علي نعمان المقطري / لا ميديا -
لكل تلك الحقائق الواضحة التي أوضحناها تفصيلا في سلسلة المقالات الأخيرة المنشورة في صحيفتنا الغراء، فقد وصلت قيادة العدوان إلى حالة من الانهيار الاستراتيجي والفكري والمعنوي والحربي بمعنى أنها تيقنت أنها خسرت الحرب العدوانية المباشرة ضد الجيش اليمني والشعب االيمني ولم تعد قادرة على إحداث أي اختراقات، وعندما تصل أي قيادة كانت إلى هذا الشعور اليقيني الواضح المدعوم بالوثائق والحقائق والتجارب الطويلة الميدانية تكون قد أضحت فعليا مهزومة استراتيجيا ولو كانت مازالت لديها بعض النفوذ والقوة على الأرض، ولكنها قد فقدت أكثر من نصف قواتها على الأرض ولم يعد لديها القدرة على حشد نفس القوى القديمة التي كانت لديها بداية الحرب والعدوان، كما لا تملك نفس الاحتياطات المالية السابقة والإمكانيات البشرية والعديد والعتاد والمساحات والمواقع التي كانت.
وهي توقن في قرارة نفسها أنها تحاول عبثا بعد الآن ما حاولته طول ثمان سنوات، وكل يوم يضاف تصبح أبعد من اليوم السابق عما حاولته حتى تصل في بضعة أشهر أو سنوات محدودة قصيرة إلى هاوية سحيقة وتفقد كل شيء بمعنى الكلمة الحرفي، وهذا المصير لا يتقبله كل قائد سياسي وحربي واستراتيجي، ويصبح أمامه خيار واحد إجباري هو الانتقال إلى المناورة السياسية والمساومات والتسويات في محاولة أخيرة للتوصل إلى ما يمكن إنقاذه من المشروع الهالك ككل، ولم يعد ممكنا الحصول عليه ككل، لكن يمكن المحاولة في تحصيل جز ء منه فقط، الجزء الذي مايزال تحت سيطرته ولم يصل إليه اليمنيون الأحرار بعد، لكنهم في طريقهم إليه لا مفر.
وهذا هو لب الحسابات الاستراتيجية الحالية للعدوان، ومنذ بداية الهدنة الأولى في ستوكهولم نهاية عام 2018 وما بعدها من هدن ومناورات سياسية حتى العام 2022، والتي طالت لأكثر من ستة شهور خلال 3 هدن متوالية تجددت كل شهرين حتى وصلت أخيراً إلى أفق مسدود يصعب تجديدها بدون تقديم التنازلات المطلوبة للشعب اليمني، وهي الشروط والمطالب الإنسانية والشعبية المعلن عنها من قبل قيادة الثورة والدولة والحكومة والقوات المسلحة وصارت معروفة ومحفوظة جيدا في ثقافة الشعب اليمني المقاوم، وبالتالي فقد خسرت استراتيجيا وتكتيكيا وسياسيا، وأن عليها أن تراجع استراتيجيتها وتكتيكها من جديد، وأن تصل إلى سياسة موضوعية جديدة تتطابق مع أهدافها وقدراتها في الوضع الراهن الجديد وتقرر هل تواصل الحرب الشاملة أم تخرج من الحرب العدوانية وتحول الحرب من حرب شاملة مباشرة إلى حرب بين الإخوة أهلية وشطرية ومناطقية وقبلية ومذهبية وطائفية، والتحول إلى الحرب بالوكالة المعدلة عن النسخة الأصلية السابقة الشاملة المباشرة إلى حرب لا تكلفها كثيرا وتحقق الأهداف المرجوة لدول العدوان والمتمثلة بالتقسيم والانفصال والتشظي لليمن والاحتراب الداخلي طريقا جديدا لمواصلة الأهداف الاستعمارية بأساليب جديدة.
إذن، فإن العدوان وقيادته يمرون بهذه المرحلة العصيبة والطور الحاسم من الانهيار والتراجع الاستراتيجي، وهم الآن يحاولون سلوك طريق جديد لتحقيق الأهداف الأساسية بما يتناسب والقدرات الراهنة التي تراجعت كثيرا قوة وعتادا وقدرات وإرادة وآفاقا، وهذه الأهداف يجب أن تحققها بطريقة استراتيجية جديدة مختلفة عن الوضع الذي أدى بها إلى الهزائم طوال الثمان سنوات الماضية.
وهكذا عادت إلى الأساليب القديمة تحاول إعادة تجريبها والاعتماد عليها وفقا للنموذج الأمريكي الاستراتيجي القائم على الحروب الهجينة غير المباشرة، أي الحرب المختلطة والهجينة والوكيلية بالاعتماد على الوكلاء المحليين والإقليميين، وهذه هي أكثر النماذج مواءمة ومناسبة التي تريد أن تعتمد عليها السعودية للعدوان وأسيادها وحلفاؤها وأتباعها.

فشل الحرب الشاملة المباشرة
مضت مراحل الحروب الشاملة ضد البلاد والشعوب الحرة المقاومة للظلم الأجنبي والداخلي بعد أن هزمت حروب الولايات المتحدة الأمريكية في العالم كله خلال القرنين الماضي والحالي، وانتقلت حروب الشعب الثورية الطويلة الأمد الظافرة إلى مرحلة جديدة افتتحتها المقاومة الثورية الإسلامية الحسينية الوطنية اللبنانية والإيرانية والعراقية والأفغانية الجديدة والجهادية الفلسطينية والسورية والكوبية الفنزويلية والثورية الإسلامية الحسينية اليمنية المتصاعدة، والتي جعلت أساليب الحرب العدوانية القديمة والكلاسيكية المكلفة الشاملة الواسعة الثقيلة أمرا مستحيلا الاستمرار فيها أو تحقيق أي نجاحات في مواجهة القوى الشعبية الثورية خفيفة التسليح والحركة صاحبة الأرض والقضية والإرادة الحرة والإيمان وتأييد الشعب واسعة الانتشار الجماهيري والجغرافي والاستراتيجي وتحظى بتأييد الشعب المظلوم مهما طالت المواجهات واستمرت لعقود أو لقرون فالنتيجة هي أن يكسب الشعب الثوري الحرب وسيحطم أعداءه حتما ولا راد لقضاء الله وقدره، ولذلك يمر العدوان حاليا بمرحلة بحث عن استراتيجيات جديدة لمواصلة الحرب ضد اليمن.

