مجاهد الصريمي / لا ميديا -

عندما تسير في ركاب الأدب وترتوي من منابع الشعر، تجد نفسك وقد جعلت بين جوانحك وطناً تبوئه لكل أبناء وطنك، وتلمس في ذاتك ذوات كل من حولك وتتحسس بصوتك أصواتهم.


حين يشقى الناس أشقى معهم
وأنا أشقى كما يشقون وحدي

هكذا قال البردوني. وهكذا تتابعت مسيرات شعراء كانوا رسلاً من دون وحي، وأنبياء بلا معجزات، فلطالما تلألأت معاني الحكمة العملية من سفر شاعر ولطالما أشرقت شمس ثورة من جبين قصيدة.
واليوم، عزيزي القارئ أضع بين يديك عبير جُرأة تقودك إلى عوالم بشار بن برد، وتهديك إلى رحاب فلسفة وحكمة أبي العلاء المعري، وتنتهي بك إلى حس الانتماء للهوية والتجسيد لها واقعاً لدى البردوني. كل هذا جاد به ضيفنا الشاعر محمد أحمد علي المُسلمي، ليس لأنه أعمى، فالعمى لا يكفي، بل لأنه واحد من العميان الذين استطاعوا بالأدب والشعر أن يصنعوا عالماً مصغراً خاصاً بهم، وفتحوا بالشعر وغيره عيون المبصرين على كل الوجود.
شاعرنا من محافظة ذمار، مديرية عنس، ولد عام 1968م، متزوج وله ولدان وأربع بنات. يقول لنا: لقد وجدت نفسي يتيماً في ظل وجود أبي فتضاعف حجم مأساتي حين أوصد الحرمان -نتيجة عماي- كل الأبواب علي، وجعل من بيتنا قبراً لا يحق لي الخروج منه إلا إلى محراس القات أو إلى فقيه قريتنا لتعلم القرآن، ومع أن مركز النور لرعاية وتأهيل المكفوفين كان قد فتح ذراعيه لكل كفيف ليكون منه قاعدة انطلاقته في المجتمع، وليتزود بذخيرة المعرفة لمواجهة كل معترك على هذه الحياة، إلا أن أبي حرمني من الالتحاق بالمركز نظراً لقناعة مغلوطة تجد العمى مدعاة لإلحاق العار والشعور بالنقصان..
واستمر الشاعر يبدي المرارة تلو المرارة، والحسرة بعد الحسرة، وكاد الصمت أن يتمكن من إغلاق نافذة الضوء المنبثقة عن هذا الوجه ليبقيه في عالم النسيان دافناً له بأسراب كثيفة من عتمة الظلمات الحالكة، لولا أننا استرددنا أنفاسنا محاولين الإمساك بدفة الحديث بما لا يسمح لأي عثرة أن توقفنا، فقطعنا حبل انجذابه لغور أوجاعه بسؤاله: متى تأسس مركز النور؟ فكان الجواب مزلزلاً بالنسبة لنا لأنه تأسس في زمن الشهيد الرئيس إبراهيم محمد الحمدي، فقلت في نفسي: يا لعظمة هذا الرجل! خلد نفسه في نفوس كل فئات المجتمع، ليفتتح خلال 3 سنوات عمراً يعيشه كل جيل كقيمة وقضية ومبدأ. رحم الله الحمدي ونحن على مقربة من ذكرى استشهاده موصلين خطانا بخطواته وباعثين وجودنا بدفق دمه.
وأردف شاعرنا يقول لي: يا بني ليس العدوان السعودي وليد اللحظة، فقد عملت السعودية إلى جانب الأعراب بمساندة قوى الاستكبار على تجويع اليمن وإفقاره، وجعله تابعاً ذليلاً لهم، ولي في هذا قصائد كثيرة. ولأنك داهمتني فليس لدي مما كتبته في هذه المرحلة، لكن سأسمعك قصيدة أظنها لا تزال حية حتى اللحظة، وقد كتبتها في عام 1994م، قلت فيها:

