علي نعمان المقطري / لا ميديا -

الانتهازية السياسية هي أبلغ تعبير للفساد السياسي الذي لا منجى منه ومن نتائجه المدمرة على القوى الوطنية والأوطان والثورات، وكثير منها قد سقطت في هوة التخريب الانتهازي، فالانتهازية السياسية ليست منتجا خارجيا يمكن تجنبه وعدم استهلاكه، بل إنها في الحقيقة جزء من كيانات وتكوينات النفس البشرية وروحها المضطربة الأنانية الجشعة والأطماع والحيف والغمط والحسد للغير والرغبة الجامحة في إلغائه.
وتتجلى أبرز مظاهرها وأشكالها في كل الحركات السياسية البرجوازية والإقطاعية واليسارية والقومية والبعثية والتقليدية على السواء، فليست مقصورة على الرجعيين والاستعماريين وحدهم، ولكنها مختلفة في الدرجة فقط من حيث الشدة والضعف والوتيرة والمستوى الذي تبلغه، ولكن قبحها يظهر بصورة أكثر شراسة وخسة في الحركات الوطنية التحررية الشعبية الواسعة، لأنها أكثر القوى استهدافا من قبل العدو الإمبريالي الاستعماري والرجعية، وسيادة روح العفوية والعشوائية والتجريب وانعدام المنهجية النظرية والاستراتيجية الواضحة للقوى الوطنية وتدني استعدادها وضعف حصانتها من مؤامرات خصومها وأعدائها، وعدم إدراكها الرشيد لحقيقة العدو والصديق والحليف الحقيقي والمزيف، وكان هذا من موروثات الحقب الاستعمارية الإقطاعية الطويلة التي هيمنت لقرون على الوعي الإنساني والشعبي، وشكلت توجهاته ومقدماته ونتائجه سلفا، واغتراب النخب الطليعية عن حقائق مجتمعاتها وثقافتها الوطنية والتاريخية ووقوعها تحت التأثير الأجنبي فكريا وتعليميا وثقافيا ومنهجيا وخبراتيا وقيميا.
ومنهج التخريب الإمبريالي للثورات يبنى على تلك المقدمات البنيوية التي أسسها خلال سيطرته الطويلة، بحيث تستند إلى تزوير سابق للتاريخ والثقافة والفكر والأحداث والعقائد، وتغيرات في المزاج والنفوس والطبائع والقيم والمفاهيم تؤسس لها المدارس والأكاديميات والمراكز والجامعات وحركة النشر والطباعة والترويج والدعاية ومراكز الفكر والعقائد المصاغة بالتوافق مع الاستراتيجيات البعيدة للإمبريالية والاستعمار لمصالحها وأهدافها الكبرى.
هكذا رأينا قادة مشوهين في البناء والفكر والعقائد والقيم والعلوم أنتجتهم مصانع تلك الحقب البائسة، وقد ابتليت بلادنا بالكثير من أولئك الحمقى الذين -سواء بحسن النية أو بسوئها- وجدوا أنفسهم خير من يمثل المصالح المعادية للأمة ولو بطريق غير مباشر، ولكن النتيجة واحدة في نهاية المطاف، فكثير منهم كان يتخيل أنه يخدم شعبه وبلده في النهاية وبإصرار على تصوراته المشوهة ورؤيته للأحداث انطلاقا من مفاهيم ضيقة ومن صراعات مناطقية وإقليمية وقبلية وطائفية وأيديولوجية وحزبية وفصائلية، وبعضهم وجد نفسه قد أضحى مسؤولا وقائدا سياسيا لجماعة من جماعاته أو عصبه أو فئاته الضيق الاتجاه والأبعاد، وهو ما عانته القوى الوطنية من اختراقات ومشكلات مازالت تعاني من آثاره، وتقف كحجر عثرة أمام تقدم حركة التحرر الوطني لاستكمال التحرير الشامل للوطن من هيمنة الأجنبي والاستعمار والاحتلال.

الجنوب اليوم في مركز الاستهداف
هناك أناس يحاولون تزوير التاريخ الجنوبي الوطني التحرري بالدس عليه قصصا لا وجود واقعي لها ولا أصل، مستغلين الثقة الممنوحة لهم في الصحافة الوطنية ليكتبوا في المناسبات الوطنية بهدف الاحتفاء بها، ولكن كثيرا ما يتحول الترحيب والتهنئة إلى نحيب وإلى نعي قاس مزلزل، بخاصة حين يمتد إلى محاولات تحليل التاريخ التحرري وفقا لأهوائهم الخاصة بعيدا عن الواقع والتاريخ الفعلي، فيتحول إلى سطو على التاريخ وعلى الحقيقة معا، والمصيبة العظمى أن ذلك يجري أحيانا في الصحافة الرسمية الحكومية كالثورة أو اليمن الصادرتين عن المؤسسات الرسمية العامة، وليست ملكا خاصا لأفراد أو جماعات خاصة يمكن لها أن تعرض وجهات نظر متعارضة قابلة للدحض والجدال والخلاف، وأن تعرض أفكارها الخاصة بها كاتجاه لا يعكس وجهة النظر العامة والرسمية والوطنية والمصالح العليا للوطن وهو يواجه العدوان، فهي لا تمثل حزبا أو جماعة أو فئة سياسية معينة من حقها أن تعرض وجهات نظرها الخاصة بها، لكن الأمر ليس كذلك من أساسه، فكيف يمر الموقف الضيق الخاص الصراعي من قبل أناس رسميين يتولون القيادة لهذه الصحف ويشرفون عليها وعلى سلامة توجهاتها الوطنية الجامعة دون أن ينبسوا ببنت شفة أو يحتجوا ويوقفوا مثل ذلك الرجم المتفلت وغير المعقول واللامسؤول على أقدس مقدسات التاريخ الوطني الحديث للجنوب اليمني الثائر ولقيادته الثورية الوطنية الوحدوية ممثلة بالجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل مفجرة ثورة أكتوبر الشعبية الوطنية وقائدتها إلى النصر والاستقلال الوطني الناجز الكامل.
