حاوره: نشوان دماج / لا ميديا -
ابن التراب التهامي وجزء من آليات موروثه الثقافي الغني الذي نشأ فيه وتربى على إحيائه. هذا الموروث بالنسبة له هوية وجود وكينونة تناقلتها أجيال فأفرزت داخله تلك الثقافة والقناعات.
ولد الفنان والمنشد التهامي محمد الحلبي عام 1969 في مدينة المراوعة بالحديدة، وفي سن الحادية عشرة بدأ الإنشاد بتشجيع من والده. وراح يشارك في إحياء فعاليات وأعراس داخل الحديدة.
في 1985 كان أول ظهور له على المسرح مع فرقة الحديدة بقيادة الأستاذ جابر علي أحمد، وتسجيل عدد من الأعمال للتلفزيون.
سافر لدراسة الموسيقى في مصر، واستفاد منها بقدر ما مكنته تجربته في العزف على العود والأورج.
شارك في عدد من الفعاليات خارج الحديدة، كمهرجان الإنشاد اليمني وفعاليات صنعاء عاصمة الثقافة العربية؛ إذ قدم عملاً أوبريتياً بعنوان «ابتهالات بحار». كما كان له مشاركات في عدد من العواصم، كمهرجان «أيام الشعوب» في القاهرة، ومهرجان آخر في إسبانيا.
صحيفة «لا» استضافت الفنان التهامي الكبير محمد الحلبي، في حوار شيق تحدث فيه عن مجمل تجربته الغنائية الإنشادية، وعن سبب تواريه إعلامياً بعد العملين الكبيرين اللذين سجلهما تلفزيونياً «مولاي صل» و»نشر أو طي»، فإلى الحوار:

تعاملوا معي سابقاً بلا احترام
 أستاذ محمد، لو بدأنا حوارنا معكم بتواريكم الطويل عن الساحة الفنية. ما هي الأسباب؟!
 حياكم الله، ولي الشرف بهذا اللقاء مع صحيفة «لا»، ولا أخفيكم علماً أني معجب باسم هذه الصحيفة الذي يعطي انطباعاً لمسار ديمومتها النبيل.
بالنسبة لسؤالك، قد أكون غائباً إعلامياً ولي عدة محاولات لتفادي ذلك في ظل مراحل سابقة، ولكن دون جدوى. إنما أستطيع القول بأنني مازلت حاضراً في المشهد، استمررت ومستمر في توصيل رسالتي في إحياء هذا الموروث من خلال الأعراس والمناسبات والفعاليات الاجتماعية. صحيح أنها في إطار محدود، ولكن لا ذنب لي في ذلك. تخيل 40 عاماً بين الناس داخل البلاد وخارجها، أقوم بعملي على أكمل وجه في الأعراس والمناسبات الاجتماعية، معززاً مكرماً بكل تقدير واحترام، إلا أنه وتزامنا مع كل ذلك التقدير والاحترام، كنت عندما أقوم بعمل مشاركاتي في الاحتفالات أو المناسبات الوطنية، وتحديداً بعد أول تسجيل تلفزيوني لي «مولاي صل»، كان تعامل الجهات الرسمية معي غير ذلك، فتتم شيطنتي والبت بذلك من كبار المسؤولين بناء على ما يمليه عليهم صغارهم المعنيون بتنفيذ عملي، وبدون استجوابي أو حتى سؤالي، والتهرب والاستهتار بمطالبتي بذلك. ويتكرر ذلك مع حالة النسيان المرتبطة بحب عملي، وفي كل مرة أقول لعل وعسى، ثم تأتي كل مرة أقوى من سابقاتها، إلا أنها تزيدني إيماناً وصلابة وتحدياً في واقع مرير، ولو لاحظتم في الفرصة التي أتيحت لي بفضل قيادة مسيرتنا المباركة، هل قصرت في ذلك؟

أعمال غير صالحة
 العملان الإبداعيان «ريم على القاع» و«نشر أو طي».. لماذا كانا أشبه ببيضة ديك، بحسب البعض؟
 كما قلت في سؤالك: هذان العملان كانا بيضة الديك فعلاً، فبالرغم من أني سجلت بعدهما أكثر من 10 أعمال، إلا أنها تقنياً كانت غير صالحة للنشر (كأنك تغني في مغراف فول)، ولا ندري أعمداً كان الأمر أم غير ذلك، علماً أن تلك التسجيلات كانت بفضل جهود استثنائية لمحافظ محب للعمل الثقافي، وهو الأستاذ عبدالرحمن محمد علي عثمان رعاه الله. وبعد غيابه عن محافظة الحديدة، خلفه من عكس كل الأمور، فتبعثرت الفرقة، لتحل محلها مشاكل حدثت بين أفرادها وقيادتها، معلنة نهاية تلك البداية آنذاك؛ إلا أنني لم أستسلم، وحاولت متردداً على جهات الاختصاص في صنعاء، ولكن دون جدوى. هذه أهم أسباب غيابي إعلاميا.