رهانات العدوان ومخططاته القادمة ليمننة الحرب العدوانية
الحرب في أبسط صورها وتعاريفها هي التقاتل الجماعي للبشر من أجل مصالح العيش والحياة والعزة والكرامة، إنها الأسلوب الوحيد بعد أن تفشل أساليب السلام والوئام في إقناع الطرف المتعنت عن الخلود للسلم العادل فلا يبقى أمام الجميع سوى الاحتكام إلى القوة والسلاح حتى يتحقق هدف الحرب، أي إجبار الأطراف على القبول بالتعايش وفقا لإرادة الغالب المعقولة وحكمته الرحيمة.
وعندما يعجز الطرف المعتدي عن إجبار الآخر الوطني صاحب الأرض فليس أمامه تكتيكيا سوى البحث عن الهدنة والمساومة معه لاقتسام ما يمكن اقتسامه مما بقي تحت يده، أما ما هو محرر فقد حرر ولا يمكن إدخاله في الصفقة المقترحة، وهذه هي اللحظة التي يحياها العدوان الآن وقيادته ويفكرون وفقا للمنطق ذاته، وكلما اتسع نفوذ حكومة الثورة وسيطرتها على الأرض تراجعت مساحات العدوان المؤمل للحصول عليها، وهو في وضع الخاسر استراتيجيا رغم بقاء بعض الأقاليم وهو يلوح باستعداده لتسليمها مقابل بقائه في أقاليم أخرى في الجنوب والشرق النفطي.
ونعيد التأكيد أن العدوان لا يريد سلاما حقيقيا دائما وكاملا ومعقولا ومقبولا شعبيا ووطنيا وإنسانيا وعدلا وقائما على الحقوق المتوازنه للأمة فلماذا إذن ما نسمعه ونراه من هدن ومساومات وزيارات مكوكية لا تنقطع للحوار؟
إن العدو يحتاج أولاً إلى الزمن والوقت والهدوء ولتبريد الجبهات والتوقف عن مواصلة الفتح الوطني التحرري، وينتظر تغيير الظروف الراهنة إلى ظروف تكون لصالحه كما كانت أيام ترامب مثلاً وبداية العدوان فهو ينتظر بشير ترامب في البيت الأبيض لولاية قادمة.
ومؤخراً نشرت الصحافة الأمريكية خبرا مفاده أن ابن سلمان وروسيا قد عقدوا اتفاقا على دعم المرشح الجمهوري ترامب للعودة إلى البيت الأبيض في الانتخابات القادمة في نوفمبر القادم إلى الكونجرس الأمريكي وبعد عامين في انتخابات الرئاسة الأمريكية من الآن والمؤشرات كلها تؤكد سقوط الرئيس العجوز جو بايدن الذي وصل إلى مرحلة خطيرة من الترهل العقلي والذهني والنسيان وفقدان الإرادة والعقل والذاكرة والإحساس بالعالم والديمقراطيون ليس لهم مرشح قوي إلى الآن يقدر على الإطاحة بترامب وحزبه الجمهوري الذي يستعد لحصد أغلبية مجلس الكونجرس بعد أسابيع من الآن، كما أن نائبته امرأة عديمة الخبرة في السياسة والإدارة والاستراتيجية والصراعات الدولية مما يرفع من نسبة التفاؤل وتراجع نسبة تأييد بايدن بين الأمريكيين، حسب الاستطلاعات حول اتجاهات الرأي العام الأمريكي التي تجريها مراكز البحث الاستراتيجية الحصيفة، بينما تشير إلى تقدم وارتفاع نسبة تأييد ترامب والجمهوريين بشكل عام.
وقد أشرنا إلى أن نزاع طرفي العدوان يجعل الاتفاق على قرارات الحرب والسلم شاقا على السعودية وأمريكا التي لها أولويات أخرى الآن في تايوان وأوكرانيا وغيرها، وكل طرف يريد استخدام الحرب في اليمن لصالح أهدافه الخاصة المتعارضة سياسيا مع الآخر ولو جزئيا.

تناقلت وكالات الأنباء والبحث، مؤخراً، أخبارا عن اجتماع "فيينا" لمنظمة "أوبك+" للنفط التي تسيطر على القسم الأكبر من أسواق النفط وإنتاجه وتصديره في ظل أزمة طاقة ووقود أوروبية حادة جدا مع فرض العقوبات الأمريكية والمنع من استيراد النفط والغاز الروسيين، حيث إن ألمانيا تعرضت لأكبر الضرر في اقتصادها وصناعتها، إذ إن الغاز الأمريكي البديل يباع لها بعشرة أضعاف السعر الروسي للغاز والنفط، ويؤدي هذا إلى ركود حاد وتوقف مصانع ومؤسسات كثيرة عن الإنتاج والعمل وتحول قسم كبير من العمال الألمان إلى البطالة والمؤسسات إلى الإفلاس ومواجهة تضخم وأزمات عديدة والتي دفعت أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية السابقة إلى التصريح بالمطالبة بضرورة إجراء تسوية مع روسيا والتوقف عن التورط في الحرب ضدها.
كما اندلعت الكثير من المظاهرات في بريطانيا وإيطاليا وفرنسا كلها تعارض سياسة الحرب ضد روسيا، بل إن الرئيس الفرنسي ماكرون أعلن أن أمريكا تبيع لنا النفط والغاز البديل بعشرة أضعاف ما كانت تبيعه روسيا قبل الأزمة الأخيرة.
وأخيراً، فإن الاجتماع الأخير لـ"أوبك+" قد أعلن عن تخفيض إنتاج النفط إلى مليوني برميل يوميا من الآن وصاعدا، وهو ما يعني الوقوف ضد المصالح الأمريكية الأوروبية التي طالبت عبر بايدن بأن تواصل السعودية زيادة الإنتاج وإغراق الأسواق لخفض الأسعار وتخريب الاقتصاد الروسي لإضعاف المجهود الحريي ورفع مستوى الإنتاج السعودي إلى 13 مليون برميل يوميا بهدف الإضرار بالنفط الروسي وأسعاره، ولكن ما حدث كان صدمة أمريكية غربية مدوية واضحة اعتبرها بايدن وحكومته موقفا عدائيا لأمريكا وتعاونا مع روسيا وبوتين في حربه وسوف يكون لها رد.
