ترفض مغادرة اسمها الأعظم العامر بالحياة..
سوريا.. صراع إثنية العصر

وهي تشارف على احتضان عام سابع يضاهي سابقيه دموية وخراباً، تقف سوريا شامخة أمام أعتى الترسانات الإرهابية العالمية، وبين فكي أذكى القوى الاستعمارية إعداداً وتنفيذاً.. تناهض وحدها قبح هذا الكون، الذي تنكر لوجودها العامر بالحياة على ظهره، ووحدها معركتها الكبرى، تعمل بكل جهد على أن تكون الأخيرة، ليس لأنها بصدد مهمة حقيقية لتطهير هذا العالم الموبوء بسواها، بل أيضا كونها سوريا.
يقول المفكر العربي الشهيد مهدي عامل: (إنك لست مهزوماً ما دمت تقاوم). ومن هنا فقط همست سوريا في أذن عامل، بأنها علاوة على صيرورة المقاومة اللانهائية، هي تنتصر أيضاً، في حين يتعذر حتى التكهن بالنجاة، وتقف في اللامكان حيث يحاولون جميعهم خلق بوابة للعدم، كيف لا ونحن نتحدث عن صراع كل الإمكانات وكل الأخلاق، صراع الإمبراطورية الإمبريالية العالمية مع عزيمة الأحرار، والنصر بعد كل ذلك ليس موضع اهتمام بقدر أسباب الصمود حتى اللحظة، فلا جدوى أبداً لمعرفة أي مصير قادم، طالما وسوريا لا تنوي مطلقاً مغادرة مسافة اسمها الأعظم. 

متى بدأت الحرب على سوريا؟
مع تفكك الاتحاد السوفييتي أصبح مشروع إقامة امبراطورية طائفية مترهلة تمثل كل أنواع التخلف والهمجية، وتقف بوجه روسيا والصين، جاهزا، وبدأت التحضيرات له. ممالك اليهود في الجزيرة العربية ومشائخهم، وضعوا كل إمكانياتهم في إعادة الامبراطورية العثمانية لتقف بوجه أي تطور وأي تقدم للفكر الإسلامي العالمي الذي يمثله الإسلام الحقيقي، كان الهدف هو الإبقاء على الإسلام التقليدي الذي يعتمد على الفتاوى الطائفية، وسيطرة ولي الأمر، لكن المخطط اصطدم ببنية المجتمع السوري، ووجود فكر إسلامي متنور، إن كان عند الإسلام السني (المذهب الأشعري)، أو كان عند الإسلام العلوي (المذهب الجعفري). كان هذان المذهبان، وهما يشكلان معظم مكونات الشعب السوري، مستعصيين على الانجرار وراء العصابات والمخططات الاستعمارية، وكل من هذين المذهبين يكنان كل محبة وصداقة للدين المسيحي وللمؤمنين به، الذي يشكل مكوناً هاماً في المجتمع.
وسوريا بتنوعها الديني والعرقي، شكلت نسيجاً كان من الصعب اختراقه، وكان يمتلك مقومات حضارية غارقة في القدم تمنعه من التصرف بشكل حاقد أو بردود أفعال حيوانية، على عكس ما كانت عليه مجتمعات مسلمي الدونمة في الجزيرة العربية، هذه المواصفات أدركها الغرب الأمريكي، فكان قرار حرب الإبادة.

القرار الأمريكي بالحرب في سوريا
اعتبر الأمريكيون أن الإسلام في الشام (المذهب الأشعري) يشكل خطراً على مخططهم الذي يعتمد في الدرجة الأولى على الدين التكفيري، وهذا مرفوض عند سنة أهل الشام، فقرروا التخلص من التيار السني المعتدل من خلال حربه الطائفية. مع هذا التيار الإسلامي العلوي، لما له من تأثير في الاعتدال السني، كونه إسلاماً ذاتياً وجدانياً خاصاً لا يتدخل في معتقدات الآخرين، منذ القدم وقد ترك بصماته عبر التاريخ في بلاد الشام. فكانت الحرب الأولى الأمريكية هي حرب تدمير على الطائفة العلوية، تم إخراجها وفق شعار تغيير النظام، ولم يكن قط هذا الشعار لإسقاط رئيس النظام، بل كانت المقدمة التي تتلوها ـ إن نجحت عملية التدمير للعلويين ـ وتدمير (المذهب الأشعري)، ولكن فشلت مؤامراتهم، وسقطت كل إعداداتهم، وخسئوا، وانتصر مسلمو أهل الشام الحقيقيون (سنة وعلويون)، وانتصر معهم كل أهل سوريا على اختلاف أديانهم وأعراقهم ومذاهبهم. 

