علي عطروس / «لا» 21 السياسي -
انطلقت شرارة الصراع العربي مع الصهاينة في البحر الأحمر منذ أن قام الكيان الصهيوني في آذار/ مارس 1949 باحتلال بلدة «أم الرشراش» الساحلية على خليج العقبة، وأسس على أنقاضها ميناء «إيلات» في العام 1952 لتأمين منفذ له إلى أفريقيا والشرق الأقصى.
كان أن فرضت السلطات المصرية «حظر مرور السفن الصهيونية والسفن التي تحمل شحنات استراتيجية إلى الكيان الصهيوني عبر مضائق تيران وخليج العقبة»(1) بعد اتفاق القاهرة والرياض «على وضع جزيرتي تيران وصنافير السعوديتين تحت السيطرة العسكرية المصرية العام 1950»(2). وقد ردّ الكيان الصهيوني على إجراءات الحظر المصرية «بالاشتراك مع بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي العام 1956»(3)، وحقّق بعد هذا العدوان «هدف عملياته الخاص في السيطرة على مضيق تيران»(4)، كما هاجم مصر وسورية في الخامس من حزيران/ يونيو 1967، واحتل سيناء وشرم الشيخ وجزيرتي تيران وصنافير لفتح مضائق تيران وفك الحصار عن «إيلات».
وقد أثارت جمهوريتا اليمن، الشمالية والجنوبية (سابقاً)، في أوائل سبعينيات القرن العشرين، الأخطار الناجمة عن نشاطات الكيان الصهيوني في جزيرتي «أبو الطير» و»حالب»، و»استخدام جزيرة دهلك قاعدة عسكرية صهيونية»(5)، وأطلقتا دعوة إلى «إنشاء قيادة بحرية عربية لمواجهة تغلغل الكيان الصهيوني في البحر الأحمر، بوصفه جبهة مهمة وخطيرة في الصراع العربي مع الكيان الصهيوني»(6).
أمّا في أيلول/ سبتمبر 1973، فقد دعت الجامعة العربية، في قرار لها، إلى «ترتيب انعقاد مؤتمر لأقطار البحر الأحمر العربية يتيح لها التوصل إلى مواقف مشتركة في شأن التعاون والتنسيق في هذا الصدد»(7). وفي حرب 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973، كان البحر الأحمر أحد عناصر خطة فرض الحصار على الكيان الصهيوني، فقد «بدأ حصار غير معلن على مضيق باب المندب منذ الأسبوع الثاني للحرب»(8)، حين أغلقت مصر بالتنسيق مع اليمنيين هذا الممر الحيوي، كما أعادت قوة من اليمن الشمالي السيطرة على بعض جزر البحر الأحمر لمنع الكيان الصهيوني من استخدامها لفك الحصار. واللافت في دروس حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، أن احتلال الكيان الصهيوني لمضائق تيران لم يؤمّن له حرية الملاحة وسلامة المرور باتجاه أفريقيا والشرق الأقصى، فقد أعطى إغلاق باب المندب النتيجة عينها لناحية إحكام الحصار البحري على الكيان الصهيوني. وقد أفادت الدول العربية من ذلك، فقامت العام 1974، بعد فك الحصار البحري عن الكيان الصهيوني «بوضع جزيرة بريم تحت القيادة المصرية، باتفاق تدفع بموجبه السعودية 10 ملايين دولار سنوياً لجمهورية اليمن الديمقراطية»(9).
وفي العام 1977 تكثَّف الوجود السوفييتي والأمريكي والكوبي في مياه البحر الأحمر، وترافق ذلك مع ازدياد النشاطات الصهيونية على الساحvcqwل الإثيوبي، وهذا ما استدعى تحرّكاً عربياً لمواجهة هذا الموقف المتوتر. وقد تكللت هذه الجهود بانعقاد «قمة تعز» في اليمن الشمالي (آذار/ مارس 1977) التي دعت إلى «إبعاد الصراعات الدولية عن هذه المنطقة، وضرورة الحفاظ على البحر الأحمر كمنطقة سلم، وعلى استغلال ثروات البحر الأحمر لخير شعوب المنطقة»(10).
بالإضافة إلى جهود أخرى نسفتها عمليات اغتيال الرئيس اليمني الشمالي إبراهيم الحمدي، ومن بعده الرئيس اليمني الجنوبي سالم رُبَيِّع علي (سالمين)، وزيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى الكيان الصهيوني وتوقيع اتفاقية «كامب ديفيد» الاستسلامية مع الكيان الصهيوني في آذار/ مارس 1978 بالإضافة إلى اتفاقيات الاستسلام: «وادي عربة»، «أوسلو»، و«الإبراهيميات».