وهذا يوضح أكثر فأكثر أن بايدن وإدارته قد فقدت النفوذ القديم لدى ابن سلمان وأبيه وعائلته الحاكمة، ولا يمكن إخفاء النزاع زمنا طويلا فهو حقيقة قائمة ولا يمكن إنكارها، فعلاقات التبعية المطلقة السابقة قد انهارت بالتأكيد الآن، ويمكن الحديث عن تحول التبعية المطلقة السابقة إلى علاقات تبعية نسبية بين الدولتين على الرغم من النزاع بين الإدارتين الحاليتين، وهناك تنافر موضوعي استراتيجي بين الطرفين لا يمكن التوفيق بينهما، سببه اختلاف مصالح الطرفين وتنامي شعور الطرف الخليجي بمصالحه المحلية الضاغطة وتموضعه في قيادة التكتل الدولي للإنتاج النفطي للبلدان النامية النفطية التي يتلاقى فيها هذا الطرف وروسيا على صعيد مصالح اقتصادية واحدة رئيسية ومشتركة في أهم مصدر اقتصادي هو النفط، حيث تتسع الهوة بين السعودية والأمريكي البايدني اللبيرالي اتساعا يوميا ويمنع التقارب بينهما ويصاعد من الخلافات والتصدعات على عكس الطرف الروسي الصيني الذي يجد كل طرف حاجاته لدى الطرف الآخر وهذا يجعل علاقات التعاون بينهما ضرورية وحتمية ومربحة ومفيدة للطرفين.
بينما تجد أمريكا والغرب أنفسهم في مواجهة مصالح حتمية مع الدول المنتجة للنفط والتي كانت تحت هيمنة الولايات المتحدة والغرب حتى الماضي القريب حين كانت مازالت تخضع خضوعا كليا لتلفونات السفارة الأمريكية في الرياض وأوامرها بما في ذلك تحديد سياساتها ومواقفها وتخفيض وتصعيد إنتاج النفط حسب مصالح الغرب وأجنداته العدوانية ضد الدول الاستقلالية والسعي لتدمير اقتصاداتها وإفلاسها كما حصل مع السوفيت ومع روسيا وفنزويلا وغيرها.
وكانت السعودية أيام الوفرة تغطي الخسائر التي تتجرعها لإرضاء السيد الأمريكي من مخازنها وصناديقها المالية الاحتياطية التي تراجعت الآن، وهي مضطرة إلى التعبير عن مصالحها الحيوية المباشرة ولو اختلفت مع المصالح الأمريكية فهي سوف تقدم مصالحها أولاً بالضرورة، فدور التابع المطلق لم يعد ممكنا في هذا العصر والظروف، وكان ترامب قد منحهم هامشا كبيرا للعب عليه، وكل هذا سببته الحرب العدوانية على اليمن ونتائجها.
فقد خسرت السعودية أكثر من عشرة تريليونات دولار بالإجمال عسكريا واقتصاديا واستراتيجيا إلى الآن، وتعاني عجزا سنويا في موازنتها يصل إلى قرابة مائة مليار ريال سعودي، وهو ما يكشف حجم الأزمة السعودية العدوانية وحجم هزيمتها العسكرية اليمنية وحاجتها إلى تسوية تنقذها من كوارثها ومصائبها التي تتجمع عليها من كل حدب وصوب، ولكن روح الاستكبار الأبله المهيمنة تتغلب على كل منطق سليم، وهو ما يخدم في النهاية المنطق الإمبريالي الأمريكي الذي يعمل على إدامة الاستزاف السعودي من موارد وأموال واستثمارات باسم التسليح والمساعدات والحماية وامتصاصها من قبل أجهزتها وشركاتها واحتكارتها كما فعلوا في حروب فيتنام والعراق وأفغانستان، والمهم هو مصالح شركات "لوكهيد وجنرال موتورز" للأسلحة والطائرات وغيرها، واستمرار تدفق الأموال إلى حساباتها وخزائنها، ولو خسرت الحكومة، لا يهم، المهم هو أن تكسب الشركة الأم، وهذا ما يحكم سياسات الرؤساء الأمريكيين ووكلائهم الخليجيين والإقليميين، فهم مجرد موظفين وأجراء لديها ولدى الشركات الكبرى من قبل ومن بعد.

الشخصي والموضوعي يتداخلان
إن العامل السياسي والشخصي يتداخلان في السياسة القائمة بين الأمريكي والسعودي، وبخاصة في ظل تمزقات البنية الأمريكية الحاكمة بين جناحين متخاصمين يتداولان الحكم كل أربعة أعوام ولكل جناح حساباته الخاصة ومصالحه التي لا تعبر بالضرورة عن أمريكا ككل، فافهم عدوك!
إن فهم النزاع الأمريكي الداخلي يساعد على فهم النزاع البيني الحالي، ويسهل للاستراتيجية اليمنية أن تستبين واقعها واتجاهاتها بشكل أوضح، كما تستطيع اكتشاف ثغرات العدو وحلفائه، وألا تدع لهما الفرصة إلى أن يعالجا مشكلاتهما مع مجيء رئيس أمريكي جديد، بل يجب أن تلتفت القيادة العليا إلى الفرص المتوفرة في ظل هذه التصدعات البينية المستمرة والمتفاقمة بين رأسي العدوان.

مأزومية أمريكية متقيحة
إن الوضع الأمريكي الداخلي المأزوم الذي تبلور خلال العقود الماضية قد قاد إلى وجود سرطان استعماري أمريكي برأسين متوحشين يعبر عنهما بطرق مختلفة. هما تكتلان ماليان كبيران مهيمنان على الولايات المتحدة والعالم، وهم احتكارات النفط واحتكارات السلاح، وهما القوتان المهيمنتان على البلاد والعباد. وسياسيا يتمثلان عبر جبهتي الجمهوريين والديمقراطيين.
وينقسم الناخبون الأمريكيون حولهما، وهما لا يظهران في الواجهة دائما، وإنما عبر اللوبيات الضاغطة الشهيرة، وهم يصارعان ويتنافسان حول المصالح والأرباح والنفوذ بينهما ويحلان مشاكلهما بالوسائل الباردة والسرية والتسويات والمافيات، وعندما تحصل تسوية مرضية لطرف منهما حول أمور ومصالح وأهداف فإن الأزمة تنشب بينهما وتظل مستعرة وتعبر عنها بأساليب كثيرة بما فيها المؤامرات والإزاحات والتحييدات والصراعات الاقتصادية والإفلاسات المتبادلة حتى يصلوا إلى تسوية بشأنها، وهكذا وهم متفقون ضمنا على الصراع بالوكالة عبر الأدوات والوكلاء في الداخل وحول العالم. وتضمهم أندية سياسية كبرى تجمع كبار الأثرياء وعمالقة المال الأمريكي، حيث يحلون مشاكلهم بهدوء في نهاية كل حقبة تنافس وصراع بموجب موازين القوة والسيطرة المالية والسياسية وتنعكس تلك الصراعات البينية إلى الأنظمة التابعة للنفوذ الأمريكي تاريخيا وتنتقل بكل حذافيرها وتفاصيلها.