المسيرة فتحت آفاقاً جديدة للإبداع التهامي
 على ذكر الفرقة التي شاركت في الأوبريتات، هناك سؤال مفاده أنه في العامين الأخيرين تراجع دوركم بشكل ملحوظ، حتى الأعمال التي قدمتموها لم تلبّ ما ينتظره الناس. فأين اختفت تلك الأصوات؟ ولماذا غابت عن بقية الفعاليات، بحيث أصبحت في أوبريت «الصماد»، مثلاً، بعدد الأصابع؟ هل يمكن أن نعتبر أوبريت «لبيك يا شهيد» هو آخر ظهور لها؟
 سؤال يدل على متابعتكم لما يجري في الشأن الفني التهامي، ويفترض أن يوجه إلى قيادة المحافظة وللقائمين على إدارة اتحاد الشعراء والمنشدين ليتضح لكم ما آلت إليه الأمور. لكن ما أود قوله هو أنه لأول مرة في تاريخ تهامة، وفي ظل المسيرة القرآنية بقيادة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، حفظه الله، يتم جمع ما يقارب 80 شاعراً ومنشداً من مختلف مديريات الحديدة، وتبني إنتاجهم وإبداعهم، وتقديم كافة أشكال الدعم لهم والحرص عملياً على استمراريتهم، وهذا بحد ذاته منجز كبير أثلج صدورنا وجعل من الحلم بفتح آفاق جديدة للإبداع التهامي حقيقة وواقعاً ملموساً، لكن قيادة المحافظة -للأسف- كلفت إدارة لم تكن بالمستوى المطلوب وغير قادرة على استيعاب مفاهيم سير العمل، تاركة لها الحبل على الغارب، ومتيحة الفرصة لتجريب المجرب مراراً وتكراراً، فأصبحت الأنا والمكايدات والمزايدات وتغييب الفاعلين هي البديل، وهذا شيء محزن، لكن ثقتي هي أن الحقيقة ستأخذ مجراها، بعيداً عن سرد تفاصيل في واقع علمني أن الصبر والصمود والثبات هو أهم مقومات الاستمرار والانتصار.

دور محوري لاتحاد الشعراء
 وماذا عن دور اتحاد الشعراء والمنشدين؟
 الاتحاد بقيادة المجاهد والشاعر الكبير ضيف الله سلمان، كان له الدور الأكبر والمحوري في ذلك المنجز بطبيعة الحال. ولا أنسى هنا أن أوجه شكري الجزيل للأستاذ ضيف على ما أولاني إياه شخصياً من رعاية؛ إذ كان له الفضل بعد الله في تسجيل اثنين من أعمالي في صنعاء.

أداء حي
 وماذا عن إسهام الفنان محمد الحلبي في الأوبريتات؟ 
 منذ الفعاليات الأولى 2014 أو ما قبلها (لا أتذكر)، وأنا متواجد فيها، وكنت مؤدياً بمشاركات حية أتفاعل فيها مع الجمهور، بعدها بدأنا بالتسجيل المسبق كعمل أوبريتي، وأترك للجمهور الحكم بمدى إسهامي فيها.

تقارب بين التراثين العراقي والتهامي
 لو أتينا إلى الجانب الفني، هل كان لدراستك الفنون في القاهرة أن تساعد في محاولة مأسسة التراث الفني التهامي؟ وهل هناك تقارب فعلاً بين التراث العراقي والتهامي؟
 سافرت إلى القاهرة للدراسة في المعهد العالي للموسيقى العربية على حساب المحافظة، وبالرغم من أني لم أكمل دراستي لانقطاع المنحة، إلا أنني استفدت من تلك المرحلة بما يخدم تجربتي والتي يمكن ملاحظتها من خلال أعمالي لو خضعت لتقييم جهات معنية بذلك، علماً أن جزءاً من تربيتي الفنية كانت على موسيقى التخت في العراق ومواويله وصوت العظيم ناظم الغزالي وأنغام منير بشير وجميل بشير، وكثير من الأسماء لفنانين عراقيين تخونني الذاكرة باستحضارها، وأقوم بأداء بعض من تلك المواويل العراقية في المناسبات والأعراس، والتقارب موجود بين التراث العراقي والتهامي، بحيث لا تكاد تفرق بينهما في الكثير من الأعمال إلا اللهجة، وليت هذا اللقاء كان لقاء مسموعا لتكتشف بنفسك.