وهذا ما حدث بمناسبة الاحتفال الأخير بعيد الاستقلال في 30 نوفمبر الماضي، فقد امتلأت صحيفة الثورة بالأخطاء والإساءات التاريخية الجائرة لقيادة الثورة في الجنوب اليمني المحتل ولجبهتها الثورية القومية قائدة الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني بدون منازع والسباقة إلى منازلة الطغيان البريطاني السلاطيني وحيدة في الميدان حتى أجبرت بقواتها الشعبية الثورية المنظمة المستعمر على الرحيل بعد أربع سنوات من القتال ضده وضد قواته وعملائه أبلت خلالها بلاء حسنا لا ينكره إلا ظالم أو أعمى، وبغض النظر عن أي أخطاء سياسية أو عسكرية قد وقعت فيها فهذا لا يلغي حقيقتها ودورها الطليعي التاريخي الذي أدته في تاريخ الحرية والاستقلال الوطني للبلاد وفي تاريخ اليمن كله.
أن نسمع بعض الأساطير من أفراد أعمتهم أحقادهم الضيقة وخلافاتهم وأطماعهم ومطامحهم الذاتية غير السوية، فهذا من طبائع الأحداث والتاريخ، أما أن نقرأ هذه الأساطير في صفحات الجريدة الرسمية للوطن وللجمهورية وللثورة الجديدة أيلول، فإننا نشك أن الثورة قد وصلت إلى ذلك الموقع الحساس، وإلا لما مرت تلك الترهات التخريبية المسيئة التي سمعناها، والتي لم يجرؤ حتى عفاش نفسه على أن يقولها ويروج لها في دولته وسلطته.. أم أن اختراقات بقايا الثورة المضادة الناعمة قد تسربت إلينا دون علم قيادة الثورة التي انشغلت بما هو أهم في مواصلة دفع العدوان ومشاكله، فوجدت تلك البقايا الفرصة لتكيد كيدها وتسرب سمومها وتثير تناقضاتنا وصراعاتنا الثانوية لتفكيك جبهتنا الداخلية بإيقاد نيران الماضي المشوه وتفرعاته بعيدا عن المعركة الأساسية الراهنة، وهي الاستعداد لجمع صفوف الوطنيين الجنوبيين اليمنيين بشكل أساسي ليتمكنوا من المشاركة الفاعلة في تحرير مناطقهم ومحافظاتهم المحتلة إلى جانب الجيش واللجان الشعبية والشعب اليمني كله. ولكن هل هذا يخدم المعركة الوطنية التحررية أم يضرها ويعوقها؟ وهل هناك من يعتقد أنه يستطيع تجاوز الوجود التاريخي للجبهة القومية بكل اتجاهاتها الوطنية ورموزها وقادتها التاريخيين، وأن يحقق قفزات نوعية على الطريق التحرري الاستقلالي للجنوب دون امتداداتها وتاريخها وخبراتها وجماهيرها وكوادرها، وقد كانت ملء السمع والبصر طوال عقود من الحركة والنشاط والإنجازات وبناء الدولة الوطنية المستقلة الموحدة.
كل عاقل يعلم أن ذلك مستحيل الآن كما كان في الماضي، فالتحرر الوطني الحالي المنشود لن يتحقق من خارج البنية الثقافية الوطنية الاجتماعية التحررية السابقة الممتدة التي أسست وجذرت وغرست وأقامت مداميك التحرر والاستقلال والتحرر الاجتماعي ورفعت إنسانية الإنسان وحطمت قيود الاستغلال والاستعباد والاضطهاد الطبقي والأجنبي وأزالت التهميش واستعادت كرامة الآدمي لأول مرة في التاريخ اليمني الحديث والقديم، ووحدت الأقاليم والولايات والسلطنات والدويلات المختلفة والمتحاربة في دولة مركزية وطنية واحدة موحدة يتقاسم فيها الناس جميعا وسائل العيش والسكن والعلاج والتعليم والخدمات والتوظيف والحماية الاجتماعية دون احتكار أو تمييز طبقي أو مناطقي أو قبلي أو فئوي، وهذا أصبح اليوم من التراث الوطني الشعبي التاريخي وجزءاً من الهوية الوطنية الشعبية وعماد أيديولوجيته الثورية التحررية. والشعب في الجنوب هو من يحكم على التجربة التي مر بها، وليست القوى الموتورة وعناصر الثورة المضادة وبقايا السلاطين والشيوخ الإقطاعيين ووكلاء الإنجليز والاستعمار والرجعية الدولية.