ألا يا أيها الليل إن الليل يطويني
يعربد خوفه حتى تجسد في سلاطيني
دعوني أحتسي ألمي على شعبي على ديني
فحبهما تدفق في الحنايا والشرايين
بتضحيتي سأزرعه وروداً في بساتيني
وأجعل لعنة الرحمن تجري في دواويني
إلى الأعراب أبعثها تمور بها براكيني
فدور الحكم والحكام أثّر في الشياطين

تجولنا في ربوع موهبة شاعرنا، انتهينا من باب فتح لنا ذلك الباب 100 باب، ولأننا في رحاب شاعر وبمعية أديب فقد أردنا معرفة علاقة الشاعر المسلمي بالشعر، فأخذتنا الدهشة حين قال: علاقتي بالشعر لا يمكن وصفها، وحبي له فوق كل حب، فالشعر هو الذي مكنني من دخول مركز المكفوفين في مطلع الثمانينيات، وحينها كتبت أول قصيدة لوالدي الذي كان مغترباً، وقد تمكنت من خلالها أن أنتزع موافقته على أن أدرس وأتعلم! ومع أنها لم تكن ذات قيمة شعرية من الناحية الفنية والبنائية إلا أن قيمتها في ثمرتها ومردودها على كل حياتي.
ويضيف: والشعر هو الذي زوجني. نعم تزوجت بقصيدة! فلقد جاء أبي إلي وكنت حينها في الإعدادية قائلاً لي: لا بد من أن تتزوج، وإن لم توافق فأخوك الأصغر أولى... فلم أوافق حينها على الزواج، لأني أعرف تبعاته وخصوصاً أني بلا مصدر دخل يمكنني من أن أعيش حالة من الاستقرار والراحة، ولأن أخي لم يتزوج إلا وأنا في المستوى الثالث في قسم اللغة العربية لجامعة صنعاء، مع أن أبي خطب له وأنا في الإعدادية، فحز ذلك في نفسي وأرسلت لأبي هذه القصيدة:
بدأت باسم الإله الواحد العلام
ذي كافل العبد والمتفضل القهار
في البدء اصلي على من بلغ الاحكام
باسم ربه وآله سيد الأبرار
بعد الصلاة يا رسولي قوم بالإفهام
للوالد أحمد وقل له عننا الأخبار
وقل له ابنك طوال الليل يتألم
ساهر وراسه غدا مشحون بالأفكار
يا آح لي آح من باطل عليّا دام
أدمى خفوقي وعيشني عنا محتار
جعلت يا ابه دروبي مثقلة ألغام
والغيتني من حسابك دون سبق انذار
نظرت لي باستهانة وابتدرت اكوام
من الإهانات واستبدلت بي مسمار
يا والدي صح أنا أعمى بس بني آدم
أحس أعي أسمع استوعب أريد أختار
كافحت عانيت واليت الدروب أعوام
من أجل أثبت لكم بأن لي مقدار
كم زاور الجوع بطني كم دميت أقدام
وجبهتي كم عمود عانق لها وجدار
كم حفرة ادخلتني بطنها واسقام
تلقفتني ولا جاني شقيق أو جار
وجيت باول عدادي تغزل الأحلام
إما زواجة وإلا دَور اخوك البار
المبصر الجيد الحالي خطاه انغام
بنات كل المحل من عشقته في نار
وحال ربي بفضله بين ما له رام
الوالد احمد وخي صايم بدون افطار
واليوم يا ابه بحق الله والإسلام
بحق خير البرايا المصطفى المختار
يا والدي لا متى با ألبس الإحرام
واعيش ما بين جني الورد والإبحار
واسمع لأيوب يعلن لحظة الإتمام
لفرحة العمر واشجى الطبل والمزمار
وامي مع خالتي واختي تفوق تام
بالمحجرة والمباخر والذمول افتار
يا ابه إذا بي ترفقتو فحسن ختام
والله ربي وربك يمنحك أعشار
وإذا تجاهلت واستكفيت بالهنجام
فالله يعميك ويجعل مستقرك نار
في يوم يلقى الجميع ما قدموا واحكام
ربي سرت وانت انتبه واختار
من قبل تطوى الصحايف أو تجف اقلام
حدد وإمسح عن الوجه الحزين اكدار