قدرة على تجاوز المحلية
 مسحة التصوف في أناشيد البيئة التهامية. إلى أي مدى نستطيع القول بأنها مختلفة عن مسحة التصوف في الألوان الغنائية الأخرى، كاللون الحضرمي مثلا؟!
 الأعمال الصوفية، وغيرها من الألوان الغنائية الأخرى، يحتاج التعامل معها بالنسبة لي بقدر المستطاع للالتصاق بالذات الإلهية، لتخاطب الوجدان بنقاء يغذي روحا تتسم بأحاسيس تخلق مسارا نحتاجه لنجاح حياة في دنيانا يضمن ما هو مطلوب لآخرتنا. وتهامة امتازت بثرائها وتعدد ألوانها بهذه الأعمال. فواقع نشأتها في بيئة قابلة للتأثير والتأثر، وتراكمات جددت خصوبة ثرائها، ميزها بالقدرة على تجاوز المحلية إلى الانتشار الخارجي إن تم تفعيل الإمكانيات اللازمة لذلك.

تأثيرات سلبية لرواسب المراحل السابقة
 يقال إن الثراء التهامي شعراً وأصواتاً غائب عن الساحة، ولم يتم تأطيره مثل غيره من الألوان. ما أسباب ذلك في رأيك؟
 الأسباب تعود إلى عدم وجود جهات الاختصاص، وغيابها إن وجدت، وعدم وجود آليات إرشاد الإبداع المعنية للارتقاء بهم وتبني تجاربهم وتخليصهم من رواسب المراحل السابقة التي أثرت سلباً على إنتاجهم، إضافة إلى تفعيل ديمومة العمل من خلال برامج تعد خصيصا لذلك، بدلاً من انحصارها في الفعاليات والمناسبات الرسمية فقط، والتي لا تلبي الحاجة. لذلك فالعمل المؤسسي هام ليرى كل موقعه ومكانه فيه، ليتوج بتهيئة إعلام متخصص يستوعب غزارة تلك القضايا وغيرها، وهنا مربط الفرس.

سند للمجاهدين
 أين التقى التراث الحربي لقبائل الزرانيق والتراث الصوفي في تهامة؟ وهل تشكل عنه موقف ثوري اجتماعي؟ 
 بالتأكيد، وبصورة تجاوزت كل المفاهيم فعلياً لتشكل جبهة أسهمت في مواجهة ذلك العدوان المقيت، وكان التقاء التراثين رافداً مهما شكل سندا للمجاهدين في جبهاتهم، ويعود الفضل في ذلك لمسيرتنا التي هي أساسا جزء من تكوين ارتكز على ذلك، ويعتبر أهم عوامل أساس نجاحنا في الانطلاق من واقعنا الثقافي. ولعل الأوبريتات التي قمنا بها وشهادات المجاهدين بذلك أكبر حافز على الاستمرار، وعلينا كمسيرة استغلال هذه الانطلاقة لتعم باقي ميادين جوانب الحياة.

رزق.. تجربة متفردة
 ما الذي مثله ويمثله الشاعر جابر رزق لفناني التراث التهامي؟
جابر رزق ليس شاعراً فقط، بل هو في الأساس ملحن فرضت عليه الجمل اللحنية تراكيب وأوزانا شعرية غريبة، ذلك لأنه امتلك مخزوناً تراثياً من الجبل والسهل والساحل، بل تواصل حتى مع الجنوب والبحارة الذين كانوا بدورهم يشكلون له إطلالة على العالم. ولا ننسى أنه استفاد من وجود الأتراك علماً موسيقياً كاد يدفع روحه ثمنا له. كل ذلك أنتج تجربة تفردت بهوية يحتاجها كل فنان يمني، وليس الفنان التهامي فقط، للوقوف أمامها بجدية، فهو الوحيد الذي امتلك القدرة على أن تسمع في كل عمل من أعماله جميع ألوان الغناء اليمني. الكلام عن جابر رزق لا ينتهي؛ ولكن الوقت في هذا المقام لا يتسع لأكثر من ذلك.