سيناريو الحرب بالوكالة كمرحلة أولى
في الأشهر الثلاثة الأولى للمؤامرة القذرة على سوريا، رأينا حرباً إعلامية شرسة على النظام السوري، لتحويل نظرة المجتمع المحلي والإقليمي والدولي الى سوريا كمرحلة مقبلة وهدف جديد لما يسمى (الربيع العربي)، وتحديداً محاولة إظهار الدولة السورية ونظامها الرسمي بصفة القاتل الذي لا يرحم، وتحديداً بركنها الأمني، فأظهروا رجل الأمن السوري بمظهر الجندي الذي يقتل بلا هوادة، وأن هذا النظام هو نظام لا إنساني ولا يحترم الكرامة الإنسانية، وهذا النظام بركنه الأمني ورجال الأمن والجيش هم جنود نظام، وليسوا جيش وطن، ومن هذه الأشرطة البالية حينها، كانت هذه الأداة الإعلامية تبث ليل نهار، وتزور الحقائق على الأرض في محاولة لتشويه صورة الجيش العروبي السوري.
وتتحدث بعض التقارير (المؤكدة) أن ما تم دفعه من ممولي هذه الأدوات الإعلامية، وما تم توريده للداخل السوري في تلك الفترة، بهدف تأجيج وتأزيم الداخل السوري، ومحاولة شيطنة الجيش العربي السوري، وإظهاره للعالم بهذه الصورة، بلغ خلال أشهره الثلاثة الأولى ما يزيد على 102 مليون دولار، والتي دفعت حينها كبدل خدمات إعلامية ولوجستية على الأرض السورية، وتنظيمية وتخريبية، وبدلات شراء أسلحة خفيفة، والبدء بالإعداد لتشكيل هيئات محلية وحاضنات شعبية للتأسيس للمراحل القادمة.
وفي الأشهر الخمسة المتبقية من العام 2011، نجحت هذه الأدوات الإعلامية في أن تجذب إليها عقل المتابع العربي وبعض المتابعين والبسطاء من السوريين، الذين لم يدركوا حينها حقيقة المؤامرة ومدى (قذارتها).

 محاولات الانتقال إلى الحرب المباشرة 
بعد الفشل الذريع الذي حصدته الأدوات الغربية في سوريا من مرتزقة ومجاميع مسلحة ودول وسيطة، رأت الولايات المتحدة أنه لا طائل من الاستمرار على نحو مخسر، سيما ورائحة المقامرة السياسية بدأت تفوح على نطاق واسع على صعيد الشارع الأمريكي والدولي على حد سواء، فرأت الإدارة الأمريكية أنه آن الأوان للانتقال من الحرب بالوكلاء إلى حرب الأصلاء، ولكن كانت تعرف أنه من الصعب الخروج بإجماع دولي في ظل موقفي روسيا والصين الرافضين قطعياً لأي مشروع تدخل مباشر بعد الإخفاق في ليبيا.. لذا لجأت إلى البحث عن مبرر مسبوق بهالة إعلامية ضخمة تمهد الأجواء أمام طائرات الحلف الأمريكي البريطاني.

كيميائي الغوطة كجسر عبور
واشنطن منذ اشتداد الأزمة السوريّة وتحوّلها إلى حرب استنزاف دمويّة بلا أفق، فكرت بمشروع تسوية ينفّذ على مراحل. وكانت منذ عامَين على أقلّ تقدير تطرح لذلك عنوان (تسوية تبدأ مع الأسد وتنتهي من دونه). وغالباً ما وُصفت تلك التسوية بعبارة (حلّ يمني في سوريا)، بمعنى إطلاق مسار هادئ وبطيء يراعي عدم حصول انقلاب في التموضع السياسي الإقليمي لسوريا، ويحقّق التدرّج في التسوية بحيث تنطلق مع أهل النظام الحاليّين، وتصل إلى استبدال أشخاصهم بهدوء. أي أنه نوع من الحلّ الموزّع على ثلاث مراحل وقواعد: أولاً، لا تغيير للنظام الآن ولا تغيير طبعاً لأشخاصه، بل الاكتفاء بإدخال عناصر جديدة معارضة عليه وشريكة نسبياً في إدارته. ثانياً، تغيير الأشخاص في مدى زمني متوسّط. ثالثاً وأخيراً، الأمل بالوصول إلى تغيير للنظام في مدى زمني بعيد نسبياً.
ومن هنا لم يكن من الصعب على الإدارة الأمريكية خلق مبرر ومناخ مناسب لكل ذلك، فتم التحضير الإعلامي والنفسي لعملية استهداف مجمعات سكانية في ريف دمشق بأسلحة كيميائية شديدة السمية خلفت العشرات من الضحايا الأبرياء، ليدشن عقبها حملة إعلامية شعواء وتحركات دبلوماسية وسياسية على نطاق واسع تمهيداً لتحرك البوارج الحربية الأمريكية، وتشكيل عامل ضغط دولي، يفضي في أسوأ الأحوال إلى الخروج بتسوية سياسية، تحفظ ما تبقى من ماء الوجه. 
وبالفعل كادت الصورة أن تكتمل لولا حنكة الدبلوماسية السورية، وإلى جانبها الروسية، التي استطاعت ترويض الجاموس الأمريكي بخطوات ثابتة أسفرت عن فشل قرار أمريكي بالحرب على سوريا كان مطروحاً للتصويت أمام الكونجرس الأمريكي الذي رفض القرار بأصوات الأغلبية، كما وأخفقت في ضمان إجماع أممي يصوت لقرار بالعدوان تحت سقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن.