الأسرة الأوتوماتيكية تتعطل
وفي السعودية تمكن أحدهما، أي الجناح الديمقراطي أولاً من الاستفراد بالنفوذ الداخلي عبر الأسرة السعودية الأم، واستطاع أن يدير الأسرة المالكة التقليدية لتصب في خدمته الكثير من المصالح والمزايا خلال العقد السابق، وكان عهد الملك عبدالله، هو أكثر العقود ملاءمة للديمقراطيين، وبخاصة في عهد أوباما الذي ظل ثمان سنوات في البيت الأبيض، وكان البيت السعودي منقسما بين جناح عبدالله وأولاده وأبناء أخيه وبين مجموعة سلمان وأولاده وأولاد إخوته الأقربين من السديريين.
وكان الديمقراطيون متفاهمين مع ورثة عبدالله ومتعب وابن نايف للاستيلاء على الملك بعد عبدالله، وإعلان جيل جديد من الحكام أعدتهم المخابرات الأمريكية بزعامة ابن نايف وابن عبدالله.

كان أوباما وبايدن ينتظران صعود الطابق الذي أعدوه طويلا للحكم بشكل جديد وحديث وشيك، ولكن الأحداث داخل الأسرة عشية وفاة الملك عبدالله تعرضت لانقلاب صامت سياسي مضاد رفعت سلمان إلى الملك وإعلان ابن نايف نائبا له مؤقتاً، حتى تم تعيين ابنه الأكبر نائبه وإزاحة جماعة ابن نايف وابن عبدالله وأتباعه وأنصاره عندما صعد ترامب ثم تم اعتقال كبار الأمراء السعوديين المعارضين المحسوبين على الجناح الديمقراطي الأمريكي، وخلال ذلك كان سلمان وابنه وجماعتهما يتعاونون ويتحالفون مع جناح الجمهوريين وترامب ويدعمونهم ماليا بسخاء هائل أدى إلى نجاح المرشح الجمهوري ترامب وخسر الديمقرطيون الحكم بأموال السعودية وروسيا والإمارات معا في كتلة واحدة ضد حكومة أوباما وحزبه وتجرع الأوباميون نفس السم الذي جرعوه لشعوب وحكومات أخرى في الماضي.
وفي السعودية كرس ترامب الانقلاب السعودي السلماني بقوة، وقدم الدعم والتغطية والسلاح والمستشارين وتكون حلف سري بين الأطراف الأربعة وبين الجناح الجمهوري في الدولة العميقة الأمريكية في الجيش والمخابرات والاحتكارات وشبكوا مصالح اقتصادية مالية واستثمارية طويلة الأمد معهم مازالت تتسع وتكبر وتجعل العودة إلى الماضي القريب صعبة وشاقة.
إن ما يجري هو مقدمات لما سيأتي من نكسات ونكبات قادمة، فالعلاقات التحالفية في ظل البايدنية أضحت مأزومة وعوامل التفجر تتجمع أكثر فأكثر خلال العامين الباقيين من ولاية بايدن، وينعكس هذا على المشروع العدواني السعودي الأمريكي القديم القائم.
في الماضي عندما كانت الولايات المتحدة ماتزال لها هيبتها ومازالت غنية، بل كانت أغنى دول العالم على الإطلاق من حيث دخلها القومي السنوي ومن حيث صناعتها ومن حيث امتلاكها أغلب الذهب العالمي، ولم تكن قد تورطت في حروب استعمارية واسعة، ولم تكن قد حاولت استعمار الدول الآسيوية والأفريقية بعد، فقد كانت العديد من الكيانات تعتقد أنها ستجد في أمريكا ما لم تجده عند بريطانيا الاستعمارية وفرنسا، وكانت السعودية أيام المؤسس من أوائل البلدان المتهافتة على التبعية لأمريكا وتنفيذ كل أوامرها وتوجيهاتها في خدمة "إسرائيل" والصهيونية وتمكينها في أرض العرب والمسلمين، بل إن روزفلت قد اشترط من أول لحظة في لقائه عبدالعزيز المؤسس في قناة السويس اشترط عليه توفير الحماية مقابل النفط والسكوت عن تسكين اليهود في فلسطين كما كانت العلاقة مع بريطانيا في السابق، فـ"إسرائيل" هي الركيزة الأولى للسياسة الأمريكية في المنطقة، وكانت الموافقة هي رد عبدالعزيز وهو ما كشفته مذكرات روزفلت وغيرها من المؤرخات والوثائق.
وقد ظلت السعودية خلال العقود السابقة تنفذ في صمت كل أوامر وتوجيهات الإدارات الأمريكية المتعاقبة على النقيض من مصالح وحقوق العرب. كل ما تطلبه الولايات المتحدة تنفذه على الفور، وكل من يعترض تسكته على الفور أيضاً وبنفس السرعة، وكما اعترف ابن سلمان وسعود الفيصل رئيس المخابرات السابق وغيرهما من كبار الأمراء، وكانت المرة الوحيدة والأخيرة التي قال فيها ملك سعودي ما أزعج الولايات المتحدة في حرب أكتوبر 73، عندما هدد باستخدام النفط كسلاح في المعركة ضد المناصرين لـ"إسرائيل" في الغرب وكانت نهايته التراجيدية على أيدي أحد أبناء إخوته، وأتى بعده من أعاد نفس الخضوع والإذعان المطلق لأمريكا، والآن التاريخ يعيد دوراته بشكل تراجيدي أيضاً.
وبقدر ما هرمت الولايات المتحدة الأمريكية وانتكست بقدر ما هرمت الدويلة السعودية وانتكست بسبب تبعيتها المطلقة للأجنبي والصهيوني، وهي الآن في عهد ابن سلمان وأبيه تحاول تجنب الانتكاس الكارثي المريع المحكوم عليها بحكم التبعية المطلقة للأمريكيين والغرب والصهيونية.