وهل هدم هذا التاريخ يمكنه أن يقيم أساساً جديدا للوحدة الوطنية على أساس من التلفيق التاريخي ولي عنق الأحداث لتتوائم مع حساسيات بعض الأفراد والجماعات العارضة في التاريخ التي كانت مجرد إعاقات لا إضافات فيه وإليه من أجل إرضائها وحدها على حساب الحقيقة والعدالة يتم السماح لها بالعبث بتاريخنا وهويتنا الوطنية.

أوقفوا تزوير التاريخ في الصحافة الرسمية للدولة الوطنية اليمنية الصامدة التي تواجه نفس الاستعمار الذي كان قبل نصف قرن يحتل الجنوب، وكانت الجبهة القومية وحدها صاحبة الفضل الأول في تنظيم الشعب للقتال ضد الاحتلال وتحملت مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية والإنسانية والبشرية والاجتماعية، بينما كانت أحزاب عدن والمحميات الرعوية للاستعمار يحاربون الثورة وقيادتها وتنظيمها ويكشفون أسرارها ويغتالون قادتها معنويا وسياسيا ثم جسديا، لأنهم كانوا مستفيدين من المستعمر واستمراره، وكثير منهم كانوا موظفين لديه في إدارته وحكومته ويحصلون على أعلى الامتيازات المادية والاجتماعية، أي أنهم كانوا يلعبون لعبة المستعمر وحسب توجيهاته واتجاهاته، وماذا يريد في نهاية المطاف، ويتقاسمون الأدوار والمصالح معا.
والمعروف جيدا أن منصب رئيس الحكومة ومناصب الوزراء في حكومة الاحتلال في مستعمرة عدن والأقاليم لم تكن تعطى لوطني يؤيد الثورة أو حتى محايد، أو لأي شخص لا علاقة له بالدوائر الداخلية الخفية والسياسية والأمنية والاستراتيجية البريطانية، ومن ثم فإن المناصب الرفيعة كانت كلها تحت سيطرة الحاكم البريطاني الكبير أو المندوب السامي البريطاني، وكانت المناصب الرفيعة لا تمنح جزافا للناس والأشخاص وفقا لخبراتهم وإنما وفقا لإخلاصهم للمصالح البريطانية أولا واستعدادهم لخدمتها وخدمة قادتها ومخططاتها. وكانت بريطانيا تختارهم وفقا لتقارير المخابرات الخاصة عن سيرهم ومواقفهم وتربيتهم واستعداداتهم والضمانات التي يقدمونها لكي تضمن ولاءهم، فليس من المعقول أن تسلم قيادة الحكومة والمناصب لأشخاص غير معروفين ولا يضمنون لمن يوالون ويطيعون.
هناك من يحاول أن يقارب الوضع في الجنوب بالوضع في مصر الملكية المستعمرة وبالنحاس باشا وسعد زغلول باشا ومكرم عبيد وحزب الوفد، الذين كانوا إقطاعيين وباشوات ووكلاء للاستعمار وتربيته أيضا، ولكنهم وقفوا إلى صف شعبهم وقادوا ثورة دستورية في العام 1919، كخطوة على الطريق السلمي لإقناع الإنجليز بالخروج من بلدهم ومنحهم الاستقلال، ولكن هل فعلا منحوا الاستقلال والحرية والجلاء عن مصر أم كان مجرد خداع للشعب شارك فيه الإقطاع والباشوات والرأسماليون، وكلهم في الأصل أجانب عن مصر، إذ كان جلهم امتدادا للاحتلال التركي العثماني ولعنصره القومي الغريب عن مصر، وقد تحولوا إلى كتلة متحدة تدافع عن المصالح المشتركة للعناصر الأجنبية في مصر استباقا لثورة حقيقية لا بد أن تندلع يوما ما من قبل الفلاحين المصريين وأبناء مصر المعذبين في وطنهم، وبالتالي فإن مثل هذه المقارنة هي مقارنة باطلة من الأساس، وإلا لماذا اضطر المصريون للقيام بثورة إذن؟ ولماذا أمموا وصادروا أملاك الإقطاع وأراضيهم، وأملاك الرأسماليين الكبار الأجانب والشركات الأجنبية والبنوك وغيرها، وتصفية طبقات الإقطاع والرأسمالية الطفيلية ووضع حد للملكية الزراعية؟ 
إن كل من خدم في حكومات الاستعمار والسلاطين يعد واحداً من وكلائهم وعملائهم، وهذا ما تقوله الوثائق التي تكشف عن الاستعمار في عدن والجنوب، ويمكن الرجوع إليها، وهذا الوصف أكثر ما ينطبق على الأصنج ومكاوي وباسندوة والجفري والحبشي، فهم وكلاء رسميون للدوائر الغربية والسعودية ومثلهم ياسين سعود نعمان، وغيرهم.
إن منبع إشكالية الثورة في الجنوب كان يكمن في البيروقراطية العسكرية المصرية التي استهدفت تدجين حركتها والتحكم فيها والمساومة عليها مع العدو للحصول منه على تأمين خروجها من اليمن بقواتها بسلام بعد أن أرهقتها الاستنزافات السعودية البريطانية، أي التوصل إلى حلول وسط معه دون تحقيق استقلال كامل وجذري في دولة مستقلة بلا أي بقايا استعمارية، ولا التفريط بأي شبر من التراب الوطني ودون إشراك عملاء الاستعمار والسعودية في حكم الاستقلال وقيادتها والسيطرة عليها أيضا. 
