بقلم / أنس القاضي / صحيفة لا -

الجوانب السلبية الأخرى، التي ترد في بعض الزوامل، هي تلك المضامين الجامدة الميكانيكية، المنافية لحركة الجدل التأثيري، والتأثير سنة الحياة، حيث ترد مضامين تصور الإنسان اليمني بأنه كائن أسطوري أو جسد ميت أو صخرة يتلقى الضرب من العدوان ولا يتأذى ولا يتوجع!
هذه الصور ترد بأشكال كثيرة، وتقوم على فصل الجانب الإنساني والعاطفي من الإنسان اليمني، ليصبح آلة في الحرب في مواجهة العدو، أو جسداً ميتاً يتلقى طعنات العدو ولا يتأذى. ويمتد المعنى إلى نفيه التاريخ والمجتمع فيتحول اليمني بكله إلى مقاتل أسطوري غير بشري، وهذا خطأ فلسفي.
إن منشأ هذه التصورات وهذه التفسيرات للوحة الوجود اليمني خلل معرفي لدى هؤلاء الشعراء، أو مبالغة شعرية تجاوزت الواقعي والموضوعي وباتت رجعية. فحين يعجز شعراء الزامل عن تفسير الصمود اليمني في مواجهة العدوان، فهو يلجأ إلى خلق خرافة تملأ هذا الفراغ المعرفي، فقد اختلق اليمنيون قديما شخصية «أحمد الرامي» ليجيبوا على سؤال كيف تمرض البقر وتموت خلال ساعات أو ليلة واحدة فيما كانت متعافية، شخصية أحمد الرامي أتت للفقر المعرفي في إدراك نوع ذلك المرض.
في الوقت الحالي، فإن القصور المعرفي عن إدراك عوامل الصمود اليمني في مواجهة عدوان إجرامي يكاد يكون عالمياً، هذا التفسير يجعل الوعي الاجتماعي يبالغ في سمات الإنسان اليمني حتى يعطيه الشعراء صفة «الأسطوري»، والأسطوري هو الخارق للطبيعة، فمعظم الأساطير مثل «هرقل» تصور البطولات الكبيرة بأنها من أعمال بشر «أنصاف آلهة».
تصوير الإنسان اليمني كإنسان خارق صامد، لأنه إنسان يمني مميز عن بقية البشر، هذا التصوير مناف للواقع؛ فهو يتجاهل جانب المظلومية وينفي كل الأوجاع والآهات والآلام التي يعاني منها المجتمع اليمني الصابر عليها والصامد رغمها، وإذا لم تكن هناك أوجاع وآهات وآلام فعلى أي شيء سيكون صامداً وصابراً!
إن ندرة ذكر جانب المظلومية في الزوامل مسألة سلبية وعيب أدبي وفني ومنهجي، فصمودنا وانتصارنا قائم على مظلومية ومعاناة، فتلك الأم التي تطلق النار استقبالاً لولدها الشهيد تذرف الدمع في ليال أخرى.
وقد نبه قائد الثورة السيد عبد الملك الحوثي لهذه المسالة في أحد خطاباته بمناسبة أسبوع الشهيد، حيث أكد الواقع من أن اليمنيين ليسوا وحوشاً وبأن الشهداء كبقية الناس يملكون عواطف ومشاعر وأحاسيس وقصصاً بل إن عواطفهم هي من دفعتهم للفداء. إن تصوير اليمني كجسد ميت له صمود أسطوري غير بشري ولا واقعي يتناقض مع مضمون حديث قائد الثورة عن الشهداء، ومع حديثه الدائم عن تضحيات الشعب وأوجاعه ومعاناته.
قصيدة الشاعر عبدالسلام المتميز من الزوامل النادرة التي تتضمن عنصر المظلومية، حيث يقول: «أشوف أشلاء الأطفال وثكلى دمعها حرى. أقوم اتحزم الآلي وأحط النار في المجرى». 
فالسياق البطولي في هذه البيت غني بالمضامين الإنسانية، وهو عرض مشهد مجازر العدوان وآهات الشعب التي تجعل المواطن اليمني ينهض حاملاً البندقية واضعاً الرصاص في مجرى النار، متجهاً لردع العدوان والانتصار للمظلومية. فكل بطولاته يجترحها استناداً إلى حافزة الإنساني، وصموده في الجبهات قائم على مسؤولية الانتصار لهذه الدماء ومنع العدو من إيذاء بقية الأمهات والأطفال. في هذا السياق يكون الصمود إنسانياً واقعياً اجتماعياً. ومثل هذه الأبيات لها دور محفز يستنهض الناس للمقاومة استشعاراً للمسؤولية. أما حين يكون اليمني صلباً في ذاته فلا حاجة للانتصار ولا مسؤولية دافعة والنصر مضمون مسبقاً!