وبالمقابل، كان للكيان الصهيوني مصالح استراتيجية وعسكرية وإقتصادية تُبَرر سياسته التوسعية في البحر الأحمر، بدأت بالظهور مع اتجاهه إلى الاهتمام بمنطقة النقب المشرفة على خليج العقبة، ثم الانطلاق منها إلى الخارج من ميناء «إيلات». وقد عبَّر موشي ديان عن ذلك في العام 1955 باعتباره «إيلات بوابة لآسيا وأفريقيا»(11).
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1956 شنّ الكيان الصهيوني وبريطانيا وفرنسا العدوان الثلاثي على مصر، واحتلوا سيناء، وبذلك أزال الكيان الصهيوني قيود الحظر التي فرضتها مصر آنذاك على حركة مرور سفنه في مضائق تيران. فتحقّق له «حرية المرور في خليج العقبة»(12).
وفي آذار/ مارس 1957 تمركزت قوات الطوارئ الدولية في شرم الشيخ لضمان ذلك.
ومنذ العام 1957، ازدادت أهمية البحر الأحمر، بالنسبة إلى الكيان الصهيوني، وتوسّعت علاقاته السياسية والعسكرية والاقتصادية مع الدول الأفريقية والآسيوية، ولاسيما إثيوبيا وجنوب أفريقيا، كما أقام علاقات «تجارية وبريدية وسياحية مع جنوب اليمن»(13)، الذي كان ما يزال تحت الانتداب البريطاني. وفي العام 1967 أبدى القادة الصهاينة مخاوفهم على مصالحهم في عدن، ورأوا في احتمال سيطرة مصر على اليمن الجنوبي بعد استقلاله ونفوذها في باب المندب «تهديداً للملاحة الصهيونية في البحر الأحمر وتجارتها مع شرق أفريقيا والشرق الأقصى»(14).
وحتى العام 1979، كان البحر الأحمر طريقاً لناقلات النفط التي تنقل حاجات الكيان الصهيوني من هذه السلعة الرئيسة من إيران الشاة إلى ميناء «إيلات»، ولذلك اعتبر الحصار الذي فرضته عليه مصر بإغلاق مضائق تيران في العام 1967 عملاً يهدّد وجوده، فكان هذا التدبير المصري سبباً رئيساً في اندلاع الحرب العربية الصهيونية العام 1967.
وبعد انتصارها في حزيران/ يونيو1967، سعى الكيان الصهيوني إلى زيادة قدراته البحرية «بزيادة عدد زوارقه والحصول على غواصات من بريطانيا، وتطوير وحدات الضفادع البشرية، وتزويد بحريته بطائرات الاستطلاع»(15).
وفي العام 1971 تدخّلت قوارب صهيونية من مركزها في جزيرة «حالب» الإثيوبية لرد هجوم زورق حربي أطلق النار في باب المندب على ناقلة النفط «لورال سي» (Loral Sea)، التي ترفع العلم الليبيري، كان قد استأجرها الكيان الصهيوني الذي استثمر الحادثة لتكثيف نشاطه في البحر الأحمر، فعرض على إثيوبيا «تركيب محطات للرادار وقوارب خفر السواحل يديرها الإسرائيليون»(16).
وبعد الحصار الناجح الذي فرضته الدول العربية العام 1973 بإقفال باب المندب، وسَّع الكيان الصهيوني وجوده في البحر الأحمر، فطال جزر «حالب ودهلك وحنيش الكبرى والصغرى وزقر»(17).
إلا أن وجوده تقلص بعد أن قطعت إثيوبيا علاقتها به في العام 1973. ولكن الحرارة عادت إلى هذه العلاقات بعد أن ساند الكيان الصهيوني نظام إثيوبيا الماركسي في العام 1977 وحذّره من «انفصال إريتريا بحجة أنه سيجعل البحر الأحمر بحيرة عربية»(18).
ثم تدهورت العلاقات في العام 1978، وحاول الكيان الصهيوني بعد ذلك احتلال جزيرة بريم الاستراتيجية للسيطرة على باب المندب، لكنه واجه ردة فعل مصرية فورية كانت ترجمتها «إرسال مدمّرات إلى منطقة بريم لمواجهة أيّ حالة طارئة»(19).