إن عجز جهاز المشير عامر في تليين الجبهة القومية ودفعها إلى المساومة والتبعية التامة له وللجهاز العسكري والأمني المصري واندماج القيادات في لعبة الإفساد والغواية والبقشيش، وجذب الأتباع إلى شخصه ودائرته الفاسدة التي كانت قد دمرت الدولة والجيش المصري والثورة العربية وتحالفاتها القومية والدولية وبينها البين في كل بلد عربي اعتمد على الدعم المصري بإثارة الصراعات والاحترابات الداخلية للفوز بمقاعد الحكم بأي أثمان، وكانت سوريا والعراق وشمال اليمن ومصر نفسها أمثلة بارزة ومخيفة لما يرسم من مآلات لحركة الثورة القومية العربية ومركزها في القاهرة وما ينتظرها من نكسات ونكبات بسبب أسلوبه في القيادة الذي كان ينم عن جهل وتخريب وفساد واختراق في وقت واحد، وهو ما تكشف بوضوح لاحقا.
إن عجزه عن إجبار وإخضاع الجبهة القومية قد اضطره إلى التضحية بها في سوق المساومات السياسية الفاسدة.
وفي الشمال كان واضحا مناوراتهم الانتهازية للمقايضة بالثورة وقيادتها مقابل مراضاة السعودية والغرب والسماح لهم أن يخرجوا من المستنقع اليمني بعد أن عجزوا عن إدارته، أي تسليم اليمن للسعودية مقابل مكاسب مالية تعوض بعض خسائرهم.
كان القادة المصريون المسيطرون على اليمن والجنوب الثوري التحرري يستغفلون الناس إلى درجة كبيرة ومقززة، يعتقدون أنهم وهم يتعاملون مع القادة اليمنيين بأنهم يتعاملون مع كائنات متخلفة لا تفهم شيئا عن أي شيء في العالم وفي اليمن نفسه، ولذلك حاولوا قسرا إجبارنا على بلع جميع الأساطير والترهات البائنة سخفها وتفاهتها وتغيير أسمائها وحسب.
وكان هذا المنظور الاستعلائي يشمل كبار القادة الرسميين للجمهورية الذين يعتبرون مجرد واجهات فقط لا حقيقة فعلية يتوجب احترامها، وهذا ما صرحت به مذكرات ومؤرخات الكثير من القادة، ومنهم المشير السلال نفسه الذي احتج أكثر من مرة على تلك الممارسات التي يقودها المشير عامر ورجال الدولة المصرية المعنيين باليمن.
فقد ظل المصريون يساومون بالسلال نفسه في مواجهة الأحداث في البلاد لإرضاء بعض المشائخ الرجعيين صنائع السعودية، فكانوا يرسلون السلال إلى القاهرة ويمنعونه من العودة إلى صنعاء، حيث كان يقضي الأشهر الطوال في القاهرة بلا صلاحيات ولا سلطة فعلية، بينما هم يتصرفون نيابة عنه في ما يعلم ويريد وفي ما لا يعلم ولا يريد، ويتيحون الفرص للمعارضة الرجعية المسعودة المعروفة لكي تصول وتجول، وأن تسيطر على الحكم وقيادة الجيش برعايتهم هم، وحتى تفلت الأمور في البلاد بشكل صارخ يجعلهم يخافون نتائج الانهيار عليهم وعلى وجودهم وقواتهم وأمنهم المباشر، فيضطرون إلى إعادة السلال لبعض الوقت ثم يقومون بإبعاده إلى القاهرة ليبقى هناك مجددا لأشهر طوال. وهذه الآلية بدأت منذ العام الأول للثورة اليمنية، وكان هذا يفضي إلى تدهور الأوضاع أكثر فأكثر في ظل الفراغ والفوضى العارمة، وكان ذلك في حقيقته استجابة لطلبات ومناورات الرجعية والاستعمار معهم خلال الاتصالات والبحث عن مخرج لأزمتهم في اليمن بطريقة انتهازية وفاسدة جوهرها السماح بالخروج بدعم مالي سعودي مقابل تنازلات سياسية وطنية في الجنوب والشمال، أقلها تسليم الحكم في صنعاء لحلفاء وعملاء السعودية وتسليم الجنوب وقيادته لرجال السعودية والاستعمار، وهذا ما تكشف طلاسمه كل المذكرات والتواريخ التي ظهرت واتضحت الآن.
وكانت تلك الأزمات التي أصيبوا بها في اليمن أغلبها ناتج عن سلوكهم المتعمد، وليس عن اليمنيين الذين كان أغلبهم يحلمون بالتغيير والحرية والخلاص من الأوضاع القديمة الخانقة، ويحلمون بالجمهورية والوحدة والأخوة والتقدم والتحرر والاستقلال واستعادة الأرض اليمنية والحقوق المسلوبة، ولكن سلوكهم الفاسد والاستفزازي الاستعلائي قد حول قطاعاً كبيراً من القبائل اليمنية الشمالية إلى أعداء والالتحاق بالملكية السعودية بعد أن شمت رائحة السيطرة المصرية الخارجية على اليمن واعتىبارها ملحقة بمصر ولا قيمة لحكومتها وحكامها حقيقة، وهذا ما سمعوه كثيرا في لقاءات شيوخ القبائل مع المشير عامر، فقد كان يفتقد الرزانة والكياسة في التعامل، ولا يستطيع التعامل مع البلاد إلا بمفهوم الإقطاع والأتباع والعمودية مقابل فلاحين أجلاف يعبدون القرش ويسيرون بالكرباج والخداع ولا عقول لهم، وكان كثير الجهل بالتاريخ الوطني الحضاري لليمن وعاداته وثقافته وطبيعة صراعاته ومشاكله وحكمته.

