فضل النهاري / لا ميديا -
كان للجانب الاقتصادي دور مهم ومؤثر للغاية في المواجهة مع الدين الجديد (الإسلام) الذي ظهر بمكة وبدا يستقطب المزيد من الأتباع يوما بعد آخر.
ومعلوم أن طبيعة الموقع الجغرافي والمكانة الدينية لمكة وقريش وعبر قرون طوال مكنت من نشوء مجتمع تجاري بامتياز، يتمتع بالإضافة إلى الخصائص العامة للمجتمع الرأسمالي -بكل ما تحمله الكلمة من معنى- بقدسية دينية مستمدة من كون قريش هم "أهل الله" وخدام الحرم والكعبة، فلم يكن يجرؤ أحد قبل الإسلام على المساس بهذا الاقتصاد أو تهديده، وأصبح ذلك مبدأ تؤمن به كل القبائل في الجزيرة العربية. اقتصاد رأسمالي انتهازي فرز قريش نفسها إلى بيوت غنية وأخرى فقيرة وطبقات مستعبدة وأجراء ورقيق و... و... إلخ.
وبالتالي فقد مثل ظهور الإسلام والدعوة المحمدية بمبادئها وقيمها التي ترتكز على التوحيد والعدل والمساواة والتكافل ونبذ الظلم والتفرقة خطرا يتهدد المجتمع المكي القائم أساساً على التجارة والسياحة الدينية. فبدأت على الفور العروض والمغريات تنهال من كبار قريش على النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مقابل التخلي عن هذه الدعوة التي بدأت بالانتشار، خاصة في أوساط الفقراء والعبيد والمسحوقين بمكة، ودون أن تلقى تلك العروض صدى يذكر من النبي (سلام الله عليه وعلى آله) ما دفع قريش إلى استخدام جبروتها وقوتها في محاولات وقف تمدد وانتشار الدعوة، بدءا من استخدام التعذيب والتهديد والملاحقة التي وصلت إلى حد ملاحقة المهاجرين إلى الحبشة للمطالبة بتسليمهم وانتهاء بإجماعهم على قتل النبي (ع).

الهجرة إلى المدينة
كانت الهجرة النبوية إلى المدينة، وعلى الرغم من أنها جرت في ظل الاتفاق المكي على تصفية النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم تخلُ أيضاً من ملاحقات كما في قصة سراقة بن مالك، إلا أنها مثلت بالنسبة للمشركين في مكة تخفيفا للضغط والمخاطر التي تتهددهم فيما لو بقي النبي بمكة يستقطب يوما بعد آخر المزيد من المؤمنين. كما أن محيط المدينة المنورة (يثرب) آنذاك لم يكن قد دخل في الإسلام.
وبالتالي فلا يوجد ما يثير مخاوف مكة أو يتهدد مكانتها وقوتها الدينية والاقتصادية. ومع ذلك سنلاحظ أن مكة عملت في تلك الفترة على تقوية علاقاتها مع القبائل العربية، لاسيما في محيط المدينة ومع اليهود في داخلها، لضمان الإبقاء على الأوضاع الداخلية في المدينة عند حدود التعبد وممارسة الطقوس والشعائر الدينية ولا تتعداها إلى أي نشاط عدائي ضد قريش.
ومن جانب آخر، فإنه وعلى الرغم من دخول الأوس والخزرج في الإسلام إلا أنهم لم يكونوا ليشكلوا حتى تلك المرحلة تهديدا حقيقيا للرأسمالية والوثنية المكية. فالأعراف والمواثيق القبلية المتعلقة بالحركة التجارية ظلت كما هي حتى بعد دخول أهل المدينة في الإسلام وقبل أن تتتابع الأحداث وتتسارع نحو نقطة فاصلة وتاريخية هي معركة بدر!!

معركة بدر الكبرى
في معركة بدر كانت الورقة الاقتصادية هي العامل الأساسي، إن لم يكن الأوحد، في تحريك طرفي المعركة. وملخص الأحداث هو ما ورد إلى مكة من أنباء عن خروج المسلمين لاعتراض قافلة لقريش يقودها أبو سفيان قادمة من الشام.
لقد مثلت هذه الأخبار زلزالا كبيرا وصفعة مدوية استنفرت معها قريش كل رجالها وعتادها للخروج دفاعا عن مكانتها التجارية والتي أصبحت مهددة من قبل طلائع المسلمين.
وبذكائه، فطن أبو سفيان لما يدبر له ولقافلته فعمل على حرف مسارها لتسلك طريقاً مغايراً، وهو ما لم يتداركه المسلمون فأفلتت القافلة من أيديهم.
المشركون مثلت لهم نجاة القافلة فرحة غامرة، لكنها فرحة تشوبها أيضاً مشاعر الخوف والقلق من تكرار ما جرى في المستقبل، وبخاصة لدى كبار هذا المعسكر، وهو ما جعل هذا المعسكر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول رأى بأن نجاة القافلة مبرر كاف للعودة إلى مكة.
القسم الثاني رأى ضرورة استخدام الحرب الإعلامية والنفسية لنشر الرعب ومنع تكرار ما حدث (نقيم عشرا، ننحر الجزور وتغني القيان وتسمع بنا العرب و... و... إلخ).
أما القسم الثالث فقد رأى أنه لا يجب أن يتوقف رد الفعل عند حدود ما سبق، بل ذهب إلى ضرورة التقدم لمواجهة المسلمين وهزيمتهم كي لا يفكروا بتهديد تجارتهم مرة أخرى.
وبالفعل استطاع أصحاب هذا الرأي أن يفرضوا وجهة نظرهم على المعسكر القرشي، ولكن مع إبقاء المواجهة في حال وقوعها تقتصر على تنفيذ "مبارزة" فقط، والاكتفاء بنتائجها دون الالتحام مع جيش المسلمين في معركة مفتوحة، وهو ما لم يكن يحبذه الكثيرون داخل جيش قريش الذين حاولوا الإسراع بالعودة إلى مكة لإدراك الموسم التجاري والقافلة الواصلة من الشام محملة بشتى السلع والبضائع.