لا يمكن القول حول ما يجري من منازعات بين الإدارة الأمريكية الراهنة وبين ابن سلمان وأبيه إلا أنه نزاع قاتل ومدو ومنهك ومدمر وهو ينطوي على احتمالات مختلفة بما فيها أكثرها تشاؤما، بما فيها سعي المخابرات الأمريكية لإزاحة ابن سلمان بطريقة ملتوية وقبيحة إذا لم يسو الملفات الحساسة بينهما وهذه الملفات قد شرحناها بالتفصيل في السابق.
وهناك تشابه بين ملف الملك فيصل في السبعينيات في عهد كسينجر، وبين ملف ابن سلمان الحالي، حيث كانت هناك أزمة نفط سعودية سياسية متحكم فيها، والآن هناك أزمة نفط متحكم فيها من قبل ابن سلمان أيضاً، وكلها تهدف إلى الضغط على الإدارة الأمريكية لقبول مطالبها (المشروعة والمعقولة)، وكانت النتيجة هي المؤامرة التي انتهت بحياة الملك فيصل ومجيء خالد وفهد وإخوته المذعنين للإدارة الأمريكية بدون تردد، وقد عملوا على مطابقة مصالحهم مع المصالح الأمريكية و"الإسرائيلية" بدون حرج أو خجل.
ولا يفهمن أحد أن ابن سلمان قد شذ عن التاريخ المذعن للولايات المتحدة ولـ"إسرائيل"، وقد حاول تقديم كل شيء لـ"إسرائيل" خلال "صفقة القرن" في عهد ترامب بأكثر مما قدمه أسلافه، وعمل على التصفية التامة للقضية الفلسطينية، وعرض عشرات المليارات كرشاوى للسلطة الفلسطينية لتعلن تخليها عن القضية والاتفاق التام مع "إسرائيل" ومنحها كل ما تطلب مقابل عشرات المليارات وإغلاق ملف فلسطين نهائيا والانتقال إلى تحالف كامل مع "إسرائيل" والحرب ضد إيران، ولولا سقوط ترامب في الانتخابات الأمريكية السابقة لكانت الحملة التطبيعية التي افتتحها بابن سلمان وأسياده مستمرة ومتواصلة بنفس الحماس السابق، ولكن هم يريدون شيئا والله يريد شيئاً آخر، ولكن غياب ترامب قد فجر النفور والنزاع بين الأمريكي الجديد والسعودي ومازال هذا النزاع يتصاعد.
ويقول بايدن "إن هذ الصاعد في الرياض ليس هو نفس الذي اخترناه في السابق، بل هذا من اختاره ترامب وجماعته وتم إبعاد ابننا المدلل ابن نايف ولن نعترف به"، علماً أن ترامب حين يعود إلى البيت الأبيض فسوف يكون أول عمل يقوم به هناك هو اعترافه بابن سلمان، ولذلك فإن ابن سلمان سوف يتحرك في كل اتجاه للهروب من مصيره في عهد بايدن، وهو مستعد لإقامة أفضل العلاقات مع خصوم بايدن لكي يحصل على الأمان خلال العامين القادمين وليس أمامه سوى روسيا والصين الآن.
وهذا التصدع هو الصدع الأكبر والأخطر على العدوان، ولم يكن من قبل بهذه الخطورة الراهنة، ولذلك يريد السعوديون والأمريكيون تجميد الموقف الحربي العسكري على الجبهات، والغرق في المساومات والهدن المؤقتة والمفتوحة وتكرارها وتواليها بدون التوصل لاتفاقات حقيقية كاملة واقتصارها على المسائل البسيطة اليومية ذات الطابع الإنساني كسفن البترول والديزل والغاز والدقيق، والدخول في هدن طويلة تغطي العامين القادمين، وكانت هدنة الستة أشهر الماضية تجربة ناجحة نسبيا في تصور العدوان ويمكن تكرارها لمرات أخرى بهدف استنزاف المخزون الاستراتيجي الوطني وإرهاق الشعب والجيش واللجان الشعبية، ومن ثم خلق واقع جديد في الطرف الوطني هو اعتياد الناس والمجاهدين على الرخاوة والاسترخاء وتحوله إلى طبع ثابت دائم مع الوقت وخلاله يتم استهلاك واستنزاف مقدرات الصمود وتتحول الحالة الدولية لصالح العدو، بخاصة إذا أمكن إغراق روسيا واستنزافها وإنهاكها في مستنقع أوكرانيا الأطلسي، وهو ما يتصوره ويراهن عليه لعل وعسى.
فالعدوان سيواصل استعداداته على استئناف الحرب الجديدة التي يراهن على تحقيق نتائج لصالحه في كل الأحوال، وتسمح له بالخروج الشكلي من مسؤولية الحرب وخلق واقع جديد تصادمي (يمني -يمني) (شمالي -جنوبي)، وهكذا..

إعادة هندسة الحرب الجديدة
وتأتي التصدعات الجديدة الداخلية بين أطراف العدوان كواحدة من نتائج ومخرجات الهزائم الاستراتيجية التي واجهها العدوان ويرمي كل طرف من أطرافه المسؤولية على الآخر، كما تأتي نتيجة اختلاف كل طرف من الطرفين الكبيرين في أهدافه عن الأطراف الأخرى، فهم يقاتلون اليمنيين لأهداف ليست واحدة، وإنما لكل واحد أهدافه الخاصة التي ترعاها إحدى دول العدوان وتتطابق مع أهدافها النهائية وتتخاصم في ما بينها في النهاية، وقد قسم العدوان مسارح الحرب العدوانية إلى مسرحين كبيرين، تولت كل دولة من دول العدوان قيادة ميدانها الخاص، وقد قسم الحرب إلى حربين وطورين ومرحلتين ومسرحين جغرافيين متراكبين لكل أهدافه وقواه الرئيسية وقيادته وموقعه المختلف في الاستراتيجية العدوانية العليا والعامة والشاملة وله قواته وحلفاؤه وقضيته السياسية ومجتمعه.
فالعدوان قد قسم اليمن سلفا إلى إقليمين مركزيين، شمالي تدير حربه السعودية، وجنوبي تدير حربه الإمارات وتحت هيمنة السعودية في النهاية، وإن حاولت أن تدعي أنها لا تدير مسرح الجنوب مباشرة ولكن عبر الإمارات.