وفي العام 1977، أدّى انقطاع النفط الإيراني عن الكيان الصهيوني بتهديد الثورة الإسلامية في إيران وتوقيع معاهدة السلام التي عقدتها مع مصر، إلى تعديل سياسة الكيان الصهيوني في البحر الأحمر بعد أن حصل على حرية الملاحة في خليج العقبة وقناة السويس. لكن إقفال باب المندب في وجه هذه الملاحة بقي هاجساً لديه كلما برزت دلائل حرب مع العرب.
إذ إن باب المندب يشكّل منفذاً للسفن المبحرة في البحر الأحمر باتجاه الشرق. وقد وقع هذا الباب الحيوي تحت السيطرة العربية منذ أن استقلّت محمية عدن البريطانية في العام 1967، وجيبوتي في العام 1977، فأصبح المدخل الجنوبي المؤدي إلى خليج العقبة وقناة السويس خاضعاً في حينه لسلطة كل من جمهورية اليمن الديمقراطية، والجمهورية العربية اليمنية وجيبوتي، بينما يسيطر الصومال على قسم لا بأس به من سواحله. أمّا الكيان الصهيوني فقد وجد نفسه معنياً بحركة الملاحة فيه رغم بُعده عنه.
ويبدو أن هذا المحيط الإقليمي المتنوع أبقى باب المندب في أجواء التوتر واحتمالات الصراع بسبب حال العداء التي كانت سابقاً بين الدول العربية والكيان الصهيوني، وكذلك بينه وبين إثيوبيا؛ ولكن باستثناء استخدام باب المندب من قبل العرب في عملية الحصار ضد الكيان الصهيوني في العام 1973، كانت الدول المحيطة بهذا الممر الحيوي تجد مصلحتها في تخفيف احتمالات الصراع في محيطه، ربما «لاعتبارات اقتصادية، وللملاحة الدولية، باعتبار أن موانئها في عدن والحديدة وجيبوتي وعصب ومصوع تجني منافع هائلة من حركة مرور السفن»(20).
وكان باب المندب قد خضع لمحاولات التدويل في عدة مناسبات، حيث فشلت بريطانيا قبيل انسحابها من محمية عدن في أن تضع جزيرة بريم التي تقفل البحر الأحمر تحت الحماية الدولية العام 1967. كما فشلت محاولة مماثلة لتدويل بريم جرت في العام 1971 بعد هجوم فلسطينيين على ناقلة نفط متجهة إلى ميناء «إيلات»، وكانت بريم قد اختارت أن تكون تحت سيادة جمهورية اليمن الديمقراطية بعد أن نالت استقلالها في العام 1967. إلاّ أن فكرة تدويل باب المندب طُرحت مجدداً بعد نجاح مصر وجمهورية اليمن الديمقراطية في فرض حصار على المضايق خلال حرب تشرين الثاني/ نوفمبر 1973 ضد السفن المتجهة إلى مرفأ «إيلات» والعائدة منه(21).
فسعى الكيان الصهيوني إلى تعزيز وجوده في البحر الأحمر، فاحتل سيناء (1956 و1967). ولكن ثمّة عوامل مستجدة دعته إلى تغيير استراتيجيته هناك، منها خروج بريطانيا من البحر الأحمر (1967)، وحادثة ناقلة النفط (1971)، وإغلاق باب المندب (1973)، وهذا ما جعله يُضَمِّن اتفاق فصل القوات الموقع مع مصر (1974) «بنداً سرياً تضمّن تعهّد مصر برفع الحصار الذي فرضته ضد الملاحة الإسرائيلية في باب المندب خلال حرب تشرين الثاني/ نوفمبر1973»(22).
كان قيام جمهورية جنوب اليمن الشعبية في عدن في الثلاثين من تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، أي بعد أقل من نصف عام من حرب حزيران، فضلاً عن الوضع المصري في اليمن الشمالي، قد وفر للعرب عمقاً استراتيجياً بالغ الأهمية، وأتاح للبحرية العربية فرصة التعرض للملاحة الصهيونية في عمق البحر الأحمر من قواعد بعيدة عن مدى الطيران الحربي الصهيوني والقيام في باب المندب بالدور الذي كانت تقوم به في شرم الشيخ، وهو منع الملاحة الصهيونية من النفاذ إلى البحر الأحمر.
بدأت بوادر الخطر على الملاحة الصهيونية من ناحية باب المندب في 11 حزيران/ يونيو 1971 في مهاجمة ناقلة نفط ترفع علم ليبيريا، أثناء عبورها مضيق باب المندب قرب جزيرة بريم، ارتفعت النيران في الناقلة، ولكن ربانها اليوناني تمكن وبحارته الذين بلغ عددهم 35، منهم 23 من الصهاينة، نجحوا في إطفاء النيران. كان يقف وراء العملية فدائيو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلا أن الحكومة الصهيونية حمّلت حكومة اليمن الديمقراطية مسؤولية العملية، لاسيما أن الأخيرة سبق لها أن أعلنت -عقب الاستقلال- أنها ستحكم سيطرتها على مضيق باب المندب من جزيرة بريم، ولن تسمح للكيان المؤقت بالملاحة في المضيق»(23).