وقفة عند مشهد المبارزة
التقى الجيشان عند بدر، وتقدم ثلاثة من المشركين للمبارزة فخرج لهم ثلاثة من الأنصار، فرد المشركون بأنهم يريدون ثلاثة مبارزين آخرين من المهاجرين، فكان لهم ذلك. وعند هذه الجزئية يجب أن نتوقف مليا، وأن نطرح التساؤل التالي: هل كان موقف المشركين من خروج المبارزين الأنصار نابعاً من انتقاص أو عدم اعتراف بأن هؤلاء الأنصار رجال أكفاء وشجعان أو أن المبارزة معهم ليست شرفا مثلا؟!
الإجابة هي: لا بالتأكيد، فقريش تعلم جيدا شرف ورجولة وبطولة الأوس والخزرج؛ ولكن دافعهم إلى طلب مبارزين من المهاجرين يخفي وراءه دهاء كبيرا يرتبط في الأساس بالموضوع الاقتصادي!!
لأن نظرة جيش قريش إلى الأمر تكمن في أن المبارزة مع مهاجرين هي مبارزة في الأساس مع أبناء عم وذوي نسب وقربى، وبالتالي فإن من السهل بعد انتهاء المبارزة والعودة إلى مكة -بدون قتال طبعا كما خططوا هم لذلك- تسوية موضوع الدم الذي سفك من الطرفين في إطار الأسرة والقبيلة الواحدة بالعفو أو بدفع الدية أو بأي طريقة أخرى، لأن الأمر سيظل قضية في إطار القبيلة الواحدة.
أما القتال مع الأنصار فسوف ينجم عنه بالتأكيد ثأر قبلي مع أهل المدينة الواقعين على طريق القوافل، وهذا الأمر بحد ذاته يعني بالنسبة لهم كارثة كبرى ستحل بتجارتهم وقوافلهم. ولأن قريش اعتمدت أيضاً على معلوماتها السابقة بأن أهل المدينة لم يبايعوا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا على حمايته داخل المدينة وليس القتال معه خارجها، عمل المشركون وحتى آخر لحظة على تجنب الاحتكاك بالأنصار!!
بعد ما سبق، نستطيع القول بأن معركة بدر كانت بالنسبة للمشركين دفاعا عن التجارة وليست استهدافا للدين الإسلامي أو معتنقيه في يثرب بشكل أساسي. كما أنها لم تخلُ في الوقت ذاته من محاولات (احتواء) تضمن لهم تحقيق أهدافهم بأقل قدر ممكن من الخسائر (الخسائر الآنية والمستقبلية)، على عكس المسلمين الذين مثلت لهم هذه المعركة نقطة فاصلة ستحدد خارطة الإسلام وشكل توجهه وانطلاقته في المنطقة والجزيرة العربية بأسرها.
لذا نجد أن قريش بعد معركة بدر استنفرت أقصى طاقاتها وحشدت كل إمكانياتها لمواجهة طرف تؤمن بأن بقاءه أمر غير مقبول نهائياً.
ولكم أن تلاحظوا حجم التحشيد والمواجهة التي أعقبت معركة بدر، في معركتي أحد والأحزاب (الخندق) التي كانت عند مستوى معين هزيمة للمسلمين وانتصارا للمشركين، لكنه كان انتصارا مؤقتا ولحظياً كشفته الأحداث اللاحقة وصولا إلى عام الفتح وما ارتبط به من تراجع في حجم التحالفات المكية مقابل التوسع المتسارع لرقعة انتشار الإسلام وصولا إلى يوم فتح مكة الذي لم يشهد قتالا يذكر، لأنه صنع موقفا لدى كبار قريش في اللحظة الأخيرة بأن الاستسلام، بل والدخول في الإسلام خير لهم من المواجهة، لضمان أقل الخسائر الاقتصادية الممكنة (من دخل الحرم فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن... إلخ).
وهذه برأيي الشخصي حقيقة وبديهية يدركها الكثيرون في ذلك الزمان، حقيقة يعيد ذكرها الإمام الحسين (عليه السلام) والذي تروى عنه مقولة شهيرة: "أتهددونني بالموت يا أبناء الطلقاء"!
فحاشى للإمام الحسين (ع) أن يعير أناسا بأنهم أسلموا يوم الفتح، فالإسلام يجب ما قبله، ولو كان ذلك عيبا لكان القرآن الكريم أو النبي (ص) قد بين ذلك للناس في حينه؛ لكن الأمر هنا مرتبط بموضوع آخر تماما أدركه سبط الرسول وسيد الشهداء (عليه السلام).