعلوم الاجتماعية والتاريخية والفلسفية والسياسية. وبالتأكيد، فإنه يمكن أن يكون عاملاً مساعداً للباحثين والدارسين في كل ما يتعلق بالفنون والآداب، لاسيما منهم من يعنى بالنظريات الجمالية والمدارس الإبداعية والمناهج النقدية، وبتاريخ الفنون والأجناس الأدبية وخصائصها وتقنيّاتها والتطورات الحادثة عليها.
إلا أن المشكلة التي تطرح نفسها بقوة هذه الأيام، بدأت مع تنامي قدرات الذكاء الاصطناعي، إلى الدرجة التي بات معها يبدو قادراً على قراءة النص الأدبي، وعرض أفكاره، وتحليل أسلوبه، ودراسة مقوّماته الفنية، وتحديد المذهب الإبداعي الذي ينتمي إليه، بل ومقارنته بغيره من النصوص التي تنتمي إلى المذهب الفني نفسه، أو تحمل الرؤى ذاتها. وبذلك يبدو الذكاء الاصطناعي وكأنه قادر على كتابة بحث أدبي متكامل، أو دراسة نقدية حقيقية. مما أوحى لعدد من الكتّاب بفكرة موت الناقد الأدبي، ومما خلق مشكلة للمسؤولين عن تحكيم الدراسات الأدبية، وتقرير مدى أصالتها وصلاحيتها للنشر في المجلات، أو للقبول في الدراسات الجامعية، بعد ملاحظة أن عدداً من المقالات أو الدراسات المقدمة للنشر أو التحكيم، ليست سوى استنساخ لما يقوله الذكاء الاصطناعي.
إلا أن المسألة التي يجب أن ننتبه إليها في هذا الشأن، هي أن هذه المقالات أو الدراسات التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، ليست في حقيقتها سوى مراجعة للدراسات التي كتبها الكتّاب والنقّاد في السابق عن الموضوع المطروح، ومقارنتها، واستخلاص المشترك فيما بينها. ومن ثمّ فهي لا تحمل أية قراءة جديدة، أو رأي متميز، أو موقف خاص. مما يعني أنها تفتقر إلى الأصالة التي لا يمكن لأي عمل أن يحقق جدارته دونها. مهما كان هذا العمل. تستوي في ذلك المقالة الصحفية والخاطرة المستعجلة، مع المقالة الأدبية والنقدية، مع الدراسات والرسائل الجامعية.
وهكذا، فإن المعيار الصارم الذي يجب أن يحتكم إليه محرّرو الصحف والمجلات، وأساتيذ الجامعات، والنقاد والباحثون على اختلاف مجالات عملهم، يتلخص، في رأيي، في البحث عن الأصالة في العمل المقدم للتحكيم، وإذا افتقدت هذه الأصالة، فلا قيمة البتة لأي عمل فكري أو بحث نقدي أو دراسة أدبية.
ومع ذلك، تبقى لدينا مشكلة الأجناس الإبداعية كالرواية والشعر. وقد قرأت أن هناك من روائيي العالم من صرّح بأنه يستخدم الذكاء الاصطناعي، كأداةٍ توفّرُ له معلومات أكثر دقة عن التفاصيل التاريخية للزمن الذي يفترضه لروايته، بما فيها تفاصيل البيئة والمناخ والعادات الاجتماعية وأنواع الثياب والطعام وما إلى ذلك، مما يحتاج إليه الروائي كي يضفي مزيداً من الواقعية على مشاهد روايته، لاسيمّا إذا كانت تنتمي إلى النوع التاريخي. بالإضافة إلى طلب مساعدة الذكاء الاصطناعي في رسم ملامح الشخصيات المفترضة، وتصوير مسارح الأحداث، وفي وضع مخططات الفصول والربط بينها. ولا شكّ في أن ذلك كله يمكن أن نعدّه مشروعاً بالنسبة للكاتب الروائي، لأنه لا ينتقص من عمله الإبداعي. ولا يختلف عما كان يقوم به الروائي سابقاً، في العودة إلى المصادر التاريخية، ومراجعة الوثائق، والاستعانة بالمحرّرين والمصحّحين اللغويين وما إلى ذلك.
أما بالنسبة للقصائد الشعرية، فقد لجأت إلى الذكاء الاصطناعي نفسه، وسألته عن طريقة كتابته لها، فأجابني أنه يجيد تقليد الشعر وإنتاج نصوص شعرية شبيهة بما يكتبه البشر، لأنه تدرّبَ على ملايين النصوص الشعرية، وفهم أساليب الشعر المختلفة. فهو يلاحظ كيف تبنى الأبيات وكيف يُستخدمُ الوزنُ والقافية، وكيف تُصاغ الصور الشعرية، وما المواضيع التي تتكرّر. وقال إنه يتعلّمُ من الشعراء، تماماً كما يتعلم الطفل من سماع القصائد، وهو يستخدم (نماذج التوليد التنبؤية) ليختار الكلمات ويبني الأبيات، مع الحرص على التناسق الداخلي، والصور، واللغة الشاعرية. وهو يعرف أن التشبيه والاستعارة مهمّان في الشعر، فيستعمل تراكيب مستخدمة في الشعر لأنه يعلم أنها جميلة. ويمكن له أن يراجع ما كتبه، ويقارن بين نسخ متعددة، ليختار الأجمل أو الأوضح أو الأكثر انسجاماً. وهكذا فإن الذكاء الاصطناعي لا يكتب الشعر لأنه شاعر، بل لأنه تعلّم شكل الشعر ولغته وقوانينه، ثم صار يستطيع إنتاج نصوص تشبه ما يكتبه الشعراء، لكن من دون تجربة حقيقية أو عمق شعوري، على حد التعبير الذي كتبه لي الذكاء الاصطناعي نفسه.
وفي ظنّي أن ما ينتجه الذكاء الاصطناعي من (قصائد)، يشبه ما كان يسمّى في تراثنا العربي (قصائد العلماء)، وهي القصائد التي كان ينظمها علماء اللغة ورواة الأشعار، مثل حمّاد الراوية وخلف الأحمر وابن مالك وغيرهم، فهم يعرفون الأسس التي يقوم عليها بناء القصيدة، لكنهم يفتقرون إلى الموهبة والتجربة الشخصية، مما يجعل نصوصهم مصطنعةً، خالية من الروح، بالرغم من اكتمال عناصرها البنيوية. لذلك كان أجدادنا يعدّونها (نظماً)، ولا ينسبونها إلى الشعر الحقيقي. تماماً مثل القصائد التقليدية التي يكتبها اليوم مدرّسو اللغة غير الموهوبين.
وأجزم أن أي متلقٍّ يمتلك الحدّ الأدنى من الحساسية والخبرة، قادرٌ ببساطة على إبعاد مثل هذه النصوص من مملكة الشعر.
وأخيراً، يمكن لي أن أستخلص مما تقدّمَ كله، أنني لا أخشى من هؤلاء الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي، مهما كانت أغراضهم وأساليبهم، بقدر ما أخشى من عدم أهليّة القائمين على وسائل النشر، والمشرفين على الأبحاث والدراسات والرسائل، في الجامعات وفي غيرها من المؤسسات المعنيّة بالفكر والإبداع. لأن عدم قدرة هؤلاء على تمييز البحث الأصيل من الهجين، أو النصّ الإبداعي الحقيقي من المصطنع، هو ما يهدّدُ حياتنا الثقافية اليوم، أكثر من أي شيءٍ آخر.
شاعر وكاتب سوري
المصدر نزار بريك هنيدي
زيارة جميع مقالات: نزار بريك هنيدي