الدور الروسي في سوريا
في المقابل، لم تكن موسكو بعيدة بالمطلق عن هذا التفكير، ولو جزئياً. ذلك أن موفدين روساً اعتادوا التنقّل في مهام رسميّة ما بين دمشق وبيروت، وكان (المونيتور) الإعلامي يلتقيهم في معظم زياراتهم تلك، وغالباً ما كانوا يتساءلون: ما هي الشروط اللازمة لتأمين حلّ في سوريا على الطريقة اليمنيّة؟ قبل أن يجيبوا أنفسهم: ثلاثة شروط مطلوبة لذلك. أولاً ضمان موقع الجيش في التسوية. ثانياً ضمان مشاركة الأقليات في الحكم الجديد، بحيث لا تنتهي التسوية إلى مذبحة أصوليّة سنيّة ضدّ العلويّين والمسيحيّين والدروز وحتى ضدّ السنّة المعتدلين. وثالثاً، توافر فرصة سانحة لإطلاق تسوية كهذه.
وكان واضحاً في خلفيّة كلام المسؤولين الروس هذا، أن موسكو موافقة مبدئياً على ملاقاة واشنطن في معادلة «حلّ يبدأ مع الأسد وينتهي من دونه». لكن الشرط كي تضمن هذه المعادلة، أولاً بقاء الجيش في الحكم في دمشق كي لا تتكرّر تجارب بغداد أو طرابلس الغرب. ثانياً يظلّ العلويّون العامود الفقري لمشاركة الجيش السوري في الحكم. وثالثاً أن يأتي هذا التغيير في سياق فرصة طبيعيّة لتحقيقه، لا في إطار عمليّة عنفية أو محاولة قسريّة خارجيّة. وهو ما يضمن إطلاق آليّة الحل في الداخل السوري من دون أي تغيير في جوهر النظام، خصوصاً من دون المسّ باصطفافه الإقليمي وتموضعه الدولي. وهو ما تعتبره موسكو مصلحة حيويّة لها، وتقدّمه في الوقت نفسه للأميركيّين على أنه ضرورة من أجل إقناع حلفاء دمشق من طهران وبغداد إلى حزب الله في بيروت، بالسكوت عن تسوية من هذا النوع.