وكانت تلك الصورة المزرية عن اليمن ورجالها قد رسمها رجال المعارضة في القاهرة طوال عقدين وحملها المشير السادات وقادتهم وكانت في أساسيات فهمهم لليمن ومشاكله، وهي مأساة.
ومما يرويه العديد من المؤرخين ولو مقربين لهم أيضا أن المشير عامر قال بصريح العبارة في أكثر من مناسبة لممثلي الحكومة اليمنية إنهم "كده وكده"، أي مجرد ديكورات فقط وليسوا حكومة حقيقية، فالحكومة الحقيقية هم من يحددونها ويوجهونها ويشكلونها، لأن ذلك يخدم مباشرة أهدافه وأغراضه، لكنه يضرب في الصميم، أي تخريب الجبهة الوطنية المعادية للعدوان والاستعمار في الجنوب والشمال على السواء، ويسمم أجواء الكفاح التحرري الوطني الراهنة، لأنها تشوه الماضي وتستثير تناقضاته الثانوية بدون ضرورة، لأن الماضي لا يمكن أن نراه بشكل سليم برؤية الأصنج وباسندوة وهادي والعبدلي وسلاطين المستعمرات وبعث صالح والإخوان والوهابية، فهي قوى رجعية عميلة للاستعمار والسعودية في الماضي والحاضر، ولن تكون إلا كذلك.
وهناك شيء هام جدا لا يمكن إنكاره أو تجاهله ولا يجوز ذلك من كل عاقل وطني له عينان ووجدان شريف أياً كان مشربه الفكري السابق، وهو أن الاستقلال والتحرير الوطني للجنوب لن يتحقق أبدا من قبل قوة أخرى غير الجبهة القومية، وعلى النحو الذي تم فيه ذلك التحرير (معاركه، نتائجه، وتوقيته)، لأنه تم في اللحظات الأخيرة لبقايا النهوض العربي والوطني وحالة الصعود القومي قبل النكسة والهزيمة في يونيو 67 والتي مازلنا ندفع أكلافها ولم نخرج منها إلى الآن، وكل ما يجري إلى الآن هو نتائج لتلك النكسة العربية الشاملة التي انعكست فورا على الثورة في اليمن عبر انقلاب 5 نوفمبر67 الرجعي السعودي الأمريكي، وحصار العاصمة لإسقاطها وإدخال اليمن تحت الهيمنة السعودية الأمريكية الاستعمارية التي مازلنا إلى اليوم نحارب للخروج منها.
ومحاولة ذبح ثورة الجنوب عبر جبهة التحرير البديلة لجبهة التحرير القومية الواقعية القائمة فعليا لا كلامياً، كان ومازال جريمة بحق الوطن والثورة والتاريخ والحقيقة، لأنها محاولة لاستبدال جيش الكفاح الثوري القائم لصالح جيش إعلامي وهمي غير موجود في الميدان إنما يمارس الخيانة الذاتية والوطنية والقومية في حقيقته.
كما أن كل محاولة لتسليم قيادة الثورة وسحبها من أبنائها لصالح أشخاص كانوا ضد الثورة أصلا هو ليس سياسة ولا وطنية إطلاقاً، وإنما هو أقرب إلى الدعارة السياسية التي تجيدها المخابرات البيروقراطية التي أثبتت أنها أقدم الأجهزة والوسائل لذبح أي ثورة في العالم بأسرع وقت، والدليل ما حدث في مصر. 
أما الحديث التبريري اللاحق عن ضرورة لم القوى والشمل بين الثوار وبين الآخرين من وكلاء الاستعمار والسلاطين فهذا كان من الهلس والشعوذة، والذين لديهم ذرة من المنطق كانوا سوف يجربون حظهم في مواجهة المستعمر على الأرض كقوة إضافية يمكن الترحيب بها، فلماذا يحاولون إجبار القوى الثورية الحقيقية على تسليم قياداتها ومعسكراتها وأسلحتها وكل الإمكانات المادية والمعنوية والخروج من الميدان، وتسليم المقاتلين لهم ليقودوهم هم، ويتحول الثوار إلى مجرد تابعين لهم أو إلى السجون والمعتقلات، واغتيال القادة والعناصر النشيطة ضد المستعمر، فبأي عقل أو منطق يستقيم هذا العمل المشين الذي لم يعرفه التاريخ من قبل.
إن ما حدث في مصر من نكسات كانت بدايته هي المؤامرات هنا في اليمن والجنوب والشمال ضد الثورة في صنعاء وعدن معا، ولكن إصرار وعزم الجبهة القومية وتضحياتها وقوة بأسها قد منعت حصول المؤامرة في الجنوب وأنقذت الثورة والتحرير والاستقلال الوطني والوحدة.
