«لا» 21 السياسي -
لوسائل الإعلام في واشنطن تاريخ طويل في الإطراء المسرف على الحكام المستبدين القتلة، خاصةً عندما يكون هؤلاء المستبدون من الحلفاء الرئيسين للولايات المتحدة.
والقطعة الصحافية التي تصدرت عدد غلاف مجلة "ذي أتلانتك" لشهر نيسان/ أبريل بعنوان "السلطة المطلقة" عن محمد بن سلمان، والتي كتبها جرايم وود، وتضمنت مقابلاتٍ أجراها الكاتب مع ولي العهد بصحبة رئيس تحرير المجلة جيفري جولدبيرج، تعد جزءاً من هذا التقليد ودراسة حالة في كل ما هو خطأ في الوصول إلى الصحافة والتركيز غير الأخلاقي على الرجال الأقوياء المتوحشين، كما تشير محررة الشؤون الدولية في "واشنطن بوست" الأمريكية، كارين عطية.
لا تحتوي مقابلة المجلة -بحسب عطية- على رد فعل سلبي يُذكر تجاه اليمن (حيث تسببت الحرب التي تقودها السعودية في أزمة إنسانية أودت بحياة ما يصل إلى 85 ألف طفل) أو تجاه عديد من المعارضين والناشطين السعوديين الذين يقبعون خلف أسوار السجون السعودية.
بدوره يكشف المعارض (السعودي) فؤاد إبراهيم، الهدف الحقيقي وراء لقاء "ذي أتلانتك" مع ابن سلمان، مؤكداً في قراءة مطولة على "الأخبار" اللبنانية أن المقابلة الاستعراضية مع المجلة الأمريكية كانت بمثابة رهان أخير لمحو شخصية القاتل السادي والمحشوّ رعونة وبلاهة، وإحلال شخصية المصلح والمنقذ والمنطقي والمنفتح.
فقد جعل ابن سلمان من المجلة الأمريكية منصّة لإطلاق "مانفيستو" الدولة الأفلاطونية بنسخة سعودية معدّلة جينياً، وهي التي سوف يعتلي عرشها ذات يوم، أو هكذا يحلم.
الرواية الجديدة التي أراد ابن سلمان إيصالها عبر المجلة الأمريكية والقائمة على فكرة طلاق بائن أو رجعي بين السعودية والوهابية، والتبشير بسعودية جديدة خالية من الوهابية، في لعبة إيحاء ماكرة تفتقر إلى الأدنى من الذكاء المطلوب لتمريرها في عالم يكتظّ بمصادر المعرفة بالتاريخ وبالحاضر أيضاً.
لم يفعل ابن سلمان في محاولة تظاهره بالتخلص من الوهابية أكثر من القول للمجلة إن "محمد بن عبد الوهاب ليس السعودية. فالسعودية لديها المذهب السنّي والشيعي، وفي المذهب السنّي توجد أربعة مذاهب، ولدى الشيعة مذاهب مختلفة كذلك، ويتم تمثيلها في عدد من الهيئات الشرعية".
الوهابية ليست السعودية إذن، وهما اللتان سارتا معاً منذ توقيع صفقة الدرعية بين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب في العام 1744، والتي واكبت جزءاً من فترة الدولة السعودية الأولى وتأسيس الثانية والثالثة حتى وإن أعلن المهفوف "يوم التأسيس" في 22 شباط/ فبراير 1727 عيداً وطنياً سعودياً في رسالة واضحة مفادها أن الوهابية لم تكن جزءاً من المملكة عند تأسيسها.
وكما هي العادة في مجمل صور الأداء السياسي لابن سلمان فقد أراح ناقديه من عناء البحث عن "النقيض" في مواقفه، إذ تكفّل شخصياً بتقديم كلّ ما هو "عكس الصورة" التي يريد الترويج لها، وهذه سمة راسخة في شخصية ابن سلمان المضطربة وغير المتوازنة. تكفلت "مذبحة السبت" بنسف الصورة المزيفة لابن سلمان في "أتلانتك"، وكشفت عن وجهه الحقيقي القبيح مجدداً، والذي لا ينفك عن تأكيد أنه وإن فض الشراكة مع آل عبدالوهاب لكنه احتكر له الوهابية.
حيّر ابن سلمان الصحفي جريم وود، الذي أجرى معه المقابلة، برفضه العفو عن السجناء الذين كانت جريمتهم أنهم عارضوا سياسة لم تعد الآن قائمة، مثل فرض الحصار على دولة قطر.
قال المهفوف في رده على السؤال الذي وجهه له الصحفي إنه لو شمل بعفوه الناس الطيبين الذين يستحقون العفو فإنه سيتوجب عليه أن يعفو أيضا عن الناس الشريرين الذين لا يستحقونه! ولكن لماذا ينبغي أن يحول عفو دون عفو كما تساءل وود، الذي كتب يقول:
"حينها أدركت أن محمد بن سلمان لم يكن يقول إن فشل خطته لإعادة تشكيل المملكة قد يفضي إلى نكبة، بل كان يقول إنه سيضمن أن يؤدي فشل تلك الخطة إلى نكبة. وكم سبقه إلى مثل ذلك الكثير من الزعماء العلمانيين في العالم العربي الذين كان لسان حالهم يقول: ساندوني في كل ما أقوم به وإلا أطلقت عليكم كلاب الجهاد. لم يكن ذلك حجة بقدر ما كان تهديدا".
وخلص ديفيد هيرست في "ميدل إيست آي" إلى أن المقابلة تثبت أن محمد بن سلمان لم يتعلم درساً واحداً من أخطائه السابقة، فما زال طائشاً وغافلاً عن عواقب ما يقوم به من أفعال. فهو لا يرى في هذا الكون سوى إرادة واحدة: إرادته هو.
وختم بما ختمت به كارين عطية في "واشنطن بوست": إن مقال "السلطة المطلقة" يعد "إهانة لذكرى جمال خاشقجي وللصحافة، وعندما ينظر التاريخ إلى هذه الفترة سوف يتألق مقال مجلة "أتلانتك" هذا بوصفه مثالاً على كيف أن الطريق إلى عودة الاستبداد الوحشي العالمي قد جرى تمهيد الطريق له في جزء لا بأس به على يد أسوأ جوانب صحافة الوصول إلى الشخصيات المهمة والثرية والمؤثرة في الولايات المتحدة".