رسائل التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا
في تطور جديد للأزمة السورية، أعلنت موسكو رسميًا عن التحرك العسكري الروسي في سوريا، متمثلًا في التفويض الذي حصل عليه الرئيس فلاديمير بوتين بالإجماع من المجلس الاتحادي، باستخدام القوة العسكرية خارج البلاد. تفويض أكدت موسكو أنه يشمل القوات الجوية فقط، وأن التحرك العسكري يرتبط بأمنها القومي، ويأتي بعد طلب من دمشق.
أبعاد التفويض الروسي تترجمت مع إعلان وزارة الدفاع شن أولى الغارات الجوية ضد مواقع لتنظيم داعش، مضيفة أنه تم تدمير مخازن أسلحة وتجهيزات تابعة لها، فيما أفادت معلومات أن الضربات نفذت بعد الطلب من واشنطن إخلاء المجال، وقال سيرجي إيفانوف رئیس الإدارة الرئاسیة الروسية: (نحن نتكلم حصراً عن عمليات للقوات الجوية الروسية، وخيار استخدام القوات البرية تم استبعاده، أهم شيء هو أننا نتحدث عن سوريا تحديداً، وليس أهدافاً وطموحات سياسية دأب شركاؤنا الغربيون على اتهامنا بها).
ومهَّد بوتين لتنفيذ هذه الضربات على الأرض بالقول إن الطريق الصحيح لمحاربة الإرهاب في سوريا يتمثل في ضربات وقائية ضد الإرهابيين دون انتظار عودتهم الى بلدانهم.
ويرى الخبراء أن روسيا تهدف من ضربتها في سوريا إلى توجيه رسائل حازمة إلى قوى المعارضة السورية بأنّها عازمة على الدفاع عن حليفها بكل الوسائل بما فيها القوّة العسكرية، وكذلك إلى دول العالم الغربي بأنّها لا تقبل بالمشاريع الرامية لفرض أيّ شروط مُسبقة قبيل انطلاق أية محادثات تسوية، مثل تنحّي الرئيس بشار الأسد كشرط مُسبق أو ما شابه، وبموازاة دعم حليفها السوري، لم تتردّد روسيا في رفع دعمها لحليفها الإقليمي الثاني المُتمثّل في إيران.
لذلك سارعت الولايات المتحدة وفرنسا في التشكيك بطبيعة المواقع التي استهدفتها الضربات الجوية الروسية في سوريا، وما إذا كانت تابعة لتنظيم داعش أم للمعارضة، بينما رأت بريطانيا أن التحركات الروسية لا تتوافق مع التنفيذ الفعال للحرب على تنظيم داعش، وقال وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر، إن ما تقوم به روسيا محكوم بالفشل وغير بناء، ورجح ألا تكون الضربات الجوية الروسية استهدفت تنظيم داعش خلافاً لما أعلنته موسكو.
من جهته، قال وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، إن بلاده عبرت عن قلقها البالغ إذا ضربت روسيا مناطق ليست فيها أهداف لتنظيمي الدولة والقاعدة، ورأى أن (أية ضربات من هذا النوع ستضع علامات استفهام حول نوايا روسيا الحقيقية، وهل هي القتال ضد تنظيم الدولة أم حماية نظام الأسد)، غير أن البيت الأبيض كان أكثر حذراً في تعليقه على الموضوع نفسه، معتبراً أنه من المبكر تحديد المواقع التي استهدفتها الغارات الروسية.

الانسحاب الروسي من سوريا
بعد مضي أكثر من سبعة أشهر على التدخل الروسي المباشر في سوريا، قررت روسيا سحب جزء من قواتها الموجودة في سوريا، إذ يعود التدخل الروسي المباشر إلى إعلان الكرملين في أيلول عام 2015 منح الرئيس (فلاديمير بوتين) تفويضاً بنشر قوات عسكرية في سوريا، بناءً على طلب الرئيس السوري (بشار الأسد) المساعدة العاجلة من موسكو، فأرسلت الأخيرة عدة آلاف من الجنود والطائرات المقاتلة والأسلحة الأخرى، واشتركت فعلياً في القتال الدائر ضد المجموعات المتشددة في سوريا، إذ أعلن الرئيس الروسي عن رغبة بلاده في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا، داعياً لتشكيل تحالف حقيقي (سوري، عراقي، إيراني، روسي)، وموجهاً الاتهام للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب وبعض الدول العربية (بتغذية الإرهاب).
وأعرب كاراغانوف عن تأييده لقرار الانسحاب من سوريا، وأشار إلى أن روسيا باقية هناك وتستطيع أن تقصف كل من تعتبره طرفاً إرهابياً.
ونوه بأن القرار عزز موقف روسيا في العالم، ولكنه لن يؤدي إلى تحسين العلاقة المتدهورة مع الغرب الذي يحتاج أكثر من روسيا إلى وجود «عدو». والغرب أخذ يعتاد بالتدريج على أن روسيا ستتصرف كما ترى مناسباً، لكي تدافع عن مصالحها.
أما إيفان كراستيف، رئيس مركز الاستراتيجيات الليبرالية في صوفيا والباحث العملي في معهد الدراسات الإنسانية بفيينا، فيرى أن روسيا نجحت في تحقيق الكثير، لتعلن نفسها كلاعب قوي جداً في ساحة الصراع السوري.
ونوه كراستيف بأن الرئيس بوتين أدرك، وعلى مدى السنوات الثلاث الأخيرة، أهمية المفاجآت، وأخذ زمام المبادرة بيده. ولذلك، بدأت العملية في سوريا، في وقت لم ينتظرها فيه أحد، وكذلك حدث الانسحاب. لقد فازت روسيا بكثير من الغموض الذي أحاطت سياستها به.

كيف يجب أن نوقف الحرب في سوريا؟ 
عندما يكون الخطر داهماً، وتهدد المجتمعات بوحدتها وتفككها، يتم اللجوء الى ماضي هذه المجتمعات، والتنقيب عن الأسباب التي أوصلتها الى حافة الهاوية والتدمير. قد تكون الدراسات المطروحة على كثرتها غير كافية، أو ربما لم تصب كبد الحقيقة، وربما تداخل الفكر رغبات سياسية أو مصلحية، فحولت الحقائق الى ملاحظات، واهتمت أكثر بالأشياء الثانوية، وقدمتها على أنها الأساس.