الشكل والمعنى 
ومن ضمن الظواهر السلبية، في الجانب الشكلي، هو الاهتمام بالشكل والقافية، على حساب المعنى الذي يضعف ويقترب من الحديث العادي. وفي أحيان كثيرة يؤدي اللهث بعد القافية إلى إنتاج معان جديدة تتنافى مع الواقع، وتكشف ضعف ثقافة الشعراء، سواء الثقافة السياسية أو القصور في الإلمام بالمفردات اللغة العربية الغنية.
وعلى سبيل المثال: «دام رب الكون عوني وحسبي/ هاتوا أمريكا وجيش المجوس». فالمجوس كمفردة وردت في زامل «اشمخي يا هامتي عام رابع والتحالف يحووس»، جاءت من أجل القافية فيما ليس لها أي ضرورة دلالية، فلا يوجد عدو مجوسي في العدوان على اليمن، بل إن الجمهورية الاسلامية الذي يُشير إليها مرتزقة العدوان بأنها مجوسية، وأصبح مفهوم «مجوس» في خطاب العدوان دلالة عليها ليست ضمن جيوش العدوان.

جاء أيضاً في زامل (الطاهش البطاش): «هو عبد للصهيونية يخدم/ لوهو لحربي كفو ما اتلثم/ ويقدم السوداني والأحباش». فمفردة الأحباش لم يكن لها ضرورة وجاءت لكي تستقيم القافية، وهي تصطدم مع حقيقة تاريخية، وهي أن دولة أثيوبيا لم تشارك في العدوان على اليمن، فكيف يتم التعبئة ضد الأحباش! 
وفي زامل «مغازي الليل» أيضاً تكرر ذات الخطأ، والذي دافعه استقامة القافية، دون اهتمام بتصادم الزامل مع الحقائق التاريخية. يقول شاعر الزامل: «في كل ظهر ارتزح يا حلـف واتركّا واعلن تماسك قوى عظمى لتفكيكي/ هات الدواعش من الموصل ومن عكّا وارسـل كولومبي ونمساوي ومكسيكي». جاءت «المكسيك» في أمريكا اللاتينية و»عكا» في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقط من أجل القافية، فيما لم يشارك من هذه الدول أي مرتزقة، كما أن هذه الدول ليست دول شائعة في تجنيد المرتزقة، والصحيح من هذه الدول والمدن كولومبيا التي يقاتل بعض مواطنيها مع بلاك ووتر.

