القاضي محمد الباشق / لا ميديا -
من يتأمل في من حازوا وحصلوا وفازوا بنعمة البشرى من الله يجد أنهم في كتاب الله تم ذكرهم بالذوات وبالصفات، فبالذوات كسيدتنا مريم ومن قبلها أمها، والنص القرآني واضح في هذه البشرى بها أولاً لأمها، وبسيدنا المسيح لها، وكذا بالاسم لسيدنا زكريا بتحدد باسم وصفات سيدنا يحيى، وأيضاً البشارة لسيدنا إبراهيم بوصف سيدنا إسماعيل بـ»غلام حليم»، ووصف سيدنا إسحاق بالاسم والصفات فيهم وفي من سار على خطاهم هي الإحسان إلى الخلق، إحسان النية، فيحبون الخير لخلق الله ويحبون الصلاح للجميع، وإحسان التعامل والأخلاق مع جميع الخلق، وإحسان البذل والتضحية والعطاء. بل إن نموذج سيدنا موسى، الذي حمد الله وشكره وهو الغريب بلا مأوى ولا معروف معه، يفعل خيرا بالسقي بعفة فيتولى إلى الظل، وهي إشارة ربانية إلى أنه ما سعى للتعريف بنفسه ولا لمعرفة الفتاتين، بل أدى واجبه الذي هو بالنسبة له في صميم نفسه واجب لله من أجل الله، ولم يتجه باللوم والتوبيخ لأهل بلدهم، أولئك الشبان الفتيان الذين خلعوا حلية المرأة وتجردوا من الصفات الإنسانية، بل سقى ثم غادر المكان بهدوء طالبا من الله زيادة التوفيق لبذل الخير وفعل المعروف، ولم يصرح بطلبه من الله سبحانه وتعالى أن يهيئ له مأوى وزاداً، بل بأدب رفيع في الدعاء: {رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير}. أنا يا رب أحمدك أن وفقتني لفعل الخير، وأحمدك أن نجيتني من القوم الظالمين، وأعطيتني معرفة سلوك طريق السلامة، وأعطيتني الصحة والعافية التي بها استطعت أن أسقي لهما... كل تلك النعم أنت يا رب أنزلتها، وأريد منك المزيد، طلب المأوى والاستقرار في دار الغربة.
فجاءت الإجابة بعدما دعا دون تأخير، فحصل على أكبر وأفضل الخير. ومن التوفيق أن كل من يريد الزواج والسكن والاستقرار أن يلهج ويبتهل إلى الله بهذا الدعاء الذي يجد من دعا به سرعة الإجابة، خصوصا إن سبق التلفظ بهذا الدعاء إحسان، إحسان بالأخلاق أو بزكاة البدن أو بزكاة الجاه، أي نوع من أنواع الإحسان، ولو اكتفى بإحسان النية، وهي حب الخير للخلق، فكل إحسان يتبعه هذا الدعاء تكون بشرى الإجابة سريعة مباركة.
ووصف الله جل شأنه سيدنا زكريا وزوجته اللذين بشرهما الله بسيدنا يحيى، وصفهما الله بالمسارعة في الخيرات وبدوام الابتهال والضراعة وتعلق القلوب بالله المؤمن المهيمن.
وتأتي بشارات بالصفات كما سبق في حلقة ماضية الإشارة إلى آيات البشارة بالرحمة والرضوان والجنات والنعيم المقيم. وبإجماع علماء التفسير فإن الآيات مرتبطة بالحديث في بيان أفضلية المجاهدين وأفضلية أعمالهم على جميع الأعمال. وإجماع المفسرين ليس على هذا فحسب، بل على أن المقصود بالآيات الكريمة سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بتلك الصفات التي بينها ربنا سبحانه وتعالى: الإيمان بالله وباليوم الآخر، والجهاد في سبيل الله ليس مقتصرا على جانب دون آخر، بل جهاد بما يتناسب مع كل ظرف وبما تحتاجه كل مرحلة، لذا اجتمع فيه بذل النفس وبذل المال وما يرافقهما من بذل الوقت والجهد والتخطيط والقول والفعل والسلوك، فصار سيدنا علي (عليه السلام) وأضحى وأصبح وأمسى المجاهد والد المجاهدين قدوة المجاهدين، أسوة المجاهدين، فكان الفوز وصفه وصفته، والنعمة التي تحدث بها القرآن الكريم قبل البشارة لأنها وصف الله فلا تفارقه أبداً، لذا نطقها استبشر عند البشارة من سيدنا رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، نطقها مصدقاً موقناً بالفوز: «فزت ورب الكعبة»، ونطقها يوم أن تحققت البشارة القرآنية بالفوز والنبوية بالفوز، فكان النطق هو المنطق نفسه.
التحدث بنعمة الله له الفوز، ويا له من موقف عصيب بالحسابات البشرية والمفاهيم الإنسانية! لكن حاشى لمن شهد الله له بالفوز أن يذهل أو ينصرف إلى الانشغال بألم وأثر ضربة سيف المجرم الغادر الكافر الفاجر الشقي ابن ملجم ومن رضي بفعله عليهم لعنات الله!! أقول: لم يكن لتلك الضربة الغادرة أي أثر على عقل ومنطق ونطق سيدنا علي، فقال مكررا ما سبق يوم البشارة النبوية: «فزت ورب الكعبة».
إذن، إخواني القراء، إن من مؤهلات أي مسلم للبشارة أن يكون في حنايا نفسه وفي سويداء قلبه أمل حي ورجاء قوي وصل إلى يقين تام أن مصيره الفوز، لأنه قد قدم عملاً صالحاً، وأعلى هذا العمل الصالح هو عبادة القلب، فقلبه معلق بالله وشغاف قلبه قد امتلأت حبا لله، وقالبه عامل لمرضاة الله. والإمام الرضا عليه السلام له حكمة تجلي لنا هذا المعنى في ألفاظ قليلة تحمل معاني عظيمة وبديعة، وهي قوله إن السفر إلى الله بالقلوب، فمن صفا قلبه فقد تأهل لاستقبال البشرى بمدد بشراكم اليوم. صل اللهم وسلم على سيدنا محمد وآله. والحمد لله رب العالمين.