«لا» 21 السياسي -
من أبرز التحدّيات التي ستحبَل بها مرحلة ما بعد الحرب كيفية تنظيم «سوق الحرب» الهائلة هذه، على نحوٍ ضمينٍ لحفظ الإنسان أوّلاً ودائماً بوصفه «أعظم المشاريع»، وفق ما يوصي به الشاعر والمؤرّخ اليمني عبدالله البردوني، في كتابه «اليمن الجمهوري». تنظيمٌ مفترَض تنضمّ إليه، أيضاً، مهمّة إعادة إدماج التشكيلات العسكرية التي «باضت» في اليمن و«فرّخت» خلال سنوات الحرب الثماني، في هيكل وحدوي جامع كفيلٍ بصهر الخلافات وترويض الاتّجاهات الهويّاتية وتذويب عوامل التنافر، وهو ما يتطلّب أوّلاً وأساساً تسوية سياسية شاملة، وتفاهماً عريضاً يبدأ من هويّة الدولة وشكل نظامها السياسي والإداري، ولا ينتهي بكيفية تحقيق المصالحة الوطنية وإنفاذ العدالة الانتقالية.
على أن تفاهماً كهذا لا يبدو قابلاً للتولّد بسهولة، في ظلّ عمْق الانقسامات التي جرى الاشتغال على تضخميها وتجذيرها بعناية حتى باتت أكبر من أن تُحصَر وإذا كان مطلوباً من كلّ طرف من أطراف هذا الانشطار أن يراجع حساباته ويتخلّى عن أنانيّاته، على أن المفترَض بـ»أنصار الله»، أيضاً، بوصْفهم اليوم الطرف الأقوى في «يمن ما بعد الحرب»، أن يعملوا هم أيضا على إسكات مخاوف «شركائهم» المستقبليين، وأن يعيدوا صياغة طرْحهم الوطني بما لا يجبّ سرديّتهم الأولى للمعضلة اليمنية وكيفية تفكيكها، والتي أبرزَها قياديّون ألمعيون من صفوفها (على رأسهم الراحل عبدالكريم الخيواني) بحذاقة، أيّام انعقاد «مؤتمر الحوار الوطني الشامل»، قبل أن تأتي الحرب وتتسبّب بالضخّ الإعلامي الخليجي الطائفي الذي رافقها، في التعتيم على تلك السردية، وتعويم أخرى عنوانها اتّهام الحركة ككلّ بكونها مشروعاً سُلالياً عنصرياً مذهبياً غرضه إحياء الإمامة أو الملَكية في اليمن.
باختصار: على حركة «أنصار الله» ألّا تنقلب في لحظة الانتصار على ما كانت تطالب به في لحظة الاستضعاف، وألّا تركن إلى مقاربات من شأنها إلغاء المستقبل أو تعقيده في الحدّ الأدنى، وألّا تتوهّم إمكانية إحراق المراحل التاريخية اعتماداً على القوّة حصراً، بل وأن تسعى، عوضاً عن ذلك، إلى إنتاج صِيغ تعايش وتعاون تأخذ بشروط المرحلة، وتتّسق واعتبارات المكان.
وفي سياق «إعادة الصياغة» تلك أيضاً، تَبرز ضرورة إجراء مراجعة لبعض الشعارات، التي، فضلاً عمّا تحمله من نفَس كراهية تَصعب عقلنته، فهي لا تفيد «أنصار الله» في سياق سعيها للتقولب سياسياً على المستويَين المحلّي والخارجي. والحديث هنا يدور تحديداً عن جانب من شعار «الصرخة»، الذي رغم كونه «واضحا ولا غموض فيه» على اعتبار أن «أمريكا حاضرة في كلّ مكان، ولو لم تكن حاضرة في بلادنا لما شنّت علينا هذه الحروب»، وبالتالي فـ«الشعار هو أقلّ ما يمكن فعله في مواجهة الحملة الأمريكية»، وفق ما تُدافع به الحركة، إلّا أن اشتماله عبارة «اللعنة على اليهود»، والتي تفسّرها «أنصار الله» بأن المقصود بها «الظالمون من اليهود؛ أي: المستعمِرون والمحتلّون والمهيمنون على مقدّراتنا»، يَجدر به أن يكون محلّ تدقيق وتقويم، شأنه شأن جوانب أخرى من خطاب الحركة وطريقتها في الحوكمة والتعاطي مع شؤون السكّان (خصوصاً النساء منهم) وإدارة خصوصياتهم وحساسياتهم، من دون أن يعني هذا دعوة إلى التشكّل على هوى ما يريده «الآخرون»، أو تجاهُلِ الأرضيّة الإنسانية المحلّية، والتي يختصرها الشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي بتلر ييتس، بـ«ما في دكّان القلب من خِرَق وخردوات».
وإذ لا يَصلح، في إطار اتّقاء ذلك التجاهل، غضّ الطرف عمّا تمثّله القبائل من وزن ديموغرافي وثقل رمزي وحيثية معنوية، وحتى ما تكتنزه من قِيم وأنظمة تبدو قابلة للاستثمار الإيجابي في مرحلة التصالح، فإن من الأوّليّات المحسومة أيضاً أهمّية عدم الإيغال في سياسة الامتيازات، والإغراق في تحصيص المناصب والعطايا والموازنات ما بين المشائخ والوجاهات، والسعي بدلاً ممّا تَقدّم إلى إدغام هؤلاء في إطار عملية شاملة تستهدف إعادة تأليف الأُدلوجة الوطنية التي بَقِيت على مدى عقود مهلهَلة تماماً.
تلك، إذن، هي بعض عناوين المرحلة المقبلة على اليمن، والتي رغم صعوباتها وهمومها وهواجسها تظلّ تعبيراً عن مجتمع حقيقي، لا تتحكّم به اهتمامات محزومة أو أهداف معلَّبة، وهو ما سيضمن له البقاء والنماء ولو بعد حين.


جزء من مادة مطولة كتبتها دعاء سويدان في «الأخبار» اللبنانية.