وكما قال عبدالناصر لقيادة القومية عشية النصر الكبير، أنتم أنقذتم الثورة اليمنية والثورة المصرية أيضا في رفضكم المؤامرة والاندماج مع جبهة التحرير العامرية (المشير عامر)، لأن الهدف لم يكن ما أعلن، بل ما كان مبيتا يجري على الأرض من أفعال وسياسات وتصرفات ونتائج كان عامر مركزها الرئيسي ونتاجه وما يهدف من خراب للثورة العربية وأجهزتها ومنظماتها وقادتها الحقيقيين بواسطة لعبة الاستبدال بالممثلين والديكوريين.
والدليل هو الآتي من الواقع المعاين وأهمها إثارة مجموعة أسئلة واقعية والإجابة عليها: فأين كانت (الجبهة التحريرية المذكورة)؟ وبالتحديد في أي مناطق من الجنوب؟ ومن أخرجها من مناطقها إذا كانت لها مناطق تحتلها أو حررتها؟ وأين هي أصلا؟ هل كانت خارج الجنوب؟
أين كانت قواتها؟ وما حجم القوات تلك بالضبط؟ ومن قادتها ومن شهداؤها وضحاياها وجرحاها في الكفاح الوطني؟
لأن من يريد أن يجبرنا على القبول بها قيادة وقوة ومرجعية لا بد أولاً أن يقنعنا بوجودها الفعلي على الأرض خارج الإعلام ومعارك الكلام والبلاغات الأدبية والمبالغات، وأن يقنعنا بصدقية وسمعة الأشخاص الذين أتى بهم ليجبرنا على قبولهم بالقوّة كقيادة، وهل نحن إلا متطوعون للوطن أو موظفون معه، وما أغبى تلك القرارات والسياسات التي حاول فرضها المشير عامر ومخابراته، وكأن اليمن كانت ضيعة أبيه أو أمه أو عزبته الخاصة، وقد كان هذ يثير الغضب والسخرية والأسئلة القاسية حول نوايا مصر الحقيقية في اليمن، ولماذا هي مصممة على تخريب ثوراتنا لصالح الأعداء؟ ولماذا ترسل إلينا تلك القيادات؟ ولماذا تسيء إلى الدور القومي التحرري؟ إن الإجابة على هذا وحده تكفي كل عاقل يريد أن يفهم الواقع والحقيقة.
إن الهجوم السياسي والفكري على الجبهة القومية لم يتوقف منذ انفجار ثورة أكتوبر وقبلها، وهي مازالت مشروعا وحلما لم يتحقق على الأرض بعد، حين كانت ماتزال تخطو خطواتها الأولى التحضيرية التي بدأت منذ العام 58 منذ تم تأسيس خلاياها الأساسية في جنوب اليمن وشمالها، وهي تستعد وتجمع الأنصار والمواقف لأجل المهمة الكبيرة، وهي إطلاق الكفاح التحرري الثوري المسلح، لأن أشكال الكفاح الأخرى السلمية والسياسية قد استنفدت أغراضها وأهدافها ولم تحقق النتيجة المطلوبة، وهي إجبار الإنجليز المستعمرين على الخروج من البلد ومنحه الاستقلال الناجز والكامل.
وكانت القوى الوطنية القديمة التي نمت خلال الأربعينيات والخمسينيات لم تحقق الاستقلال رغم نشاطها وحركتها الطويلة، بل إن المستعمر ووكلاءه كانوا قد ركبوا فوق رأس الحركة النقابية الشعبية وزوروا الحركة وأهدافها وقادوها إلى حلقة فارغة من الكلام، وكان على رأس هؤلاء العملاء الأصنج نفسه وزبانيته الأقرب مثل الجفري والحبشي وباسندوة ومكاوي وغيرهم، كانوا يدعون التغيير ويلعبون لعبة المستعمر نفسها في وقت واحد، وكان موقفهم المعلن وعملهم الرئيسي اليومي هو الدعوة إلى إدانة ورفض وتجريم الثورة المسلحة والسخرية من ثورات الدراويش، كانوا يسيطرون على عقول الشعب آنذاك ويخدعونه، وكانوا منسقين مع الموقف البريطاني السياسي المناور والتكتيكي في التظاهر بالقبول بالاستقلال والحديث عن تفاوض معهم وإيجاد قوى معتدلة تحاور في مؤتمر لندن الدستوري، وغيرها من وعود وأوهام كان يطلقها حزب العمل البريطاني في لندن وتلقى صداها في الصحافة العدنية عبر صحافة هؤلاء القوم أنفسهم، وكان الاستعمار بواسطتهم يشتري الوقت ليحقق انتصارات على محاور القتال الرئيسية في ردفان وجبهاتها باعتبارها مركز وقاعدة الثورة ومركز ثقلها الرئيسي.
هذا الحديث عن الجبهة القومية هو أبسط ما تستحقه من الوطنيين والكتاب الذين يقفون في صف الوطن ضد العدوان الاستعماري الإمبريالي الرجعي الذي مازال مستمراً، وقيمة الجبهة القومية أنها كانت أول قوة وطنية في اليمن تخوض معارك الاستقلال الوطني للجنوب اليمني وتحرره في ظل مؤامرات القوى الانتهازية العربية واليمنية معا التي كانت تناور للمساومة على قضايا الثورة  والاستقلال مع الملك فيصل ومع بريطانيا مقابل بعض المكاسب الأنانية وللخروج من ورطاتها التي ورطت بها الموقف العسكري العربي والوطني والتي تستطيع الخروج منها لو اتبعت سياسات حازمة مبدئية ضد المستعمر والرجعية السعودية.