أصداء سياسية مهرجانية

ظاهرة الصدى السياسي الجاف، أو البيان والتقرير السياسي، هذه المشكلة والجناية السياسية على الأدب، تعم مختلف الأشكال الأدبية والفنية والجمالية وليس الزامل فقط، فهذه الظاهرة انتقلت إلى الزامل. وكما أنها جانب سيء وسلبي في الشعر عموماً وفي الرواية والفيلم واللوحة التشكيلية والكاريكاتير، فهي أيضاً جانب سلبي في الزامل.
إن ما نقصده بظاهرة الصدى، هو أن الخطاب الشعري في الزامل -وغيره- يصبح صدى للخطاب والموقف السياسي، أي أن المضمون السياسي ينعكس إلى النص الإبداعي انعكاساً جافاً ميكانيكياً غير إبداعي، فهناك فرق بين أن يحضر المضمون السياسي في العمل الشعري بطريقة إبداعية وبين أن يصبح العمل الإبداعي بياناً وموقفاً سياسياً موزوناً ومكتوباً بطريقة الشعر، إذ لا بد للمثقف والفنان من موقف.
الخطابية والمهرجانية في الشعر كأصداء سياسية، ليست ظاهرة جديدة على الزامل فقد تطورت معه، فقد كانت مهرجانية من حيث أن الزامل يُعبر عن حال معين بأبيات قليلة عند حشد كبير، لكن الخطابية والمهرجانية الجديدة التي هي إحدى الظواهر السلبية في الزامل هي الخطابية والمهرجانية التي تتجلَّى كبوق سياسي، فيصبح الزامل هنا بوقاً لموقف ومهرجان: على سبيل المثال: زامل الأنصار والمؤتمر حين قيام تحالف المجلس السياسي الأعلى، فهذه المناسبة تم إعداد زامل لها يحتفي بها، فكان الزامل تغطية إعلامية لهذه المناسبة لا يختلف عن تغطية نشرة الأخبار. فتعليقاً على هذا الاتفاق وردت عبارة مجازية لقائد الثورة بأن من لا يرضى عن هذا الاتفاق يدق رأسه بأكبر حجر، فجاء محتوى زامل «قل للمنافق دق رأسك دقها بأقسى حجر»، مكرراً ذات مضمون خطاب السيد، بدون أي إضافات إبداعية فقد كرر ما قاله سابقوه عن الصمود والوحدة والحكمة وذات الصور الشعرية التي تصور صمود الشَعب بالجبال والحيود وغيرها، بل إن الاستعجال في كتابة الزامل كصدى سياسي مواكب جعله يأتي بصور ساذجة، منها على سبيل المثال: «موقف مشرف فز له راسي و طنب بالشعر» فهنا تكرار لذات الإحساس، فزة الرأس وطناب الشَعر، وهو على كل حال تفاعل شعوري غير عميق، فالمواقف الأكثر تأثيراً تهز الوجدان لا شعر الرأس.
ومن ضمن المظاهر السلبية والاحتفالية، هو الزامل الذي أنتجه المنشد عيسى الليث خلال  ساعة من دخول سلاح طيران المسير «صماد» إلى المعركة. فكلمات الزامل لا تحمل أي قيمة شعرية وأدبية؛ فما تم إنشاده وتلحينه هو نص أقرب ما يكون إلى شعارات تظاهرة مسجوعة، ومن «أبياته» ما يلي: «طار المسير وهيض الحاني فوق الاعادي كم يحوم ويطوف/ طار المسير والمنتج يماني يفرد الجنحان ويرمي المقذوف/ طار المسير منتج يماني يفرد الجنحان يرمي المقذوف يقصف المهفوف».. إلى آخر الزامل.
ومن هذه الزوامل، التي تأتي كأصداء سياسية وكاحتفالية مواكبة، زامل «الدفاع الجوي»، البائس بالصور الفنية، الأقرب إلى التقرير السياسي المُلحن، وقد بلغت التقريرية في هذا الزامل، حد قوله بأن السعودي لأنه ليس كفؤاً في المعارك البرية يقصف من الجو، وقدمت كتعبير شعري: «ولن ما هو في المعارك كفوي/ ب الإف ستعشر يظلي ضارب». وهذه ليست بصورة شعرية؛ فالشعر هو أن تخلق الصورة المكثفة المدهشة من التعبير البسيط، كقوله تعالى في رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه «فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر»، هذه صورة فنية رائعة، لا تقارن بقولنا، منهم من مات ومنهم من سوف يموت.