كان المسرح الشمالي الرئيسي يسمى مسرح "الشرعية اليمنية" وقواته الرئيسية هي الخونج والسلفيون والعفاشيون بقيادة عبد ربه هادي وعلي محسن الأحمر وحميد الأحمر، والذين كانوا قد سيطروا عل دولة عفاش وعلي محسن، وعلم هؤلاء هو علم "الشرعية الشمالية" الخونجية السلفية القبلية السابقة، وكانوا يسيطرون على أغلبية الجيش الرجعي القديم للنظام ما قبل الثورة الشعبية، وهذا الجناح هو الجناح الشمالي اليميني الإمبريالي المعني باليمن الموحد، وكيل الاستعمار السعودي الأمريكي في عموم اليمن الموحد، فهو وارث دولة التبعية السعودية الأمريكية المركزية والموحدة والمسيطرة على الجنوب بقوة العسف الإقطاعي العسكري القبلي الرجعي، وهو يناهض الجناح الجنوبي الانفصالي الإمبريالي الذي يسعى ويعمل للانفصال وسلخ الجنوب عن اليمن والشمال، وضم الجنوب للسعودية والخليج، وجعل النفط كله تحت هيمنة الغرب والسعودية والإمارات وأسيادهما.
وهما متوحدان في الصراع ضد القوى الوطنية الشعبية الإسلامية الثورية الأنصارية اليمانية الاستقلالية من أجل هدف إعادة "الشرعية" الهادوية الأحمرية الإخونجية إلى حكم صنعاء تحت الهيمنة السعودية الأمريكية، لكنهما متصارعان حول الأهداف الأبعد، ووجها بأن يتعاونا ويقاتلا معا ضد العدو المشترك.
والحقيقة تقال وهي أن العدوان اعتمد بدرجة رئيسية على مرتزقة الشمال الذين مدوا بالقسم الأكبر من المرتزقة المحاربين، وقد وعدوا بأن يسلموا حكم صنعاء والشمال إذا هم انتصروا وتغلبوا على الأنصار والقوى الوطنية اليمنية، هكذا عمل الخونج كمقاولين أنفار للحرب العدوانية ضد وطنهم وأهالي جلدتهم وأهليهم على أمل أن تساعدهم السعودية والولايات المتحدة والخليجيون في إعادتهم إلى الحكم.
وقد وضعت القيادة العدوانية تحت تصرفهم كل الإمكانات والقدرات والأسلحة الأحدث في العالم والمشرفين والمشغلين والخبراء والقيادات والأموال والأقمار الصناعية والطائرات والمسيرات والصواريخ والسفن والمدمرات والبوارج الحربية، كل شيء يملكه العدوان الأطلسي من الأسلحة والأموال والإمكانات والقدرات والتقنيات سلمت لهم ووظفت وسخرت لمعاركهم التي استمرت لسنوات ثمان.
ويكفي أن نعرف أن السعودية قد أنفقت أكثر من عشرة تريليونات دولار ومازالت مستمرة في نزيفها، وقد خسرت من قواتها ومرتزقتها ما بين 250 و300 ألف قتيل وجريح، وخسرت أكثر من 20 ألف دبابة ومدرعة وحاملة جند وعربة قتال ومدفع وسفن وبوارج وزوارق، وتلقت ضربات صاروخية استراتيجية، وتعرضت أقسام منها للسيطرة الوطنية اليمنية، وهلك آلاف من جنودها ومرتزقتها السودانيين والأجانب مما فجر ثورة شعبية في السودان مازالت تغلي وتتجدد كل يو م إلى الآن.
وقد انتقلت راية القيادة والهيمنة بين الطرفين ومعهما معا كل في ميدانه، كان الصراع في الشمال يقوده تنفيذيا المرتزقة الشماليون وينفذونه ميدانيا، وفي الجنوب تقود الحرب الإمارات عبر الانفصاليين الجنوبيين ولهم جيشهم الخاص الجنوبي المشرف عليه من الإمارات والإنجليز والأمريكيون.
وقد تقاسموا النفوذ والقيادة من بداية العدوان على أساس أن الشماليين يقودون الحرب في المحافظات الشمالية الجبلية والداخلية انطلاقا من المركز القيادي في نجران ـ مأرب ـ الجوف، ويعملون تحت القيادة العسكرية السعودية البرية وقواتها المتمركزة جنوب المملكة وتتجه نحو الشمال اليمني المركزي وهدفها الرئيسي صنعاء، وتحتها قوات وصلت إلى 700 ألف مرتزق وجندي وكانوا ومازالوا تحت القيادة المباشرة للأمير السعودي المغدور به نائب قائد القوات البرية السعودية وقائد القوات الخاصة وقائد القوات العدوانية على اليمن بشكل عام، وكانت تلك هي الجبهة العدوانية الرئيسية الكبرى وعليها حشدت أكبر القوى والقدرات طوال سنوات العدوان، وامتدت محاورها في عشرات المحاور الفرعية من محافظات الشمال إلى الشرق إلى الشمال الغربي إلى نجران وعسير وجيزان وإلى صعدة وحجة وميدي وتهامة وتعز والمخا وإب والبيضاء والجوف ومأرب وبيحان.
ومع اتساع المعارك الوطنية وإنزال الهزائم بالعدوان في محاوره العديدة، فتح العدوان جبهته الجنوبية والغربية بعد أن وجه قواته الاحتياطية الإماراتية الانفصالية الجنوبية إلى محاولة اختراق المحافظات الشمالية الوسطى والغربية والساحلية وتهديد تعز والمخا والحديدة وإب والبيضاء، وكان هدفه تشتيت القوات اليمنية المدافعة عن العاصمة صنعاء والمحافظات المركزية المحيطة بها وإضعاف دفاعاتها تمهيدا لاختراقها، وهكذا تم توزيع غنائم الحرب سلفا بين العدوين السعودي والإماراتي ومرتزقتهما، ونتيجة الخيانة العفاشية البشعة التي سلمت الجنوب بأكمله، وكذلك سلموا الساحل الغربي كله حتى أبواب الحديدة وسلموا المندب والمخا وغرب تعز حتى نهاية العام 2018 حين تحولت موازين الحرب والمعركة في غير صالح العدوان ومرتزقته وبدأت بشائر انهزامها على أبواب صعدة وصنعاء والجوف والحديدة، فالدريهمي وحيس وغيرها وتراجع العدوان المخزي تراجعا انهياريا لا رجعة عنه.