كان المستعمر والرجعية السعودية يشنون حربا شعواء على اليمن الجمهوري وعلى حركة التحرر الوطني جنوبا بهدف السيطرة على الجنوب بعد رحيل بريطانيا، إضافة إلى السيطرة على الشمال بعد رحيل المصريين وعودتهم إلى بلادهم.
وجوهر المؤامرة الذي تبلور في مؤتمر جدة بين فيصل وعبدالناصر حين قضى الاتفاق على سحب القوات المصرية من اليمن بدعم سعودي مقابل تخلي مصر عن مواصلة دعم الجبهة القومية المتشددة في الجنوب وإبعاد السلال عن الحكم في صنعاء لصالح القوى القبلية من أنصار السعودية أو ما سميت القوى الثالثة، وفي الجنوب تسلم مقاليد الاستقلال لصالح القوى المعتدلة (السلاطين والشيوخ ومثقفي الليبرالية البريطانية العدنية من الإخوان والأحزاب المهجنة والرابطة) ليقوموا هم بالمفاوضات مع بريطانيا على الاستقلال ورعاية وضمان مصالح بريطانيا في المنطقة بعد الاستقلال وبإشراف السعودية في إطار قيام كيان إقليمي تحت رعاية السعودية دون أن يضم إلى الشمال أو تحقيق الوحدة اليمنية لأنها خطر على السعودية وعلى أمنها القومي كما تردد دوما، مع إجراء تعديلات حدودية تضمن أمن المملكة، وأن مصداق ذلك في تسليم بريطانيا قبل خروجها أراضي جنوبية واسعة على الحدود مع حضرموت وشبوة، وأخيراً منها الوديعة وشرورة والخراخير، تمهيداً لضم الجنوب تدريجيا إلى الكيان السعودي كما حدث مع نجران وجيزان وعسير اليمانية.
وكانت القيادة المصرية في اليمن عانت في 64 و65 من الضغوط الشديدة للخروج من اليمن بعد أن طالت آماد الحرب وتكبدت مصر خسائر كبيرة بشريا وسياسيا وماديا وعسكريا وتحولت إلى بؤرة استنزاف واسعة. 
ولكن الجبهة القومية وقيادتها الثورية دافعت عن خيارها الوطني الاستقلالي الناجز وعن محتواه الوطني الاجتماعي المستقبلي وعن استقلالها هي كقيادة وكحركة وطنية ثورية لا تخضع لأي مساومات سياسية بين الدول الإقليمية والاستعمارية والرجعية ولا تقبل الخضوع لإملاءات الخارج ولا الخروج عن برنامجها وعن ميثاقها الوطني المقر بالإجماع من قبل برلمان الثورة ومجالسها الوطنية الجامعة، ولا تقبل التدخل في الشأن الداخلي وإثارة المنافسات والخلافات بين أطراف الثورة التحررية واستغلال الأطراف ضد بعضها لتمرير أجندات سياسية ضيقة الأفق لا علاقة لها بالثورة والاستقلال والتحرر الوطني.
كانت القيادة العربية في تعز وصنعاء تريد أن تمسك بيديها مصائر القيادات الوطنية وتحركها حسب مصالحها هي وتقديراتها السياسية، وهي تقديرات كانت خاطئة تماما وليس لها منطق مقبول أو معقول، وكانت تتحجج أحيانا باليسارية المتشددة في صفوف الجبهة، وأحياناً أخرى تتحجج بالحزبية والتنظيمات الحزبية السرية للجبهة، وكانت تتدخل في تعيين القيادات الثورية وتقيم الفيتو على البعض الآخر، تقيم جيوبا تابعة للمخابرات المصرية مباشرة من خلف ظهر القيادات الشرعية ورغما عنها، وقد أقدمت على سحب قسم من قوات الجيش الثوري في الضالع وضمه إلى منظمة التحرير التي شكلتها لاحقا بقيادة الشيخ عبدالله المجعلي وآخرين من الجبهة القومية، أي أنها كانت تنظم انشقاقات مستمرة ضد كيان الجبهة القومية لإضعافها وإضعاف مسار الثورة عموما، وعندما أدركت أن الجبهة القومية لن تخضع للمناورات قررت أن تعالج الموضوع بالأسلوب الأمني المخابراتي التخريبي، فشنت حملات اعتقالات للقيادات في تعز وصنعاء والقاهرة، ثم أغلقت معسكرات الجبهة في الشمال في الحوبان وغيرها من المناطق الأخرى، ثم في النهاية أصبح جميع المناضلين القوميين محل مطاردات وملاحقات وإبعاد.
