أنس القاضي / لا ميديا -

يُعد الزامل الفن الشعبي الأول في اليمن -في الوقت الراهن- واللون السماعي الأكثر حضوراً، تجده في كل مكان سماعاً جماعياً وفردياً وفي مختلف المناسبات، يسمع له الكبير والصغير وينشد له بحماسة الشباب والمراهقون، ويستمع له حتى الخصم، وانتشرت تسجيلات منه في عدد من دول العالم، وهو بإيقاعه ولغته قريب من نفسية المجتمع اليمني غير غريب عنه. 

إن حضوره الطاغي على المشهد الفني اليمني راهناً لاتساقه مع الأحوال النفسية المرافقة للحرب، يتطلب الاهتمام البحثي لمضمونه. وليست المشكلة مع مضامينه الإيجابية الإنسانية الثورية الوطنية الرجولية الفروسية، بل المشكلة مع المضامين والظواهر السلبية التي طرأت عليه نتيجة لعدم وجود حالة نقدية مواكبة له تهذبه، مما يهدد فن الزامل ويعيق تطوره، وهو الذي تطور من حيث المضامين إلى مضامين راقية إنسانية وثورية ووطنية وحماسية فروسية، وكذلك تطورت فيه الصورة الفنية، حتى تكاد ترى ما تسمعه. وسيكون من المؤسف أن يتراجع عن هذا المستوى. 
تكمن خطورة الظواهر السلبية في الزامل أنها تكرس قيماً غير إنسانية، وتقدم تأويلات وتفسيرات غير صحيحة، وتحوله إلى بيانات سياسية وأصداء جامدة للسياسة غير إبداعية، هذا من حيث المضمون، وفي الشكل طرأ التكلف والاضطرارية لملاحقة القافية.
في هذه المقاربة، سنتناول بالنقد الزوامل الراهنة المرافقة لعملية التصدي للعدوان، باعتبار هذه الزوامل إنتاجاً شعبياً يعكس جزءاً من الوعي الاجتماعي اليمني في هذه المرحلة المحددة تاريخيا، وليس إنتاجاً خاصاً بأنصار الله، مع عدم إهمال حضور أنصار الله الكبير فيه عبر شعراء مرتبطين عضويا بأنصار الله فكرياً وحركياً. 
إن هذه المقاربة عن الظواهر السلبية في الزامل ليست دراسة شاملة لكل الزوامل المسموعة، بل تم أخذ عينات منها على سبيل المثال، وليست شاملة لكل الموضوعات السلبية والإيجابية، فهي مساهمة تنوه إلى بعض الظواهر السلبية، وتدعو إلى أن يحظى الزامل بنقد علمي من قبل متخصصين في الأدب والفن.

تصنيف الظواهر السلبية في الزامل 
اعتمدتُ المنهج الوصفي التحليلي في قراءة الزامل، وتم تقسيم الظواهر السلبية من وجهة نظر الكاتب، إلى موضوعات محددة، هي الموضوع القيمي في بحث ما يرد من جوانب قيمية وجمالية سلبية. وظاهرة أسطرة الواقع التي تصوِّر اليمني كائناً غير بشري صامداً لا يتأذى كجثة لا توجعها الطعنات ولا تنزف دون مظلومية. كما تناولتُ كذلك الجوانب السلبية الشكلية التي تجعل الكاتب يضطر لوضع مفردة وجملة لا ضرورة دلالية لها حتى يستقيم الوزن والقافية، وظاهرة التسطيح التي تحول الزوامل إلى بيانات سياسية جامدة وصدى ميكانيكي للتحولات السياسية دون إبداعية وجمالية. 