صمود الشعب وقيادته
لكن الحرب العدوانية لم تسر كما أراد لها العدوان وقياداته، بل تعرضت لحرب وطنية مقاومة شعبية واسعة مستمرة أنزلت بالمعتدين الكثير من الهزائم والمصائب والنكسات، ولا يمكن إحصاء النكسات العسكرية العدوانية التي حدثت في جميع الجبهات والمحاور بشكل يومي طوال السنوات الماضية من الحرب العدوانية، فقد أدى صمود الشعب اليمني المقاوم وقيادته الثورية المحنكة إلى تحويل العدوان إلى فرص لاستنزاف المعتدين وتدمير طاقاتهم وقواتهم على الأرض في معارك تصادم لا يجيدونها ولا يقوون عليها، نتيجة انهياراتهم المعنوية والأخلاقية والإيمانية وتحللهم وتهافتهم على الأموال والمناصب وتفريطهم بالقيم والمعاني الذي يدعونها باطلا، وتماسك الشعب اليمني المقاوم واشتداد صلابته وعزمه على الصمود والتضحية والتسابق إلى ميادين الجهاد والتضحية في سبيل الكرامة والعزة والشرف والدين والوطن والسيادة والاستقلال والحرية والعدالة والحقوق.
وكانت هزائم العدوان وتراجعه على كل الميادين والجبهات رغم قوته المادية وعدده وعدته وتقنياته الأحدث ورغم الحصار الشامل جوا وبحرا وبرا وفضاء المضروب على شعبنا الصابر الصامد فإنه قد تمكن بعون الله وتأييده من الصمود والنصر.
رغم التضحيات العظيمة التي قدمها، فإن تماسك الشعب وصموده قد قاد العدوان إلى مصائر مأساوية وكارثية لم يتصورها من قبل أبدا، وهو اليوم يتجرع مراراتها وسيستمر في دفع أكلافها طويلا ودفع نتائجها وتداعياتها التي ستظل تتوالد من رحم التاريخ وتتناسل في أحشائه لعقود قادمة، وسوف تنتج أوضاعا ومعادلات جديدة في المنطقة والإقليم وفي الجزيرة العربية وتتغير توازناتها الجيوسياسية وتفرض علاقات وتحالفات جديدة مختلفة تخدم المصالح الوطنية والقومية والإسلامية والاستقلالية وتشارك في زعزعة وتفكيك النظام الاستعماري الهيمني الراهن الذي يتزعم الحرب ضد اليمنيين لحرمانهم من أن يستقلوا ويتحرروا من قيودهم ويستردوا حقوقهم السليبة وأراضيهم وثرواتهم المنهوبة.

مرتزقة العدوان يعزفون ألحانا جديدة سلموية
نحن الآن بتنا نسمع نغمات جديدة من قبل طرف مرتزقة الخونج؛ حراس "الشرعية" والدولة اليمنية الافتراضية المحمولة، كلام جديد لا يصدق أول الأمر، وهو أنه من عناصر خونجية عدوانية صريحة ومشهورة وواعية.. وما الجديد في هذا؟
يدور كلام كبير وكثير في الإعلام العدواني عن الدعوة لإنهاء الحرب بالوسائل السلمية الحوارية على أساس استبعاد الأجانب والمتدخلين بشكل عام بدون تمييز أحد على أحد والدعوة إلى حوار (يمني -يمني)، والبحث عن حل سياسي لا يلغي أحدا ولا يستثني أحدا، ولكن ما الجديد الذي غير لهجة هؤلاء المسالمين؛ من حمائم السلام ويرافقه هجوم ظاهري ضد السعودية والإمارات اللتين جاءتا إلى اليمن بأهداف خاصة بهما وخطفتا "الشرعية اليمنية"، وقمعتا واستبعدتا الوطنيين عن المشاركة في سلطة "الشرعية"، وأزاحتا عن القيادات العسكرية والأمنية كل العناصر الوطنية المحسوبة على علي محسن وهادي وحميد الأحمر، وعلى "السعودية الأمريكية".
وهذا الكلام مليء بالأساطير والخداع، ولكن لو افترضنا مجرد فرضية تجربية أنهم صادقون في مسعاهم، فلماذا لا يعلنون اعترافهم الصريح بأن ما يجري هو عدوان على الشعب اليمني وحرب إجرامية تقوم بها الدولتان وتشاركهما القيادات المرتزقية التي بصمت لهم في "مؤتمرات الرياض" المتوالية ومنحت لهما "الشرعية" للتدخل بصريح العبارة، لماذا لا يخلعون بيعتهم لأولئك القادة المعروفين بالعمالة والإجرام أمثال الزنداني والأحمرين وهادي وعلي محسن والآنسي وياسين سعود نعمان والمخلافي والعتواني وغيرهم، أم هو حوار طرشان وخلاص، أم هو تكتيك سياسي جديد لكسب الوقت وتقطيعه أم هو انتزاع واستخراج اعتراف مباشر من الطرف اليمني الوطني بأحقية أطراف المرتزقة بأن يفاوضوا صنعاء حول الحل السياسي القادم بدلا عن الرياض وأن النزاع القائم هو نزاع بين اليمنيين وليس لأحد أي علاقة بالعدوان فهو عدوان يمني يمني متبادل، ومادام أصبح استحالة أن يتغلب طرف صنعاء على الرياض أو تتغلب أطراف الرياض على صنعاء فإن الحل الوحيد هو التقاسم والتساوم وتجميد كل شيء إلى فرصة قادمة ومعنى هذا وقف تحرير مأرب وتعز، وخروج السعودية من مسؤولية الحرب والعدوان وإلقاء اللوم على المرتزقة اليمنيين الحمقى، الذين لم يدركوا إلا الآن حين حصحص الحق وبات أبطال الجيش واللجان الشعبية على مشارف مراكز قيادات العدوان والاحتلال تذكروا الحوار السلمي وأننا كلنا يمنيون؟
إننا لا ننكر الحوار مع اليمنيين المضللين حقا الذين ألقوا سلاح العدوان وداسوا على راياته واعترفوا بذنوبهم أمام الشعب اليمني وطلبوا منه الصفح والأعذار، فهو عبث لا طائل من ورائه سوى المزيد من المعاناة، والخطوة الأولى التي لا بد منها للتفرقة بين الحق والباطل هي الانتقال من صف العدوان إلى صف الوطن بصراحة وبدون لبس أو مناورات والمشاركة في استكمال تحرير الوطن وإعادة توحيده وضمان سيادته واستعادة حقوقه كاملة والتواثق على عقيدة جهادية وطنية مشتركة، أما الحوار مع أدوات العدوان بقصد تأخير وإعاقة تحرير الوطن فهو عبث العبث.