وفي نهاية 65 ومطلع 66 كانت الحرب الثورية ضد البريطانيين بقيادة الجبهة القومية للتحرير الوطني قد انتقلت من الدفاع إلى الهجوم والتقدم لتحرير باقي مناطق الريف الجنوبي وبخاصة في مناطق الشرق البعيدة عن مركز الصراعات والمعارك التي تركزت بدرجة رئيسية في الغرب وفي عدن ولحج وأبين والضالع وردفان، وبعد أن سيطرت الجبهة القومية وقواتها على مناطق واسعة والتفاف الشعب حولها وتشكيل ألوية وكتائب وسرايا ومجاميع وفصائل المتطوعين والفدائيين والجيش الشعبي واللجان الشعبية الثورية والمجالس الثورية والجماهيرية التي وصلت سيطرتها إلى أقصى مناطق المهرة وظفار وحضرموت وإلى الأطراف الغربية الاستراتيجية في جزر كمران وميون والشيخ سعيد وإلى سقطرى وعبدالكوري وجزر كوريا وموريا في الشرق الجنوبي البحري الاستراتيجي المسيطر على الطرق الملاحية الهامة بين القارات والجهات العالمية والمتحكمة بإمدادات الطاقة الدولية الغربية والشرقية.
وقد حققت ذلك قبل انعطافة السياسة المصرية نحو اليمين الوسط باتجاه مراضاة السعودية والغرب الأمريكي البريطاني بهدف شراء أمن الجيش المصري وإعادته أو السماح له بالعودة إلى مصر بعد أن أصبحت تكاليف الجيش العربي في اليمن لعدة سنوات كبيرة جدا فوق الخسائر البشرية التي وصلت إلى حوالي 20 ألفاً بين قتيل وجريح، وكان سوء القيادة هو أهم عامل من عوامل الخسائر والإخفاقات الجمهورية المصرية واليمنية، ونقلت المعارك الكبرى إلى عدن مركز القواعد البريطانية وثقلها الاستراتيجي وتوسيعها والتي وصلت لاحقا إلى مستوى السيطرة على مدينة عدن العاصمة وحكمها المباشر لمدة أسبوعين بعد إسقاط السيطرة البريطانية فيها في معارك كبرى التحامية شارك فيها آلاف المقاتلين من الجانبين، وقد خسرت القوات البريطانية المعركة على الأرض أمام قوات التحرير الشعبية القومية من جيش التحرير والفدائيين والمتطوعين الوطنيين ومن الجنود الوطنيين المنضمين للجبهة القومية من معسكرات عدن.
وبعد أسبوعين استقدمت بريطانيا فرقاً متخصصة جديدة من بريطانيا عبر الجو والبحر، وقامت بإعادة احتلالها مجددا في معارك شوارع مضنية مكلفة من حي إلى حي ومن شارع إلى شارع ومن منزل إلى منزل، وكانت العملية السياسية التي نظمتها طوال السنوات السابقة قد تم تفكيكها وتخريبها بالنضال الشعبي والمظاهرات الجماهيرية والعمليات العسكرية في عدن وغيرها، وتم حرق المجلس التشريعي، وهو اللعبة التي كانت بريطانيا تستخدمها لإغواء قطاع من سكان المدينة المستعمرة لإبعاده عن الثورة الشعبية الجارية، وكان مكاوي والأصنج وباسندوة والجفري والحبشي والعبدلي والعولقي في رئاسة الحكومة العميلة، ومسؤولين في النظام الاستعماري القائم وأساسه، وقد تم إسقاطه بفضل نضال الجبهة القومية ورجالها ومناضليها وشهدائها.
وفي الريف كانت المعارك قد وصلت إلى تحقيق انتصارات ميدانية كبرى في ردفان والضالع والشعيب ويافع ولحج وأبين وغيرها ضد القوات البريطانية المعسكرة هناك، وبدأت تفر من الريف إلى عدن والمدن وتدفع بقوات المرتزقة القبليين الذين جندتهم.
وكانت النتيجة هي سيطرة الجبهة القومية على مناطق واسعة من الريف اليمني المحتل وتحشيدها لآلاف المقاتلين الوطنيين من القبائل الوطنية والجماهير التي تطوعت بأسلحتها وزوادتها وانضموا إلى قوات جيش التحرير الشعبي والفدائيين في المحافظات الريفية استعدادا لاجتياح القواعد البريطانية في عدن والحواضر اليمنية والمراكز. وهنا أدرك المستعمر أن نهايته قد اقتربت، وأن عليه احتواء التطور واستباقه بالرهان على "المعتدلين" والانتهازيين والوكلاء والموظفين وأصحاب المصالح اللامشروعة، ورسمت الثورة وإنجازاتها على الأرض المعادلات والاتجاهات المؤطرة للتطور القادم، وتحددت المواقف والمآلات والمصائر للجميع، وأصبح كل طرف أمام استحقاقاته والتزاماته ومصيره ومستقبله، وكانت لحظة تاريخية حاسمة، وكانت أهم سماتها انتصار الجبهة القومية في مواجهة المستعمر وسلاطينه وعملائه كشيء مؤكد، وإفشال المشاريع الاستعمارية السلاطينية الرجعية الانفصالية في الإقليم، وهي الأوراق التي حاول المصريون اللعب والمناورة بها على حساب الخط الثوري الجنوبي واليمني عموما، وكما شرحنا هذا نتيجة اختراق الأجهزة الأجنبية في القيادة العسكرية البيروقراطية المصرية كالسادات وشمس بدران وصلاح نصر والمشير عامر وغيرهم، وكانوا يصنعون السياسات حول عبدالناصر ويضغطون عليه باستمرار لإحداث سياسات متراجعة ومتصالحة مع الغرب والرجعية العربية بعد أن زادت ضغوط الشعب المصري حول مصير أبنائهم البائس في اليمن، وعلى وقع الإعلام الغربي والعربي المضخم للأحداث هناك لأهداف سياسية.