قامات فنية
 علاقة الفنان محمد الحلبي بغيره من فناني تهامة، كالأستاذين أحمد تكرير وعلي ذهبان (رحمهما الله) وغيرهما؟
 الأستاذ أحمد تكرير رجل ذو تجربة عريقة، ومن القامات الهامة في اليمن. كان يقف إلى جانب المواهب الصادقة، وأضاف لنا معلومات هامة عن تأثير موروث تهامة على الموروث الغنائي في الجنوب. كانت تميزنا علاقة مازالت تلازمني حتى اللحظة، رحمه الله.
أما الأستاذ علي ذهبان فرحيله ترك فراغاً يكبر باستمرار، لم يقدر أحد على ملئه. خسارة لا تعوض، وبيئتنا لم تقدم الفرص المطلوبة لاستغلاله، كنا نشكل ثنائياً طربياً في الأعراس التي نلتقي فيها أسبوعياً، كمنشد وفنان، بتناغم يسعد الناس.

خلاصة تجارب عديدة
 كيف استطاع الفنان محمد الحلبي أن يخلق شخصيته الخاصة ضمن الإطار العام؟
 أنا جزء من آليات موروث ثقافي (إنشادي ديني ودنيوي وغنائي وموسيقي) نشأت فيه وتربيت على إحيائه، وبالنسبة لي يعتبر مسألة هوية وجود وكينونة، امتد من ماض عريق تناقلته وطورته أجيال فأفرزت بداخلي تلك الثقافة والقناعات، وإنني أعتبر نفسي خليطاً لخلاصة تجارب من سبقوا ومن عاصرتهم، وأيضاً الجيل الذي بعدي، ومازلت محتاجاً لأتعلم كل يوم حتى من طفل، ولا أرى أنني ارتقيت إلى مستوى هذا السؤال.

أكثر من 100 عمل
 هل هناك أعمال غائبة عن المستمع للفنان محمد الحلبي؟ وما هي تلك الأعمال؟
حالياً كمرحلة أولى، لدي أكثر من 100 عمل من مختلف ألوان الموروث الغنائي في تهامة فقط، منها ما هو جماعي ومنها ما هو فردي ويحتاج إلى تهيئة المكان المخصص وما يلزم لذلك. أنا وفريقي موضوعنا كبير، وقد أحتاج إلى عمر ثان -أستاذي العزيز- لتنفيذ ما عندي.

من أجل حماية الموروث اليمني
 إشكالية الغناء اليمني بشكل عام أين تكمن في رأيك؟ وما المشاريع أو الخطط المستقبلية التي تتطلعون إليها؟
 المراحل التي مرت بها البلاد أثرت على موروثنا سلباً، وجعلته عرضه للضياع والاندثار والنهب. ومن المهم جداً توثيقه وجمعه ووجود صياغة تقنن الأمور والتعريف بأهمية أنه جزء لا يتجزأ من الحياة العامة وتهيئة الفرص لبناء الثقة في المعنيين لتعطيهم دفعة لعطاء أفضل، وإنشاء أكاديمية مخصصة لذلك.

الوهابية دمرت تراثنا ما الذي تركه الاجت
ياح الوهابي من أثر سيئ على البيئة الصوفية التهامية، وعلى الفن التهامي عموما؟
 باختصار، عقود مرت عانينا منها وأثرت سلبا على ثراء موروثنا عن طريق استخدام فتاوى لامست جهل العامة، والآن وبمعطيات شرعية وهابيي التحالف يرى أن وجودي بهذا الخصوص خطأ لا بد أن يتم تصويبه بمحوه من الوجود. وبدأ في ذلك من خلال ما قام به في المناطق المحتلة من هدم للأضرحة وتحريم لإحياء الموالد والمناسبات الدينية، من زيارات وحضرات صوفية. والباقي بالنسبة له مسألة وقت -لا قدر الله- ليتمكن من التخلص من آليات ذلك الموروث التي أنا جزء منها.

  كلمة أخيرة تودون قولها من خلال صحيفة «لا»؟
 من أهم أهداف العدوان طمس هويتنا وثقافتنا، وعلينا زيادة تكثيف وتفعيل العمل الثقافي، فهو الوحيد الذي يضمن جبهة تعبر الحدود وتسرع بتوصيل هويتنا الحضارية لمن يجهلها؛ بل سيشكل رافدا يسهم في تنمية البلاد والنهوض بها.
وأوجه كلمة إلى قيادة محافظة الحديدة: لقد ثبت من خلال الفعاليات أن العمل الإنشادي بمحافظة الحديدة مثل فخراً لكل اليمنيين وجبهة إعلامية أسهمت في صد العدوان، وينتظرونه بكل لهفة، فلا تتراجعوا عن الخطوات الأولى التي ميزت المحافظة عن غيرها، وعليكم إعادة تهيئة الظروف التي ينتظرها كل اليمنيين منكم كما تعودوا.