وكان أن زاد انتباه الكيان الصهيوني لليمن جيوستراتيجياً، فسعى من خلف صهاينة الغرب والشرق إلى تقسيم اليمن بين شمال وجنوب وتأجيج الصراع بينهما، وهو أيضاً ما كان يمثل حينها صورة لتنافس القوى العظمى للسيطرة على باب المندب والهيمنة على البحر الأحمر، فقد أدى تدخل الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في اليمن إلى «تعقيد الصراع وقيام حرب الحدود بينهما بين عامي 1972 و1979»(24).
والواقع أن الاتحاد السوفييتي دخل إلى اليمن الجنوبي من باب نظامه الاشتراكي الملتزم سياسته في البحر الأحمر، و»في إبان النزاع الصومالي-الإثيوبي في أوغادين (1978)، قدّم قادة اليمن الجنوبي كل دعم لإثيوبيا الماركسية، كما وقّعوا اتفاقية صداقة وتعاون مع السوفييت لمدة عشرين عاماً»(25).
بالمقابل كان اليمن الشمالي يشهد حرباً جمهورية ملكية طويلة (1962-1969) كانت بطبيعتها وشكلها حرباً عربية - عربية بين السعودية ومصر، فقد ساندت المملكة الإمام البدر «وأرسلت فور الإطاحة جزءاً من قواتها إلى حدود اليمن، وساند الأردن أيضاً الإمام في مستهل الأمر محاولاً إيقاف التيار الناصري عند حدود معينة، وأرسل وفداً عسكرياً للاتصال بعمه، وأعقب ذلك إصدار إعلان أردني - سعودي حول اليمن»(26).
وبالمقابل ساندت مصر النظام الجمهوري الحاكم في اليمن الشمالي وقدمت له دعماً عسكرياً مباشراً، حتى «وصل عدد القوات المصرية إلى أكثر من 80 ألف جندي»(27).
وبعد هزيمة حزيران/ يونيو العام 1967 انسحبت القوات المصرية من اليمن الشمالي واستقر الحكم الجمهوري في اليمن الشمالي. وفي العام 1972 نجحت الجهود العربية في عقد اتفاق بين عدن وصنعاء تم توقيعه في طرابلس الغرب لإقامة الجمهورية العربية اليمنية الواحدة، لكنه بقي حبراً على ورق.
ومع اندلاع حرب اليمنيين في شباط/ فبراير 1979، تلقى اليمن الشمالي مساعدات عسكرية ضخمة من الولايات المتحدة، كما تلقى دعماً عربياً من السعودية والأردن الذي أرسل «مستشارين عسكريين لتدريب جنود اليمن الشمالي على استخدام الأسلحة الأمريكية»(28)، فيما أرسلت إثيوبيا إلى اليمن الجنوبي «طيارين شاركوا في القتال»(29).
وقد توقّف صراع اليمنيين في آذار/ مارس 1979 نتيجة جهود كبيرة بذلتها جامعة الدول العربية، وواكبها صدور بيانين، الأول صدر عن اليمن الشمالي يَتَّهِم «الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بمحاولة تحويل شطري اليمن ساحة لصراع القوتين الأعظم، وبيانٌ ثانٍ مماثل صدر عن اليمن الجنوبي اتهم فيه الولايات المتحدة بالذات بتبني سياسة عدوانية تجاه شبه الجزيرة العربية وبتصعيد الصراع اليمني»(30).
أتى إعلان إعادة الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990 مبشراً بعودة الدور الوطني والقومي والإسلامي والإنساني لليمن؛ إلا أن ذلك لم يحدث لغياب قرار السيادة عن حكام صنعاء حينها ولرضوخهم للوصاية السعودية الأمريكية الصهيونية والتي نسفتها إلى الأبد ثورة 21 إيلول/ سبتمبر 2014، التي تمكن ثوارها من مواجهة الحرب الكونية على اليمن (2015 - 2023) والنصر فيها بل والانتصار لقضية البشرية الأولى: فلسطين، بإعلان الانتصار لأهل غزة والحرب على الكيان الصهيوني جواً وبحراً وحصاره في البحر الأحمر، وهذا ما سنفصله بإذن الله في الجزء الرابع والأخير من هذه السلسلة.