منشأ الزامل وتطوره 
زامل اليوم، الذي نحن بدراسته، هو امتداد متطور للزوامل القديمة. وقد ظهر الزامل في البيئة القبلية المحاربة اليمنية وكان لسان حالها، فمن حيث الكم ليس طويلاً، بل يرتجزه الطرف الأول (المبدع) فيرد عليه الثاني ولا يزيد عن بيتين. ومن حيث النوع فهو أوسع؛ إذ يشمل مختلف أحوال الحياة القبلية، فيقال عند قدوم الضيف وعند الولادة وعند الحرب وعند الزواج وفي مواقف الصلح والدعوة للسلم...إلخ. ولم تكن الحرب إلَّا أحد موضوعات الزامل. ونتيجة لغلبة واقع الحروب القبلية اليمنية، أصبحت الحرب الغرض الأشهر. ومن هنا تأتي خشونة الألفاظ وتغلب مفردات الحرب والأسلحة والغزو والثأر؛ فقد استقل الزامل بمفردات حربية خاصة تختلف كثيراً عن مفردات الشعر الحميني الذي هو نتاج بيئة مدينية، وعن مفردات المهاجل والمهاود السائدة في البيئة الزراعية، الأقرب إلى لطف المفردة والعبارة والصورة الجمالية. 
جرت على الزامل تطورات كبيرة فتغير عما كان عليه سابقا، فقد ازدادت عدد أبياته، وتقبل مضامين مدنية ديمقراطية ثورية. كما كان لأنصار الله منذ انطلاقتهم دور في إغناء الزامل وتحميله مضامين قرآنية كالحق والعدل، ومضامين سياسية عالية كالمقاطعة والاستعمار والاهتمام بشؤون عربية وإسلامية، بعد أن كان محصوراً على القبيلة ومعبراً عن عصبيتها. كما أن الزامل تهذب بعد تلحينه بألحان أقرب إلى الغنائية وإضافة المؤثرات الصوتية عليه، وهو يعمل على حفظ التراث اليمني من الألحان، وهو تراث غني ومتنوع بشكل مدهش.
رغم تطور الزامل، فمازال يحمل سمات من رواسب ماضي الصراعات والعصبيات القبلية كتمجيد الحرب لذاتها والثأر والانتقام والتنكيل والغزو، والتباهي بالبداوة والانفعالات الجاهلية. ومع ذلك، فكثير من الرواسب القديمة تطورت دلالتها، فالثأر والغزو والتنكيل لم يعد موجها ضد قبيلة ومنطقة معينة، بل نحو دول تحالف العدوان (والمرتزقة المحليين المؤلفين من مختلف القبائل والمناطق والمذاهب في اليمن). برغم تطور دلالات بعض مفردات الزامل وتجاوزها الإطار العصبوي القبلي، إلَّا أن بعض رواسبه القديمة لم تتغير، ومازالت كما هي. وهي تبرز اليوم في بعض الزوامل؛ وذلك لتعدد وتفاوت ثقافات وعادات وقبائل ومناطق شعراء الزامل الذين هم متنوعون وليسوا من بيئة قبلية واحدة أو من ثقافة واحدة. كما أنهم ليسوا جميعاً من أنصار الله ثقافياً لنحاكمهم وفقاً للثقافة القرآنية المتناقضة جوهرياً مع التعصُّب القبلي ومع العدوان، والثأر والانتقام والتوحش.

الظواهر السلبية في الجانب العقائدي 
كما أن هناك ظاهرة سلبية في الزامل من حيث المضمون العقائدي السياسي، وهي في تجاوز الزامل رمزية «الحسين» و»علي» و«كربلاء» و«زيد»، كما وردت في أشعار النمري وغيره، إلى مدح أجوف للسيد قائد الثورة، وفي سياقات لا يكون مطلوباً بها مدح السيد الذي هو في مقام القائد للشعب اليمني في مواجهة العدوان امتداداً لقيادة الثورة الشَعبية 21 ايلول/ سبتمبر 2014م.
من هذه الظواهر السلبية التي ننقدها تصوير الحرب بأنها حرب موجهة ضد «ابن النبي»، رغم أن قائد الثورة يحددها كحرب عدوانية استعمارية لا حرب شخصية أو حرب «ناصبية»، رغم حضور الوهابيين فيها كأتباع لذوي المشروع الاستعماري التوسعي. بل إن السيد يُقدم نفسه بأنه مجاهد في سيبل الله وواحد من أبناء الشعب مستعد للاستشهاد فداءً للشعب وللوطن اليمني.
وأنا أفرق هنا بين الحق العقائدي في التشيع لآل البيت وللسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، فهذا حق شَخصي، وبين تصوير الحرب العدوانية على اليمن كحرب موجهة ضد شخص امتداداً حرفياً لحرب النواصب ضد الإمام علي، وتعميم هذا الخطاب على كل من لهم موقف ضد العدوان، ولهم قناعات عقائدية مختلفة. ففي هذا الطرح تجاوز للدلالة الرمزية لمفردات الحسين وزيد وعلي، وانتقال إلى الخطاب المذهبي الجاف، ونحن في مرحلة تاريخية فيها استقطابات اجتماعية وإقليمية طائفية، وليس من الرُشد تبني الخطاب المذهبي الجاف في سياق تفسير طبيعة العدوان، أو الإفراط من استخدام هذه الرموز التشيعية وذكر السيد قائد الثورة في مواضع وأحوال لا تتطلب ذلك. وهذه الرموز رغم شيعيتها في التاريخ الإسلامي فهي في ذات الوقت رموز إنسانية استخدمها أدباء كبار، فليست رموزاً «طائفية» كما يحاول البعض تصويرها. 
والخطـــــــاب الرمزي الجميل المُشبع بروح التشيُّع لشخص السيد وآل البيت، ولرموز «المهدي» والمخلص و»اليماني»، يُمثل قيمة فنية، وفيه دفئ عاطفي، ويأتي كانعكاس وجداني صاف بدون تكلف أو تعصب، وجدناه في زامل شاعر وادي نجران: « يا طير أنا اسألك بالله يا طير»، فلا يُنكره الناقد.
كما نجد بأن مدح السيد قائد الثورة في زامل «ابشر بعزك سيدي»، جاء في سياق تاريخي موضوعي، وضمن قصيدة ذات محتوى غني وموقف قوي وحكم، رغم أنه احتوى على مفاهيم ورموز تاريخية وردت في زوامل المديح الساذجة، مثل «الولاء» و»حيدرة» و»عمر بن ود» و»ذي الفقار»، إلَّا أن حضورها في هذا الزامل مغاير من حيث تاريخية إنتاج الزامل ومن حيث المقصدية في توجيه دلالات هذه الرموز، ومن حيث بنية القصيدة ذاتها.