أساطير استحمار "الشرعية"
ومن مضحك القول بأن العدوان جاء ليعيد "الشرعية" الإخونجية العفاشية إلى الحكم وبطلب من القوى السياسية التي كانت تحكم قبل الثورة الأخيرة، ولكنه قد قام بركلة قدم واحدة من ابن سلمان وأزلامه فركن "الشرعية" الإخونجية في مستودع القصر الملكي في الرياض، وأقام إطارا جديدا لإدارة المرتزقة في ما عرف بمجلس الثمانية الذين عينهم ابن سلمان وابن زايد والسفير الأمريكي وبرئاسة العليمي، فأين هي "الشرعية" إذن؟
لو كانت "الشرعية" المدعاة حقيقية لما تجرأ عليها أحد، ولما ثار الشعب عليها، فـ"الشرعية" تعني سلطة الشعب وحقوقه واختياراته الوطنية المستقلة، فلا توجد "شرعية" من الأساس إذا لم تتم في ظل حرية الإرادة الشعبية والوطنية والاستقلال والسيادة الوطنية وانتفاء كل نفوذ أجنبي على الأرض اليمنية وعلى الإرادة.
ولهؤلاء الدجالين نقول: عن أي "شرعية" تتحدثون والبلاد كانت تعيش في ظل التبعية والوصاية واللجنة الأمنية الخاصة السعودية التي تحكم اليمن منذ انقلاب نوفمبر 1967  ومصالحة الرجعية للرجعية عام 1970، وتحول اليمن إلى مجرد مرحاض لأقذار الرجعية والاستعمار البغيض البشع الذي يدعو لدين الشيطان الدموي الجشع، وثورة الشعب في فبراير 2011، وقبلها كانت دوما ضد ذلك النظام الهيمني الأجنبي في حقيقته القابع في (سفارتي المملكة وسيدتها واشنطن الساكسونية) ولم يكن الحاكمون إلا أوراقا يستخدمها المهيمنون الأجانب لإخفاء سيطرتهم على البلاد والعباد والدولة.
ومتى كانت لنا دولة مستقلة حقا قبل ثورة الشعب الأخيرة في 21 أيلول/ سبتمبر 2014؟ وهذه حقيقة لا ينازع عليها إلا أصحاب اللجنة الخاصة للمهلكة، وهذ القول ليس سرا، بل هو القول المعروف والمأثور المتفق عليه والموثق في كل المدونات والمؤرخات وفي الوثائق الصادرة عن المستعمر نفسه وعن أسياده وفي الاعترافات المعلنة والموثقة والشهادات التاريخية والمذكرات الصادرة عن رجالات المستعمر نفسه وعن المهيمن واحدا واحدا وهم معروفون أسماء وصفات، وكلهم يقولون ذلك ويؤكدون عليه بصور وأساليب مختلفة لكنهم يؤكدون، فمن هذا الطفل الأحمق الذي مازال يروج لـ"شرعية" موهومة كانت في اليمن قبل ثورة اليمن الشرعية الشعبية.
إن "الشرعية" الواقعية الثورية هي التي تنهض في وجه السيطرة الأجنبية وفي وجه الاستكبار والاستعمار والاستبداد والاستغلال والفساد والظلم والديكتاتورية العسكرية والمالية والأولجارشية الاجتماعية السياسية الإدارية، وهو ما يشمل السيطرة السعودية الأمريكية على اليمن التي استمرت قبل فبراير وبعده حين استولى المتثاورون المزيفون على ساحات الشباب وأخمدوها وخنقوها لقاء دريهمات السعودية وأمريكا وشركات النفط والغاز القابضة على اقتصادنا وثرواتنا الوطنية.
إن العدو الأصلي للشعب اليمني ولثورته وحريته وسيادته ولحقوقه ولمصيره هي السعودية وعملاؤها وحلفاؤها وأسيادها الإمبرياليون والمستعمرون الذين صنعوها في قلب بلادنا ووطننا ومقدساتنا وفوق الدويلات اللقيطة القائمة، وكل يمني شريف غيور قبيلي أصيل يفهم ذلك دون حاجة إلى مزيد بيان لأنها الحقيقة الكبرى التي تصدمنا في كل شأن ومكان من بلادنا وواقعنا طوال العقود العشرة الماضية، والوعي الوطني يقوم على الوعي بحقيقة الهيمنة الإجرامية الأجنبية السعودية الأمريكية على واقع العرب والمسلمين، واليمنيين في المقدمة، لأنهم الطرف الذي اكتوى بنيران احتلالها واستكبارها وظلمها وسفحها لدمائنا بوحشية وهمجية واستقوائها بالأجنبي الصهيوني والغربي والعمل في ركابه وخدمته وبيعها الوطن لحسناته وأمواله (واقتسام الثروات الوطنية بينها وبينه)، ولو كانت الفتات هي ما يتركه لها، المهم هو وجود حام أجنبي يحميها من شعبها، ولذلك ترى العبودية للأجنبي جنة وما بعدها سعادة ويسر ورخاء، وهي مستعدة لإيجاد المبررات والتسويغات والتشريعات الدينية الزائفة، فالعهد الإمبريالي الشيطاني الراهن هو عهد الكذب والتزوير والعبادة الشيطانية التي يبذرها الغرب في كل مكان وهذا وجه الصورة فقط، ولكنه في الوقت نفسه هو عهد المقاومة الثورية التحررية الشعبية الظافرة في نفس الوقت، وعلى الناس الواعين الأحرار أن يروا الصورة من جميع وجوهها لا أن يروا وجها واحدا فقط، وأن يعلموا هذا لغيرهم من الناس بكل صبر وأناة وحماس لمساعدة الآخرين المضللين على النجاة من قيود التضليل والاستغفال والاستحمار الذي يشيع في قطاعات إعلامية وتعليمية عديدة من البلاد الواقعة تحت الاحتلال، حيث يدفع العدوان بشخصيات ظاهرها العلم والثقافة والمعرفة وفي باطنها النفاق والكذب والتضليل والخيانة المبطنة، المقدمة في أثواب العلم والتقدم والمنطق الفارغ الزائف الذي لا علم فيه ولا وقائع ولا حقائق، وإنما نفاق ودجل وتضليل وجشع وأطماع في السيطرة والاسترزاق القبيح، وتخل وتنصل من الدين والمبادئ والوطنية والثورية والقيم الخلقية والإنسانية.