الظواهر السلبية في الجانب القيمي 
يلعب الزامل كأحد أشكال الفن دوراً كبيراً في خلق قيم وتصورات وقناعات الإنسان، فهو مؤثر على البنية الداخلية للإنسان. وقد لعب الزامل دوراً تقدمياً هاماً في تكريس القيم الإنسانية والثورية والديمقراطية ومضامين حب الوطن والدفاع عنه، والتضحية والفداء ونصرة المستضعفين، واستطاع أن يحفز ويطور هذه القيم لدى الإنسان اليمني في فترة وجيزة، كما لم تفعل أي مدرسة حكومية وتربية حزبية. وأهمية تعزيز هذه القيم تُكتسب من الوضع التاريخي الراهن حيث تتحول هذه القيم إلى مرشداً للعمل ومحفزاً للسلوك في التصدي للعدوان. 
وعلى الرغم من قيام الزامل بهذا الدور التقدمي، فقد برزت جوانب قيمية سلبية في الزامل، هناك خطورة من تعممها وتكرسها، فهي قيم غير إنسانية وصور جمالية مشوهة وغير سوية. 
من هذه السلبيات في الجوانب القيمية، التعامل مع الحرب كغاية في ذاتها، وتصوير اليمني كإنسان عاشق للحرب والدماء، أو تصوير المقاتل اليمني كوحش «احنا رجال الموت نشرب نقيع الموت نطعم علقمه»، وكذلك الاعتزاز بالشخصية البدوية، والشخصية البدوية الخليجية هي خصمنا في هذه الحرب. منها على سبيل المثال ما جاء في زامل بحور المرجلة «بداوة طبعنا لا ثارت الهيجا نعاف النوم/ نصبّح ديرة الغازي قبل ان هو يمسّينا». 
كما تضمن الزامل صوراً شعرية تتنافى مع الجمال وتتفق مع سلوك الجماعات «الداعشية» لا مع سلوك الجيش واللجان الشعبية. ومن هذه الصور على سبيل المثال ما جاء في زامل الطاهش البطاش: «وأنا كما ربعي عراقة ومنشأ ذي نعشق الزيتي وطعفار الأمشاش». 
هذا البيت يشير إلى عشق البندقية؛ حيث عبر الجزء عن الكل في هذا المجاز، فالرصاصة «الزيتي» تشير إلى البُندقية، كامتداد للشعر العربي الذي يمتدح السيف والسلاح، وإن كان اليوم لا يحبذ عشق السلاح فهو أداة حرب. والحرب غير محببة بل مفروضة كرها كما تنص الآيات الكريمة. ومع ذلك، يمكن قبول هذا البيت إذا ما فهمناه على أنه اعتزاز فروسي في مواجهة الغازي والمعتدي؛ إلَّا أن السياق الذي جاء فيه عشق السلاح يؤكد فساد هذا العشق وارتداده عن القيم الإنسانية العسكرية الثورية السامية أو قيم الفرسان. فالشاعر يؤكد عشق «طعفار الأمشاش»، أي التلذذ بمشاهدة الدماغ وهو يتطاير، الذي جاء معطوفاً على عشق الزيتي. فالتلذذ بهذه الصورة نزعة لا إنسانية، وتسويق هذه الصورة كعمل بطولي أمر خطير يتناقض مع القيم الإنسانية لا يجب تربية النشء عليه، فالمجتمع اليمني ككل -بما فيهم الأطفال- هم من يسمعون هذه الزوامل وليس الخصم وحده. 
في زامل «با نعدم الجيش السعودي»، نجد صورة مشابهة إلا أنها مقبولة: «ما بيننا بين القبائل من رمى ما نضرب إلَّا القلب وإلا الجمجمة». هذه الصورة تتباهى بالمهارة في القنص، فهي استعراض ضد الخصم أشبه مناورة عسكرية تخيف الخصم من مواجهة أصحاب هذه المهارة، فلا يعتقد بأنهم لقمة سائغة. أما «طعفار الأمشاش» فهي توصل رسالة للخصم بأنه يواجه أناساً يتلذذون بقتل خصومهم، ليس فيهم تسام ولا يختلفون عن الخصم. وخصمنا هو من يتلذذ بالتعذيب والسحل والتمثيل بالأسرى والجرحى وليس نحن، فإذا تغنينا بقيمه فقد نصرناه! 
كما جاء في زامل «دقدقي يا دفوف»، صور دموية بشعة، منها «نغرف الدم من كأس المنايا غروف»، فصورة الغَرف تشير إلى الإسراف في القتل وإلى الدموية، فهي مبالغة مخلة وبشعة، فيما تعاهد العرب على تصوير القتل والموت بكأس المنية، فشرب كأس المنية أو سقيه للعدو، صورة ليست ببشاعة غرف الدم التي تجلب إلى الذهن مشهد بئر مليء بالدم وشخص يغترف منه ليشرب أو يصبه في الأرض!